خبر الطفلة عائشة الهودلي ترفض ترك والدها منذ الإفراج عنه

الساعة 04:22 م|13 يونيو 2009

فلسطين اليوم – صحيفة الانتقاد

علت ابتسامة بريئة وجه عائشة بعد سماعها خبر الإفراج عن والدها الأسير وليد الهودلي من سجون الاحتلال، ولأول مرة لم تخب ظنونها عندما أرادت ارتداء ثوبها المفضل لتستقبل والدها به، فكم من مرة انتزع الاحتلال فرحتها بنية الإفراج عنه وأخلف وعده، وكم من مرة ارتدت ثوبها وانتظرته بشوق ولم يحضر.

وليس من الغريب أن تغمر عائشة كل تلك الفرحة بالإفراج عن والدها الذي اعتقل عام 2007، فهي تعلم أكثر من غيرها مرارة السجن وتغييب الأحبة، وإن كانت لم تتجاوز أعواماً قليلة من عمرها إلا أن الاحتلال لم يجنّبها تجربة الأسر هي الأخرى حين جمعها مع والدتها في زنزانة واحدة قبل عامين، حتى إذا تم الإفراج عنهما وجدا الوالد والزوج أسيراً لدى الاحتلال، وحرمت العائلة أن تجتمع لأعوام ماثلت عمر عائشة.

 

بداية الحزن

وتبدأ قصة هذه العائلة منذ اعتقال الأم عطاف عليان (46 عاماً) في 21 كانون الأول 2005، حيث تركت طفلتها وهي لم تكمل بعد عامها الثاني، وبعد عشرة أشهر من الاعتقال انضمت الطفلة إلى والدتها في الأسر بعد خوض الأخيرة إضراباً عن الطعام لإجبار الاحتلال على ضم ابنتها إليها بحسب قانون لديه يسمح للأسيرة بحضانة أطفالها حتى سن الثانية.

وبالفعل تم ذلك، ودخلت عائشة سجون الاحتلال كأصغر أسيرة في تاريخ فلسطين، لتحفر يومياته ذكريات لن تمحى من ذهنها مهما مرت السنون، ولكنها برغم كل ذلك سمحت للفرحة أن تدخل قلبها الصغير بسبب وجودها مع والدتها في غرفة واحدة مهما كانت الظروف المحيطة بهما.

وتقول أم عائشة عن تلك التجربة: "منذ إدخال عائشة إلي في السجن لم تتركني، وبقيت ملاصقة لي، شعرت أنها لم تصدق أنها قادرة على معانقتي أو التحدث إلي بحرية ودون قيود".

وبعد مرور ثمانية أشهر قررت الإدارة فصل عائشة عن والدتها وإعادتها لتعيش مع والدها مرة أخرى، لتعود إلى حالة الحزن على فراق والدتها وتتغير ملامحها نتيجة البكاء المتواصل.

زيادة القهر

وبرغم كل ما أصاب عائشة من قهر بعد إبعادها عن والدتها إلا أن أباها كان الملجأ الوحيد لها، فكانت تقضي معه كل وقتها ليعوضها عن غياب والدتها ويحادثها ويلاعبها، لكن الحال لم تدم كذلك، وطالت أيادي الاحتلال والدها أيضا لتزج به في سجونها بعد استدعائه للمقابلة في شهر تشرين الأول عام 2007.

ويعود قلب الطفلة الصغير لينفطر حزناً، فقد أمست وحيدة بلا أم ولا أب، وبقيت القضبان تعزل كل فرد من أسرتها الصغيرة، وأصبحت الدموع فقط من تؤانسها بعد تغييب والديها.

وتؤكد الأسيرة المحررة عطاف عليان والدة الطفلة عائشة أن الظروف تلك التي مرت بها الطفلة لم تكن سهلة أبداً، ولم تمح آثارها من ذهنها حتى بعد مرور بعض الوقت عليها، لافتة إلى أن الأطفال في هذا العمر يذكرون كافة التفاصيل، وشاء القدر أن تعيش الطفلة مع تفاصيل قاسية في بداية حياتها.

وتضيف: "عندما تم الإفراج عني بعد ثلاث سنوات من الاعتقال، لم تقبل عائشة أن تتركني أبداً، وبرغم تعبي الشديد بعيد الإفراج بقيت تمسك بي وترفض الابتعاد عني، ثم لاحظت أنها سألتني عن عدة أمور من ذكرياتها في السجن، فسألتني عن شكل الغرفة تلك وملابسها التي تركتها في المعتقل لدي، وبعض الأسيرات اللواتي عايشتهن أثناء وجودها معي، لم تنس شيئاً، وهذا الأمر فاجأني".

