تقرير نتنياهو: ما أُريكم إلا ما أرى!

الساعة 12:43 م|26 يناير 2024

فلسطين اليوم | محمد هلسة

محمد هلسة - القدس المحتلة 
في صيف عام 1996، خطى بنيامين نتنياهو خطواته الأولى نحو كرسي رئاسة الوزراء. واليوم، يُتم بالفعل 17 عاماً في منصبه رئيساً لوزراء "إسرائيل"، أثبت خلالها أنه يتلاعب بالجميع، ويقدم اعتباراته الشخصية على أي شيء آخر، ويستبعد احتياجات "الدولة" لمصلحة احتياجاته الشخصية ليتمكن فقط من البقاء في السلطة، فكيف يُصبح رجلٌ خاسر فاشل ملاحق بتهم الفساد والرشوة "الحامي والمُخلّص"؟ وكيف يمكن لشخص واحد أن ينجح إلى هذا الحد في البقاء على قيد "الحياة السياسية"، في واقع سياسي مضطرب مربك، في مواجهة كل ما يعصف به؟

يبدو أن نتنياهو لا يزال، ما لم يثبت خلاف ذلك، قادراً على إدامة أمد هذه الحرب أطول قدر ممكن، وقادراً كذلك على إحباط الاحتجاجات التي تعترض طريقه، بما يمنع نزول الحشود الساخطة إلى الشوارع، وهو يعلم أنها وحدها لديها المقدرة على وقف الحرب وإطاحته وإطاحة حكومته، وهو يعلم أن "قبضة يد واحدة" أقوى من 10 أصابع منفردة، فالأصابع الضعيفة المتفرقة ليس لها قوة. وعندما لا يكون هناك متظاهرون غاضبون، يمكن لنتنياهو أن يمضي في مساره بارتياح، وأن يستمر في المراوغة.

في الواقع، لا يوجد لغاية هذه اللحظة أشخاص ساخطون بشكل جارفٍ في الشوارع، ولا توجد معارضة حقيقية له في الكنيست ولا في النظام السياسي، وكل الأصوات التي تعارض سرديته الحافلة بالتلفيق والكذب والتضليل خافتة خجولة لا تجرؤ على تحدي إرادته بالنزول إلى الشوارع وقيادة الحراك المحتج ومعاظمته، ولا تجرؤ كذلك على الخروج عن "إرث" مجتمعي إسرائيلي يطرب لصوت ضجيج طبول الحرب في المعركة، حتى عادت عليه بالويل والثبور. وبذلك، يستمر نتنياهو في بيع "الوهم" للإسرائيليين على أنه "انتصار". 

وبينما تشير استطلاعات الرأي (كانون الأول/ديسمبر 2023) إلى أن 15% فقط من الجمهور الإسرائيلي يعتقدون أن نتنياهو هو رئيس وزراء مرغوب فيه، فإنه يستمر في التسويق بأن "لا بديل منه"، فما سرّ صموده في مواجهة خسائره وخصومه والانتقادات الدولية المتعاظمة؟ وما الذي يمكن أن يقدمه هو وليس سواه للإسرائيليين؟ 

اليوم، وفي إثر نتائج السابع من أكتوبر، بات من الصعب قراءة صحيفة أو مشاهدة محطة إخبارية أو إذاعية دون سماع نتنياهو وهو يردد شعاره عن "مواصلة الحرب حتى الانتصار"، فعلامَ يتكئ في معاندته وإصراره على الذهاب في هذه الحرب إلى ما لا نهاية، رغم الأثمان الباهظة التي يتكبدها "المجتمع" الإسرائيلي في كل الصعد، ورغم الانتقادات الدولية المتصاعدة والموقف الأميركي المتململ؟ 

الواقع أن نتياهو تُحرّكه جُملة من الدوافع والاعتبارات في سلوكه المتغطرس هذا، أولها ذاتي مرتبطٌ بمصيره الشخصي قبل السياسي، فالرجل مُلاحقٌ بتهم الفساد والرشوة قبل السابع من أكتوبر، وقد شهدت "إسرائيل" منذ توليه رئاسة الوزراء، في الحكومة الحالية، احتجاجات جارفة على التعديلات القضائية التي قادها.

