تقرير محكمة العدل الدولية واستبضاع الجاهلية..!

الساعة 10:55 م|05 فبراير 2024

فلسطين اليوم

نكاح الاستبضاع هو نكاح انتقائي مؤقت كان الرجل في الجاهلية يدفع زوجته إليه من خلال معاشرة رجلٍ آخرَ فيه من الصفات ما تَستحسنه النفوس وتَطمَح إليه، كأن يكون نابغاً في الشعر أو فارساً هُماماً في الحرب، فيُرسل الرجل زوجته إليه، ويقول لها: اذهبي إلى فلان، فاستبضِعي منه؛ أي: مَكِّنِيه من نفسك؛ رغبةً منه في الحصول على مولود يَحمل الصفات الوراثية الشعرية أو البطولية، أو غير ذلك، ثم بعد أن تُمكِّن المرأة نفسَها من الشخص النموذجيِّ الذي وقع عليه الاختيار، واستقرَّت عليه الأنظار، تعود إلى زوجها ولا يَقرَبُها حتى يَظهر حملُها. وبعد أن تلد، ينسب الزوج هذا الطفل إليه رغبة منه في تحسين النسل، وهي عادة من عادات الجاهلية التي نبذها الإسلام وحرّمها.
ولسنا هنا لنقاش الموقف الانساني أو الديني من إشباع هذه الغريزة، إنما نحن بصدد "النفس" التي تستسيغ هذا النوع من النكاح بالذات، إذ يتبدى فيه إقرارٌ وارتضاءٌ مَقيت بالدونية والقصور أمام نموذج البطولة أو القوة التي تمثلها الجهة التي تقصدها الزوجة المُستبضِعة بهدف تحسين "السلالة والنوع"، باعتباره طريقاً مُقزِّزاً تَشمئزُّ وتَنفِر منه النفوس التي تملِك مثقال ذرة من الحياء والغَيرة والكرامة؛ ولعل هذا ما يدفعنا إلى هذه المقاربة "الغريبة"، بين سلوك المُستبضع الجاهلي وسلوك العرب الرسميين فيما يخص اللجوء إلى محكمة العدل الدولية طلباً للمَنَعة والحماية. 
فالشاهد في الحالتين نِسبة "الناتج" إلى غير "أهله الفعليين"، فلا مولود الاستبضاع يخص الزوج، ولا تدابير محكمة العدل المنشودة يعود الفضل فيها للعرب. ولعل الفارق الوحيد في الحالتين هو أن جَنين الاستبضاع سيمضي، على الأرجح، في تكوينه من المُضغة إلى العلقة ثم يُكسى لحما، بينما "جَنين" العدل الدولية أجهضته "إسرائيل" ولما لم يزل نُطفة لم تصل بعد إلى القرار المكين. 
في الواقع تنتابنا مشاعر مختلطة تجاه تدابير العدل الدولية، فمن منا لا يود أن يرى "إسرائيل" في قفص الاتهام، وبالتأكيد فإننا نرحب بكل خطوة وبأي منبرٍ ينتصر لمظلوميتنا ويسعى لإنزال "إسرائيل" عن شجرة غرورها وغطرستها، ويضعها تحت القانون لا فوقه كما اعتادت أن تفعل، وما تزال.   
لكن للأسف، حين نرهن إرادتنا ومُقدّراتِنا بيد عدونا نرتهن له، وحين يَنقَضُّ علينا أو على بعضنا، نقف عاجزين ونهرب لتعويض عجزنا إلى "إنجاب أطفالٍ غير بيولوجيين" لا يخصوننا، ثم نتباهي بذلك وكأنه إنجاز عظيم، ونهلل وننفخ فيه. والخطورة هنا ليست في الارتهان ولا في التباهي فقط، بل في أننا، بخلاف زوج الاستبضاع الذي يرى نفسه دنيئة قاصرة، لدينا 470 مليون عربي، و 6 مليون جندي نظامي، وآلاف الطائرات العسكرية، وعشرات آلاف الدبابات، ثم نعجز عن إدخال قارورة ماء لقطاع غزة المذبوح، ونهرول "للعدل الدولية" علّها تفعل نيابةً عنا. وليتنا حَظينا "بشرف الهرولة"، فلسنا نحن من جرّ "إسرائيل" إلى العدل الدولية، ولو ظل الأمر منوطاً بنا لربما قلنا: "لغزة ربٌّ يحميها"، ولَمَا كلفنا أنفسنا عناء الحديث في الأمر أصلاً، لكن وبما أن الأمر تم، فلِمَ لا نلعب دور الكُمبارس وشاهد الزور ثم نُسحّج ونضحك كالبلهاء. ورغم ذلك استكثرت "إسرائيل" علينا هذه الفُسحة "البلهاء" من الفرح، فخرج إعلامها ليصدمنا قائلاً للمتوهمين النافخين في قرار العدل الدولية: "إن ما شهده العالم كله اليوم هو محكمة كان يجلس فيها ممثلو أفضل الدول، الذين لم يجدوا سبباً لإصدار أمر بوقف إطلاق النار، وبالتالي إعطاء "ضوء أخضر" دولي واسع النطاق بحكم الأمر الواقع لاستمرار الحرب لتدمير حماس، وهذا ليس شيئاً يمكن الاستهانة به".
