اصطف الناس على حائط جامعة الأقصى واضعين أيديهم فوق رؤوسهم، بأوامر جنود الاحتلال الصهيوني، كان نجيبسالم صادق وهو شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، وحتى نكون واضحين اكثر "متخلف عقليًا" لا يكاد يعرف أن ينطقاسمه بشكل صحيح، ويتحدث بصعوبة كبيرة, كان بصحبة شقيقته زينب، وعندما اقتحم الجيش النازي جامعة الأقصىغرب خانيونس والتي تأوي آلاف النازحين الفلسطينيين، فصل الجيش الرجال عن النساء وكانت زينب تحث أخيها أنيذهب مع الرجال حتى لا يتعرض لنيران الجنود الصهاينة.
اصطف نجيب على الحائط وهو لا يدري ما الذي يحدث، فهو لا يعرف هؤلاء الجنود الاغراب عنه ولم يرهم في حياته، طلبأحد الجنود من الرجال المصطفين وضع أيديهم فوق رؤوسهم، فهو بجبنه وخوفه الذي يعشعش داخله، يخشى أن يباغتهاحد بطلقة او طعنة. لم يعرف نجيب ما يقوله الجندي لذلك لم يرفع يده فوق رأسه، كرر الجندي صراخه على الجميع دونأن يفهم نجيب ما يقوله ذلك الجندي المرعوب، اقترب منه احد الجنود غاضبا وصرخ فيه "تريم تروش" أي ارفع رأسكفصرخت اخته زينب التي كانت تراقب الحدث بصوت عال انه "متخلف عقليًا"، لم يلتفت لها الجندي الحاقد المليءبالخوف والفزع والجبن، لقد كان صوت الرصاص المتفجر اعلى من صوتك يا زينب وقد وضع الجندي المذعور فوهةالبندقية على ذقن نجيب ورفع بها رأسه الى أعلى وأطلق الرصاص على عنقه، فخر نجيب على الأرض وهو يردد دم .. دم.. دم, فنجيب كان ومنذ صغره يرعبه منظر الدم, ويهرب عندما يرى أحدًا يسيل منه الدم, وكأنه كان يعرف أنّه سيكون علىموعد مع الدم, وأنّ دمه الزكي سيسال على يد جنود الاحتلال, لذلك كان يخشى ويكره منظر الدم.
لفظ نجيب أنفاسه الأخيرة دون بكاء او نحيب، وأسلم روحه الطاهرة لله، وبقى ذاك الجندي ينظر إليه شامتًا وكأنه حققإنجازا بقتله، وأخذ يهدد ويتوعد كل من لا يلتزم بالأوامر ان يكون مصيره كمصير نجيب، وبقيت جثة نجيب مسجاة علىالأرض أياما عديدة والجنود لا يسمحون لسيارات الإسعاف نقل الشهداء والجرحى من المكان. وهو الجيش الوحيد فيالعالم الذي لا يسمح بنقل جثث الشهداء أو نقل الجرحى للمستشفيات لأنه فوق المساءلة ولا يخضع لقوانين أو مواثيق،ولا تلزمه اتفاقيات أو أعراف.
ويخرج رئيس وزراء الاحتلال المجرم بنيامين نتنياهو ليصف جيشه بأنه الأكثر أخلاقية على مستوى العالم, وانه يلتزمتماما بقوانين الحرب، رغم أن عدد الشهداء والجرحى والمفقودين تجاوز المائة الف حتى الآن والمهجرين نحو 2 مليونو70% من الشهداء من النساء والأطفال.
نجيب ولد بصفحة بيضاء ناصعة البياض لأنه مرفوع عنه القلم, ورحل عن عالمنا بصفحة بيضاء ناصعة البياض لكنهتوج بالشهادة، وهي أعلى وسام رباني لعبد من عباده المسلمين. لم يجد نجيب من ينتحب عليه، ولم تدمع العيون لأجلهلان الدموع تجمدت في المقل واصبح الموت عادة، وكلنا نقف على قارعة الموت. فقد يباغتنا في أيّة لحظة ويكون مصيرناكمصيره، لكن أمّه المكلومة والتي كان نجيب بعيدًا عنها أصيبت بالعمى، ووالده لا يعرف أحد مكانه! ولم يستطع أحد أنيتواصل معه لانقطاع وسائل الاتصال في قطاع غزة. أمّا شقيقه محمد فهو أيضًا لم يُعرف مكانه هل هو برفقة والده، أنفي ملجأ من ملاجئ الإيواء.