وتلاحقه كذلك مع أركان حكومته اتهامات الفشل الذي حدث في السابع من أكتوبر 2023، والذي لم تتوقف فصوله حتى اليوم، وهو يوقن أن وقف هذه الحرب يعني جره إلى المساءلة والمحاسبة على كل هذه الملفات، وربما تنتظره غرفة معزولة معتمة في سجن مسعياهو الإسرائيلي في مدينة الرملة، فكيف له أن يوقف الحرب وهذا المصير يتربص به!

أما العامل الآخر الذاتي كذلك، فهو مرتبطٌ بعقدة الغرور والاستعلاء وشعور العظمة الذي يعيشه الرجل بعدما مضى على وجوده في كرسي رئاسة الوزراء قرابة 17 عاماً، حتى إن صحيفة هآرتس كتبت قبل أيام "أن جيلاً كاملاً من الشباب الإسرائيلي لم يعرف سوى بنيامين نتياهو رئيساً للوزراء". 

ببساطة، يرى نتنياهو أن له من اسمه نصيباً، فهو "عطية الله"، كما يشير معنى الاسم بالعبرية، وهو الحاكم الأوحد في الكون بأسره، وكل ما سواه مؤامرة. وقد تجذرت صورة "بيبي الملك" في خطاب أنصاره من اليمين الإسرائيلي، وتعاظم في السنوات الأخيرة توصيفه بـ"ملك الملوك".

وما دام "ملكاً"، فيمكنه أن يفعل ما يشاء، ولا يمكن المساس به أو إجراء نقدٍ أو مناقشة عامة بشأن سلوكه. وبالنسبة إلى أولئك الذين يؤمنون به ويدعمونه، فحب "الملك" أهم بكثير لديهم من حب "المملكة" حتى لو قاد إلى إشعال النار فيها، كما يفعل نتنياهو اليوم.
وإن كان هذا ليس كافياً لمنع وقف الحرب، فوجود ائتلاف يميني صهيوني ديني يتكئ عليه في استمرار استقرار ائتلافه السياسي، ويتقاطع مع رغبته في استمرار الحرب، بل ويدفعه إليها، كفيل بمده بمزيد من أسباب إدارة الظهر والمعاندة. 