 

خيوط الأمل

بقيت محكمة الاحتلال تجدد الاعتقال الإداري للأسير وليد الهودلي والد عائشة، وفي كل مرة تنتهي مدة الاعتقال المحددة تحضّر عائشة أجمل ثيابها وتستعد لارتدائها لاستقبال والدها، ولكن الاحتلال كان دائما يخذل فرحتها ويجدد اعتقال الهودلي لأشهر أخرى، حتى باتت الطفلة في شوق لتعلم الأعداد وحفظها لتستطيع حساب المدة المتبقية لوالدها.

وكما في كل مرة شارفت مدة اعتقال والدها على الانتهاء، ولكنها هذه المرة أحضرت ثوبها بيأس شديد ووضعته بكل هدوء على سريرها، وبعد استفسار والدتها عن سبب كل هذا الفتور، قالت بكلمات مقتضبة إنها لم تعد تتوقع أن يتم الإفراج عن والدها.

وتوضح عطاف أن عائشة لم تعد تصدق أي خبر يرد إليها من سجون الاحتلال عن نية الإفراج عن والدها، مبينة أن عدة جمل قاسية كانت ترددها تدل على حزنها الشديد من الظروف التي وضعت فيها.

وتتابع: "عندما أبلغونا بأنه سيتم الإفراج عن وليد، كانت عائشة متحمسة ولكن ليس كما في كل مرة، وأظنها كانت متعبة من الانتظار، ولكنها عندما رأتنا نستعد للذهاب إلى حاجز بئر السبع لانتظار والدها، عادت الابتسامة إلى وجهها، وبقيت تنتظر إطلالته كي تركض إليه".

وما إن أطل وليد من وراء الحاجز العسكري حتى ركضت عائشة إليه واحتضنته، فكانت أول من يستقبله بعد عامين من الاعتقال، وبقيت ملتصقة به ترفض الابتعاد عنه، حتى أن والدتها طلبت منها أن تجلس في حضنها ولكنها رفضت قائلة: "أنت خرجت من السجن قبل أبي، وجلست كثيراً في حضنك، ولكنني لم أجلس في حضنه منذ سنتين".

 

تخوّف برغم الفرحة

ولا تنكر عطاف أن العائلة ما زالت تعيش حالة الخوف والقلق، فكل تلك الظروف التي مرت بها متنقلة بين سجون الاحتلال ولدت لديها مشاعر مختلطة من الترقب والخوف مما قد يحدث، وخاصة أن الفلسطينيين اعتادوا غدر الاحتلال تحت أي ظرف.

وتوضح عطاف أن عائشة ما زالت منذ الإفراج عن والدها تتحدث إليهما عن مشاعرها عندما حرمت من رؤيتهما، مشيرة إلى أنها تبقى تتخوف من إعادة اعتقال أي منهما، مرددة عبارات حزينة تصفها عطاف بالحارقة.

وتضيف: "عندما يريد أي منا مغادرة الغرفة فإنها تصرخ وتطلب منا البقاء إلى جانبها، وإذا أردت مثلاً الخروج من المنزل من دون أن آخذها معي فإنها تبدأ بالبكاء وتصرخ قائلة: تريدين أن تذهبي مرة أخرى، وأنا أعرف أنك لن تعودي، كل تلك الكلمات تحرق قلبي على ما أصابها وهي لم تتجاوز بضع سنوات".

 وتقول عطاف إن الكثير من التصرفات لدى طفلتها تظهر مدى تأثير هذه الحياة المليئة بمفردات السجن والاعتقال عليها، لافتة إلى أنها كانت كثيراً ما ترفض أن تمسكها أمها لتسريح شعرها، وتصرخ: "أفلتيني لقد قيدتني"، وكأن الأشهر الثمانية التي أمضتها مع والدتها في الأسر لم تكن مجرد زيارة عادية كما يعتقد البعض، وإنما كانت مرحلة مهمة لن تسقط من ذاكرتها أبداً.

أما وليد فيحرص حالياً على عدم ترك طفلته وحيدة مهما كانت الظروف، معتبراً أن ما مرت به من حزن على فراق والديها كافٍ بالنسبة لطفلة في عمرها، بل إنه أمر غير اعتيادي على طفلة كان من المفترض أن تتشرب حنان والديها كل يوم بدلاً من فراقهما والتمني بأن يكونا إلى جانبها يوماً ما.

ولا تزال 14 عاما قضاها وليد في سجون الاحتلال بشكل متفرق، تعيد عائشة إلى هاجس احتمال اعتقاله مرة أخرى، وسط تخوف عائلتها مما قد تؤثره أي عملية اعتقال على نفسيتها التي بدأت تعيش أحزان الحياة مبكراً.