تحليل لا اختراق على جبهة التطبيع مع السعودية

الساعة 08:45 ص|06 أغسطس 2023

فلسطين اليوم

تطبيع العلاقات الرسمية العربية مع "إسرائيل" يُعتبر الهدف الأعلى قيمة استراتيجية لـ"إسرائيل"، وللسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، وفي عهد الحكومات الإسرائيلية السابقة (رابين، بيرس، باراك وأولمرت) برروا للشارع "الإسرائيلي" اليميني كل تقدم على مسار التسوية مع الفلسطينيين بالهدف الأعلى، وهو التوصل لإقامة علاقات مع الدول العربية، فإقامة مثل هذه العلاقات والتطبيع الرسمي على الأقل بدايةً على أمل أن يتوج بتطبيع أوسع؛ يشكّل بالنسبة لدولة اغتصبت الأرض وهجرت وقتلت الشعب اعترافًا بشرعيتها، وتتويجًا سياسيًا إقليميا لحروبها وعدوانها، وصفحًا كاملًا عن ماضي جرائمها، إنه الحلم الذي يحلم بهِ الصهاينة منذ أقاموا دولتهم، تمهيدًا لتحولهم إلى القوة المتنفذة والحاكمة للمنطقة العربية.

لكن نتنياهو على خلاف سابقيه، تمسك بذات الهدف مع تغيير استراتيجي على الأولويات، فقلب الهرم على رأسه، في خطوة وصفت بأنها هاذية ومجنونة، حيث طالب العرب بالتطبيع أولًا بدون أن يتم ربط الأمر بالتقدم على المسار الفلسطيني؛ بل وادعى بأن التقدم على مسار التطبيع سيُساعد لاحقًا في التقدم على التسوية السياسية، حيث اتهم العرب بتحريض الفلسطينيين على التمسك والتعنت بمطالبهم غير القابلة للتحقيق - حسب نتنياهو - وأن الفلسطينيين سيُغيرون من موقفهم عندما يطبع العرب، أي عندما يتخلى عنهم العرب ويشعرون بالعزلة والضعف.

ما كان أشبه بضربٍ من ضروب الجنون تحوّل إلى واقع، حيث نجح نتنياهو، العدواني واليميني وصاحب السياسات الاستيطانية والتهويدية، والمتنكر لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني، في التقدم على مسار التطبيع مع عدد من الدول العربية بمساعدة ترامب، بل إن ترامب استخدم واستغل كامل نفوذه وسطوته ليفرض على العرب جميعًا التطبيع مع "إسرائيل"، لكن وبرغم كل محاولات التنفس الاصطناعي للتطبيع وعقد المؤتمرات والنوادي والأطر التطبيعية؛ ظل التطبيع يعاني من فتور ومحدودية التأثير والاستجابة والرفض الشعبي الكبير، وظل محصورًا داخل دوائر سياسية ضيقة، ولم يؤثر في الإرادة الفلسطينية، ولم يفتّ في عضد المقاومة التي زادت من زخمها وقوي ساعدها وباتت مع الوقت أكثر قوة وعنفوانًا.

وفي نظر "إسرائيل" وأمريكا، فإن النجاح في جلب دول خليجية وأخرى إفريقية عربية لمستنقع التطبيع يظل نجاحًا محدودًا طالما بقيت أهم وأقوى دولة تأثيرًا على العالم العربي والإسلامي ترفض أو تتحفظ أو تتمنع عن التطبيع، فظلت المملكة العربية السعودية هي درة التاج التي يطمح المطبعون في الوصول إليها وإدخالها إلى حظيرة التطبيع، لما للمملكة من مكانة ونفوذ وإمكانيات، لا سيما وهي موطن الكعبة وقلب العالم الإسلامي.

ومع تولي محمد بن سلمان ولاية العهد في عهد ترامب، ورغبته الشديدة في التخلص من استحقاقات ملف خاشقجي، كان الخوف كبيرًا من انحرافه إلى المسار التطبيعي، لا سيما أنه لم يمانع، وربما بارك تطبيع البحرين والإمارات، وقد كان غارقًا في حرب اليمن مسكونًا بالخوف من هاجس المواجهة مع إيران.

تغيّرت الإدارة الأمريكية، وجاءت إدارة بايدن وتراجع التطبيع، وزاد التوتر بين الديموقراطيين ومحمد بن سلمان على خلفية ملف خاشقجي، ووجد نفسه مُضطرًا للبحث عن خيارات تعتمد على تبني لغة المصالح، فانفتح على روسيا والصين وبرد التوتر مع إيران، بل وذهب لعقد مصالحة محدودة مع طهران أدت إلى عودة السفراء، وكذلك تصالح مع قطر وتركيا، وبالمقابل رفض المطالب الغربية والأمريكية بزيادة إنتاج النفط.

مسار ضغوط التطبيع على السعودية عاد مجددًا، والغريب أنه يزداد أمريكيًا رغم توتر العلاقة بين بايدن ونتنياهو، ورغم فاشية الحكومة "الإسرائيلية" الحالية، وهو ما يثير الكثير من الاستغراب والاندهاش، حيث يظهر بايدن في خدمة الاحتلال والمستوطنين بغض النظر عن جرائمهم، حتى تلك التي قد يشمئز هو نفسه منها، وما هو مسموح له من انتقاد نتنياهو والتحفظ على سياساته غير مسموح حتى للمملكة العربية السعودية، ضغوط كبيرة تمارس على محمد بن سلمان، وجاك سوليفان (مستشار الأمن القومي الأمريكي) يقوم بضغط من بايدن بزيارات مكوكية للرياض، على أمل أن يحدث اختراق ما، وكل إشاعة أو خبر عن نتائج مثل هذه اللقاءات يحظى بتغطية إعلامية مبالغ فيها كثيرًا.

بايدن بحاجة ماسة لمثل هذا الاتفاق ليحظى بمباركة اللوبي الصهيوني له قبل نهاية ولايته وبداية الدورة الانتخابية، وهو أيضا تأكيد لصهيونيته التي أعلنها ويعتز بها، لكننا نعتقد بأن أمر التطبيع مع السعودية أبعد كثيرًا وصعب المنال، لا سيما في ظل المطالب والشروط التي يطالب بها ويشترطها ولي العهد محمد بن سلمان وصعوبة تنفيذها، "إسرائيليًا" وأمريكيًا، فحكومة "إسرائيل" الفاشية كفيلة بأن تفشل هذا المسار لأنها لن تسمح بأيّ تقدم على المسار الفلسطيني، حتى لو بوعود وهمية، ولابدّ من تغيير تشكيلة الحكومة القائمة وتشكيل حكومة أخرى تستطيع أن تقدم مثل هذه الوعود، وهذا أمر صعب جدًا في الظروف الحالية واحتمالاته ضعيفة جدًا. وعلى الجانب الأمريكي، فإن مطالب المملكة السعودية بمشروع سلمي للطاقة النووية وعقد تحالف دفاعي، يستلزم موافقات كبرى داخل مجلس الشيوخ، بأغلبية كبيرة غير متوفرة لبايدن.

لذلك، فكل ما يحاول الأمريكان الحصول عليه بعد فشلهم في ثني محمد بن سلمان عن شروطه هو أن يمنحهم بعض الترجمات المحدودة التطبيعية، تؤكد وجهة المملكة تجاه التطبيع مستقبلًا، ويُمكن البناء عليها وتقديمها كتقدم كبير على مسار التطبيع، الذي سيتم استكماله لاحقًا.

كلمات دلالية