ولا شك في أن نتنياهو يطرب لحديث بن غفير المتكرر وتهديده "بأن وقف الحرب يعني تفيكك الحكومة"، وإن بدا أن ظاهره فيه التحدي، إلا أن باطنه فيه ما يعزز رغبته في أن لا تتوقف هذه الحرب. 
وثمة أمر آخر يتيح لنتنياهو هامش المناورة والهروب إلى الأمام، فرغم أن "إسرائيل" تتباهى بكونها "نظاماً ليبرالياً ديمقراطياً" شبيهاً بالأنظمة الأوروبية، فإنَّها ليست واحدة من تلك "الدول" حين يتعلق الأمر بثقافة تحمّل المسؤولية.
وعلى الرغم من الأخطاء والإخفاقات المتكررة التي ارتكبها قادة ومسؤولون إسرائيليون، والتي شُكّلت لها لجان تحقيق دانت الكثير منهم، فإنَّ ثقافة تحمّل المسؤولية لم تتجذر في "إسرائيل"، إذ يتجنب المسؤلون الإسرائيليون الاعتراف بمسؤوليتهم الشخصية، ويسعون إلى التهرّب وتحميل أطرافٍ أخرى المسؤولية ودحرجتها إلى "الغير" لإعفاء المستوى السياسي من مسؤوليته الشاملة، كما تبدّى من سلوك نتنياهو وأعضاء ائتلافه في انقضاضهم على الجيش وقيادته ومحاولتهم تحميله مسؤولية الفشل في السابع من أكتوبر وفي الميدان. 
بهذا المعنى، فإن نمط سلوك نتنياهو ووزراء حكومته في إثر الإخفاق نتيجة "طوفان الأقصى" وما تلاه من إخفاقات متتالية ليس جديداً ولا مستغرباً. ولعل أحد أسباب غياب تحمل المسؤولية في الحياة السياسية الإسرائيلية مرتبط بفهوم "حوكمة" الحياة العامة في "إسرائيل"، بمعنى أن رئيس الوزراء أو الوزير لا ينبغي أن يتحمل مسؤولية التقصير ما لم تُقرر لجنة تحقيق أو محكمة أنه "مذنب" ويجب عليه القيام بذلك. 
ويبدو أن الجمهور في "إسرائيل" يدرك صعوبة امتثال المسؤولين المنتخبين لهذه الثقافة، وتحديداً نتنياهو، في ضوء حقيقة أنه استمر في السنوات الماضية في منصبه على الرغم من تقديم لائحة اتهام ضده.
وثمة سرّ آخر لصمود نتنياهو أو "معاندته" التي يبديها، وهو مقدرته المذهلة على ترجمة عقيدة "إسرائيل الضحية" أو "التهديد الوجودي" إلى سياسة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الأمن، فنتنياهو هو الشخص الذي يتقن التلاعب للحفاظ على الوضع الراهن وحماية شعب "إسرائيل" من محيط التهديدات.
 الشعب اليهودي، وفق فلسفة نتنياهو، "محاطٌ بمخاطر وجودية جمّة قد تقوده إلى معسكر أوشفيتز مرةً أخرى"، وهو ما عكسه خطابه الأخير قبل أيام حين حذّر من أن المذبحة التالية بحق الإسرائيليين ستكون مسألة وقت إذا توقفت الحرب. وإذا توقفت الحرب، ستقوم دولة "الإرهاب الفلسطينية". وإذا توقفت الحرب، "فستضيع تضحيات جنودنا سُدى".
وبالتالي، فإن نتنياهو لا يصنع "صورته" و"رأسماله السياسي" من مقدرته على حل المشكلات، بل من تحويلها إلى "تهديدات وجودية"، فإن لم توجد، فإن عليه السعي باستمرار للبحث عنها، ومقارنته الفلسطينيين "بالنازيين" و"داعش" ليست من قبيل المصادفة، فهذه هي القوى التي تمثل الشر المطلق لمعظم الناس في العالم، ولا يوجد شيء للمناقشة والجدل حولها، وهي تشكل تهديداً، ليس "لإسرائيل" فحسب، بل للثقافة الغربية الحديثة أيضاً. 
والحل الوحيد الممكن لمنع انفضاض الناس عنه وسحب البساط من تحت أقدام خصومه هو "التضخيم" وتكثيف التهديد والتفزيع. وبالطبع، فإن نتنياهو هو الشخص "المناسب" للتعامل مع مثل هذه التهديدات في مجتمع أصبح "التهديد الوجودي" حجر الزاوية في وعيه. 
من الصعب الاعتقاد أنَّ الجمهور الإسرائيلي سيشهد تراجعاً لدى نتنياهو فيما يخص "سرديته" حول الحرب، في ظل سلسلة الإخفاقات المتتالية التي يُمنى بها هو وحكومته. ومن المستبعد أن يقوم هو أو أحدٌ من حكومته اليمينية بالدعوة إلى وقف الحرب.
 والظاهر أن المجتمع الإسرائيلي، وتحت وقع الأثمان الباهظة والخسائر الفادحة التي تُكبّدها له المقاومة في غزة وفي المحور المساند لها، بحاجة إلى "ربيع إسرائيلي" يقول فيه كلمته بطريقة لا لبس فيها، وعبر احتجاجات ميدانية جارفة، بأن نتنياهو وحكومته الفاشلة يجب أن يرحلوا إلى غير رجعة.