منذ بداية اجتياح مدينة رفح جنوبي قطاع غزة في السابع من مايو/أيار الماضي، ركّز جيش الاحتلال على السيطرة على محور صلاح الدين (فيلادلفيا) الفاصل بين قطاع غزة ومصر، وهو الذي يزعم الاحتلال منذ سنوات طويلة أنه يمثل شريان الإمداد للأذرع العسكرية للمقاومة الفلسطينية، من خلال تهريب السلاح والمواد المتفجرة وما يلزم لعمليات التطوير.
يثير التوترات مع مصر
وخلال العملية البرّية التي تتواصل في رفح للشهر السادس على التوالي، قامت قوات الاحتلال بالسيطرة على معبري رفح وكرم أبو سالم من الجانب الفلسطيني، علاوة على الشريط الحدودي مع مصر، إذ باتت قوات الاحتلال تتحرك في محاذاة السياج الحدودي. ولجأت قوات الاحتلال إلى اتباع سياسة نسف المنازل والبيوت القريبة من المحور، فيما عمدت إلى إنشاء نقاط رقابة عسكرية وخطوط اتصالات وهندسة وإنشاء طريق برّي طويل يربطه بالأراضي المحتلة عام 1948 لتسهيل مهمة دخول القوات إلى محور صلاح الدين والخروج منه باعتباره منطقة حدودية بين غزة ومصر.
وعمد جيش الاحتلال إلى إنشاء طريق برّي طويل يربط المحور بالأراضي المحتلة عام 1948.
ورغم المزاعم التي أطلقتها المستويات السياسية في الاحتلال بشأن الحدود مع رفح، إلا أن الكثير من الأنفاق التي روّج الاحتلال لوجودها تعود إلى ما قبل عام 2014 قبل إغلاق الأنفاق وجميعها مغلق وغير مستخدم بعد سلسلة من التفاهمات التي جرت بين حركة حماس والسلطات المصرية خلال الأعوام السابقة والتي نصّت على ضبط الحدود.
وبحسب لقطات تمّ رصدها لمدينة رفح من قبل الأقمار الاصطناعية، فإن حوالي 40% من مدينة رفح لم تعد موجودة، حيث تمّت تسوية المباني بالأرض بشكل كامل، فيما تضررت الكثير منها بشكل جزئي وبليغ على مدار الفترة الماضية.
ووفقاً لتفاصيل ومعطيات ميدانية، فإن العمليات الإسرائيلية في محيط محور صلاح الدين تسببت في تدمير مخيم يبنا، وهو أحد أشهر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في مدينة رفح، علاوة على تدمير عيادات صحية ومدارس حكومية وأخرى تتبع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وسط استمرار في عمليات النسف للمربعات والأحياء السكنية في المدينة.
وقبل مايو 2024، حذّرت عشرات الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة، "إسرائيل" من شنّ عملية برّية عسكرية في رفح بسبب تكدس النازحين، فيما كانت الإدارة الأميركية برئاسة جو بايدن تتحدث عن عملية محدودة، غير أن العملية استمرت وتواصلت لشهور طويلة، دون أي أفق بانسحاب إسرائيلي من محور صلاح الدين الحدودي الفاصل بين غزة ومصر.
الوقت ذاته، فإن الكثير من المستويات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية ترى أنه لا حاجة للبقاء في محور صلاح الدين نظراً للتوتر في العلاقة مع مصر خلال الفترة الماضية التي تبعت السيطرة على المحور، بالذات في ما يتعلق بالشريط الحدودي.
أبعاد تكتيكية واستراتيجية
يرى مدير مركز عروبة للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، أحمد الطناني، أن جيش الاحتلال يعمل وفق مسارات متعددة، تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد التكتيكية الآنية المرتبطة بتأمين القوات العاملة داخل المحور من أي هجمات مستقبلية، خصوصاً في حال اضطر جيش الاحتلال إلى إعادة جزء من سكّان رفح إلى مناطق سكنهم، إذ إن العملية العسكرية في مدينة رفح ستنتهي يوماً ما، ولن تكون السيطرة العسكرية على كامل جغرافية رفح جزءا من المخطط.
وأضاف الطناني، أن وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي المقال يوآف غالانت تحدث عن وجود خطة لتقسيم رفح إلى قسمين، ما يعني أن القسم الجنوبي منها سيكون ضمن المنطقة العازلة التي يجري إنشاؤها الآن بعملية التسوية الواسعة للمساكن المطلة على محور صلاح الدين الحدودي، فيما سيُسمح بعودة سكان الجزء الشمالي من المحافظة. وأوضح أنه على النحو الاستراتيجي، يستعد جيش الاحتلال للتعامل مع كل السيناريوهات، بما فيها الاستعداد لتحويل ما أعلنه قادة "الجيش" سابقاً حول القدرة على الانسحاب والعودة إلى محور صلاح الدين متى احتاج الأمر.