نعم، لا يمكن الاستهانة به، ولأننا أستهنا سنستمر في المعاناة لأننا ببساطة عاجزين مسلوبي الإرادة، مستسلمين لسلطان "الاستبضاع" السياسي، الذي يرهن إرادتنا ويرسلها "لتستبضع" علها تعود بحملٍ يبشر بشيء من الكرامة!. هي والله طامة تُحاولُ تأصيلَ نفسها كنسقٍ يأخذ حُكم العادة والعُرف ويفسدَ علينا حياتنا وكرامتنا أو ما تبقى منها، مع ما يصاحبها من تبدّلٍ في القيم والمفاهيم، ومن تحولاتٍ كبيرة في شتى مناحي الحياة العربية، خاصة فيما يتعلق بأدوات الصراع الجديدة. 
إن مسار "الاستبضاع" الذي يسوقنا إليه النظام العربي الرسمي سَوقاً، يُضعِفُ روح المواطنة ويؤدي إلى انقسام الهوية والتباس الوعي الاجتماعي والإحباط النفسي لدى غالبية أبناء المجتمع العربي، زد على ذلك، التباسٌ في مفهوم الهوية الجمعية، فما تشهده غزة اليوم هو جزءٌ من نرجسية "الأنا" ومتوالياتها بما تحدثه من اختلالٍ في منظومة القيم، وبما قد تُهيئه من مناخاتٍ لذبحنا واحداً تلو الآخر.
يدرك الجميع معنى القوة والإرادة وأهميتهما في تكوين العالم الذي نعيش فيه اليوم، وعربياً، لم تَعُد كثير من الأنظمة العربية، مستعدةً لاستمرار استخدام المفاهيم القديمة للتعبير عن العلاقة السائدة بين "إسرائيل" من جهة والعرب من الجهة الأخرى، بل تسعى لترسيخ إطارٍ سياسي يتوافق مع "مُقتضيات مرحلة الاستبضاع" التي يُراد لنا أن نُرتهن إليها، من خلال تغيير المصطلحات والمفاهيم الأخلاقية الوطنية والسياسية التي كانت سائدة، كَمثلِ "الكفاح المسلح"، و "المقاومة"، والعمل الفدائي"... واستبدالها بمصطلحاتٍ من نوع "اشتباك سياسي" و "قانوني إنساني دولي" و "إحراج العدو" و "هيئات ومنابر دولية"...وغيرها. 
هذا التغيير الذي طرأ يعني أن هذه "الأنظمة" لا تريد ولم تعد قادرة على مواجهة "قضايا صراع عسكري" ناتجة عن "نزاعٍ حول الأرض"، بل تريد أن تزرع في وعينا أننا أمام حالة تُدرك التداعيات "الإقليمية والعالمية" لموقفها ومدى خطورته، حيث يأتي تعظيم سلوك "الانبطاح" والتهليل له بهدف تطويع المجتمع وإقناعه بمواجهة الحقيقة وتقبُّلِ الواقعِ كما هو لتحقيق المصالح الفعليّة لهذه الأنظمة، وهو ما تحتاجه لتمضي قُدماً في مشروعها. والأهم أنها لا تأتي عفويةً، بل مقصودة، وفي الواقع فإنها تعبيرٌ عن العجز التام الذي أصابها، فيما يغلب عليها اندفاعها إلى تبرير العجز الذي يطوقها "بالتهليل والتطبيل".
وحسبَ علماء النفس، فإن الشعورَ بالعجز أو الفشل أو التقصير يسببُ ألماً شديداً للذات، فيتجه العقل إلى البحث عن مبرراتٍ لما حدث ليخفف عن نفسه الشعور بالألم الذي يحُسه نتيجة ما بدرَ منه من تقصير أو عجزٍ أو فشل. أحيانا قد تبدو بعض التبريرات مقبولةً، وربما تنطلي على السامعين فيبتلعوها، لكنها في أحيانٍ كثيرةٍ لا تكون كذلك، فبعض التبريرات تبدو مُحلَقةً بعيداً فيتعذّرُ ابتلاعها.
وقد لا يكون التبرير وحدهُ كافياً لتخفيف وقعِ ألم الشعور بالعجز على الذات، فيتجه الإنسان إلى البحث عن البدائل التي تُعوّضُ ما عَجزَ عن تحقيقه، كقول أحد العشاق الذي لما عَجِزَ عن لقاء الحبيبة، فألتفت إلى نفسه يعزيها بامتلاكه بدائل تجعل ما فات عليه تحقيقهُ غيرَ ذي أهمية:
أليس الليل يـجـمـع أم عمرو وإيانا، فـذاك لنا تــدانــي ** وأرى الـهلال كما تراه ويعلوها النهار كما علاني
هذه البدائل وإن بَدت كاذبةً إلى حدٍ يدفعُ إلى الضحك منها، إلا أنها تَمدُ صاحبها بالشعور بالراحة، فها هو يقنع نفسه أنه سعيدُ الحظ طالما أن ليلاً واحداً يُظله والحبيبة، ونهاراً واحداً يُشرق عليهما معاً، وقمراً مشتركاً بينهما تتعانق عيونهما في تأمل جَمالِهِ...بالضبط كما هو حالنا مع العدل الدولية وتدابيرها.!
التبرير هو نوع من المقايضة مع الذات، يقوم الإنسان فيه بخداع ذاته والكذب عليها ومغالطتها حتى ترى الأشياء والمواقف باللون الذي تُحب، وفي مقابل ذلك تَمنَحُهُ الشعور بالراحةِ والرضا. ورحم الله المتنبي إذ قال: "أن الحياة لا تصفو إلا لمن يُغالط في الحقائق نفسه".
وفي الختام، ينبغي ألا يؤدي بنا هذا الارتهان والعجز واستبدال الإرادة والبندقية بـ "العدل الدولية" إلى اليأس، بل هي لحظة وضوحٍ أخلاقي كاشفٍ سافرٍ، وخطوةً في مسيرةٍ طويلة يحرّكها الأمل.

بقلم: محمد هلسة