إنّن استشهاد نجيب يلخص الحال الذي نعيشه اليوم في قطاع غزة، أسر بأكملها تفرقت، منها من استشهد أبناؤها،ومنها من فنيت تمامًا، ومنها من لا يعرف مصيرها. جثث ملقاة في الشوارع لا يستطيع احد الوصول اليها، والعدوانالصهيوني بأبشع صورة لا يمكن أن تقارنه بنازية هتلر، ولا فاشية موسوليني، ولا بربرية هولاكو، ولا همجية التتار، لقدفاق الاجرام الصهيوني كل حد، ولا يكاد يتصوره عقل، فكل من يعيش في قطاع غزة، اصبح ينتظر لحظة الموت, ومتىسيداهمه؟ وهل سيجد من يدفنه؟ أو سيترك في العراء لأيام حتى تنهشه الكلاب الضالة؟ أم سيدفن في قبر جماعي؟ امسيقضى تحت انقاض منزله الذي هدم فوق رأسه هو وافراد عائلته.
أوضاع صعبة ومأساوية لا يمكن وصفها على المستوى المعيشي والاقتصادي والإنساني، وقصص كثيرة تسمعها لايتخيلها عقل، ولا يمكن ان تصدقها وانت في القرن الواحد والعشرين. جيش منفلت تمامًا تملأه الأحقاد والغل والكرهوالعنصرية، ويمتهن القتل ويسعده ذلك، يحتفل جنوده بتدمير المنازل، ويتراقصون على جثث الشهداء، ولا يخشونعقوبات دولية ولا إدانات إسلامية ولا استنكارات عربية لسلوكهم الشاذ.
وقد منحتهم محكمة الجنايات الدولية في لاهاي فرصة جديدة للقتل وسفك الدماء، عندما رفضت أن تخرج بقرار الزام"إسرائيل" بوقف العدوان, أعطتهم مهلة شهر للاستمرار في القتل وارتكاب جرائم الحرب، والشهر سيتبعه عدة اشهر. وقرار الإدانة وإلزام "إسرائيل" بوقف الحرب، هو قرار مسيس مرتبط دائمًا بالإدارة الامريكية والمجتمع الدولي اللذانيمنحان "إسرائيل" الضوء الأخضر للاستمرار في العدوان بكل أريحية، فالفيتو الأمريكي حاضر دائما لحماية"إسرائيل" واذا كانت كلمة واحدة فقط "فيتو" قادرة على وقف أي ادانة لها. فاعلم أن هذا العالم تحكمه شريعة الغاب،ويخضع لقانون البقاء للأقوى, وان محكمة لاهاي في الباي باي، لأنها أضعف من "إسرائيل" وتديرها الإدارة الامريكيةبقوتها الغاشمة.
رغم كل هذا الاجرام الغير مسبوق في عصرنا الحديث، إلّا أنّ الشعب الفلسطيني وتحديدًا في قطاع غزة, لا زال قادرًا علىالصمود والمواجهة, ولا زال يملك من الإرادة ما يستطيع أن يجابه به مخططات الاحتلال بالتهجير القسري للفلسطينيينفي قطاع غزة. هدموا 80% من منازل الفلسطينيين في قطاع غزة لإجبارهم على الهجرة، لكنهم ما زالوا متمسكين بالبقاءفوق أرضهم, ويأبون تكرار نكبة ال 48م, ولا نكسة ال 67م، وبات الموت لدى الفلسطينيين خيارًا سهلًا ومتاحًا أمام هذاالاجرام الصهيوني الذي يحدث، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا. لكن الأقسى دائما على الفلسطيني هوالشعور الذي يسكنه دائما انه بات وحيدًا، لم يجد من ينصره أو يقف الى جواره في حرب الإبادة الجماعية التي يتعرضلها. غابت أصوات الزعماء، كما غابت أصوات العلماء، توارت الشعوب خلف ضعفها واستكان الجميع في مراقبة لمايحدث في قطاع غزة، وكأن غزة تركت وحدها لتلقى مصيرها. انهم يصفقون لغزة ومقاومتها عندما يرون بسالتها فيالدفاع عن نفسها، وكأن غزة باتت قوة نووية او تملك ترسانة عسكرية توازي "إسرائيل" والإدارة الامريكية، وهذا اسمه"تواكل" وخذلان وخيبة امل تصيب شعب بكامله. فنحن نعيش زمن لا يستطيع فيه عالم من علماء الدين أن يقف في وجهسلطان جائر ليقول له اتقي الله، هناك شعب يباد, فاذا كان الجبن والخوف قد أصاب العلماء وهم ورثة الأنبياء فما بالنابالشعوب التي لم تجد من يقودها للدفاع عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم!
لكننا على يقين أن الله عز وجل سينتقم لنجيب الذي لم يقترف ذنبًا في حياته وأمثاله من الشهداء الفلسطينيين من ذويالاحتياجات الخاصة وهم كثر، وسينتقم لأطفالنا الأبرياء. فالنصرة ننتظرها من عند الله عز وجل وليس من عند البشرواذا كان قدرنا ان نموت فإن يقيننا ان وعد الله لن يموت. والله عز وجل قال في كتابه العزيز "فاذا جاء وعد الاخرة ليسوؤاوجوهكم, وليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا" صدق الله العظيم.