ووفق الطناني، فإن الأمر يتطلب تحويل منطقة المحور إلى منطقة خالية من السكان ومهيأة عملياتياً لأن تجري فيها عمليات مراقبة عن بعد وبالوسائل التكنولوجية، دون أن يشكل الوجود العمراني والسكاني الفلسطيني عائقاً أو ستاراً يمكن أن يسمح بإعادة تشكيل بنية تحتية مفترضة للتهريب عبر الحدود، إضافة إلى أن هذه المنطقة العازلة ستسمح بحركة سلسة لجيش الاحتلال في حال تقررت العودة إلى محور صلاح الدين إذا تمّ الانسحاب منه ضمن أي اتفاق مع المقاومة.
وأشار الطناني إلى أن قادة الاحتلال يدركون أن البقاء في محور صلاح الدين قد يخضع لضغوط كثيرة في ظل الضغط المصري وعدم الموافقة الدولية على استمرار الوجود الإسرائيلي، أو حتى المقترحات الأميركية التي نصّت على خفض هذا التواجد، وكلها تحتاج إلى أن يكون جيش الاحتلال جاهزاً للانتقال لأي سيناريو من هذه السيناريوهات بسلاسة دون الاضطرار للوقوع في متاعب عملياتية قد تنشأ عن أي خيارات مقبلة.
ورقة ضغط
إلى ذلك، رأى الكاتب والمحلل السياسي إياد القرا، أن ما يجري في مدينة رفح وتحديداً الشريط الجنوبي من المدينة، حوّله الاحتلال من ورقة تفاوض مع المقاومة وحركة حماس إلى ورقة ضغط قد يستفيد منها في وقت لاحق، إلى جانب إمكانية ابتزاز الجانب المصري في ما يتعلق بالشق الأمني على طول هذا الشريط.
وقال القرا، إن الاحتلال لا يثق بالجانب المصري ويريد تعزيز الوجود الأمني في المنطقة الحدودية حتى لو تم التوصل إلى اتفاق في أي مرحلة من المراحل، لافتاً إلى أن كل المؤشرات تدل على أن هناك رغبة من قبل جيش الاحتلال بالانسحاب من المحور وأن الجانب المصري يقوم بإجراءات تمنع عمليات التهريب.
وأضاف أن مؤسسة جيش الاحتلال تدرك أن استمرارها في تلك المنطقة يوفر إمكانية لتوتر أمني دائم وهو أمر مزعج من الناحية العملياتية بالإضافة إلى حالة الإزعاج والتوتر مع الجانب المصري، علاوة عن تحول المنطقة مع الوقت إلى ساحة توتر مع المقاومة الفلسطينية، لا سيما وأن الوجود الإسرائيلي في تلك المنطقة سيحول جنوده إلى أهداف ثابتة.
وأعرب القرا عن اعتقاده بأنه في حال استمر وجود الاحتلال في محور صلاح الدين الحدودي، فإن الساحة الجغرافية هناك ستتحول إلى منطقة اشتباكات مع المقاومة الفلسطينية بشكل مستمر، فيما ستبقى الفصائل متمسكة بضرورة الانسحاب الإسرائيلي من محور صلاح الدين ومحور نتساريم وسط القطاع.
ووفقاً للكاتب والمحلل السياسي، فإن حالة الخشية الفلسطينية موجودة وقائمة من أن تتحول هذه الورقة من أداة ضغط تكتيكية إلى ورقة ضغط مستمرة على المقاومة، في سياق ما يتحدث رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو عنه من إبقاء السيطرة الأمنية على القطاع أو إبقاء هذه المناطق سهلا التحرك فيها باعتبار أنه أوجد البنية التحتية في أي وقت لاحق حتى لو توصل إلى اتفاق مع المقاومة.
من جهته، أعرب الباحث في الشأن السياسي محمد الأخرس، عن اعتقاده، بأن عمليات جيش الاحتلال والنسف والتدمير في منطقة رفح وتحديداً الجنوبية منها، تستهدف تأمين القوات الإسرائيلية، في ظل تمسك المستوى السياسي بالبقاء في منطقة محور صلاح الدين ورفض كل المحاولات الأمنية والعسكرية للانسحاب منه خلال الفترة الماضية.
وقال الأخرس: إن هناك حالة تباين واضح بين المستويين السياسي والأمني في ما يتعلق بالبقاء داخل القطاع، فبعض الشخصيات القيادية تريد البقاء حتى الحكم العسكري لا سيما الأحزاب اليمينية، فيما يريد الجيش الانسحاب من القطاع على اعتبار أنه استكمل مهمته العسكرية ولم تعد هناك حاجة للبقاء. وأشار إلى أن الجيش الإسرائيلي سبق له أن تراجع عن خطة تحمل اسم "خطة المحيط" والتي تستهدف البقاء في القطاع أطول فترة زمنية وتحديداً محور نتساريم، بسبب حالة الاستنزاف الحاصلة مع المقاومة الفلسطينية وصعوبة البقاء دون تأمين.
المصدر: "العربي الجديد".