في الذكرى الأولى لمعركة وحدة الساحات: قراءة في الحيثيات والتبعات.. بقلم/ ثابت العمور
لم تكن معركة "وحدة الساحات" وليدة اللحظة التي قرر فيها الاحتلال اعتقال القيادي في حركة الجهاد الإسلامي بسام السعدي، بل يمكن التأصيل لقرار الاحتلال استهداف حركة الجهاد الإسلامي منذ صباح اليوم السادس من شهر سبتمبر/ أيلول 2021 عندما تمكن ستة أسرى - خمسة منهم من أسرى الجهاد الإسلامي أربعة محكوم عليهم بالسجن المؤبد - من انتزاع حريتهم والفرار من سجن جلبوع الإسرائيلي، وحينها لم تكن تسمية العملية "بنفق الحرية" مجرد عملية أمنية معقدة ولم يكن الأمر مجرد اخفاق أمني لسلطات الاحتلال؛ كما أن إعادة اعتقال الأسرى الستة لم يفض لتوقف التبعات والتداعيات بقدر ما افضى لتدحرج المشهد صوب الاشتباك والمشاغلة. لتتحول المحددات من مجرد عملية هروب عبر نفق من سجن جلبوع الى حالة نضالية ثورية جهادية مشتبكة تُسمى "كتيبة جنين".
- لماذا استهدفت الحرب حركة الجهاد الإسلامي
ما بين المشاغلة في غزة والجذوة المشتعلة في الضفة المحتلة مسار ممتد في تاريخ حركة الجهاد الإسلامي؛ فلم تكن عملية سجن جلبوع الحالة الجهادية النوعية الوحيدة التي افضت لتفجير المشهد وذهابه صوب الاشتباك الحاصل، فالإخصاب الصعب حدث قبل ذلك بكثير وتكاد الاحداثيات تتشابه وتتقاطع، ففي حيثيات متشابه الى حد التطابق تمكن قبل 34 عام تقريبا وتحديدا في 17 مايو/ أيار 1987 ستة أسرى ينتمون لحركة الجهاد الإسلامي بقيادة الشهيد مصباح الصوري من انتزاع حريتهم من سجن غزة المركزي شديد الحراسة.
وكانت الأجواء ملبدة بغيوم السيطرة الإسرائيلية الكاملة على كافة مناحي الحياة في قطاع غزة، فجاءت عملية "الهروب الكبير" لأسرى حركة الجهاد الإسلامي من سجن غزة المركزي آنذاك لتُفضي لصاعق ثوري جهادي في المشهد، خاصة وأن مصباح الصوري ورفاقه لم يكتفوا بعملية الهروب بل ذهبوا لتنفيذ سلسلة عمليات نوعية في قطاع غزة، كانت في واحدة منها رصاصات مصباح الصوري تستقرّ في جسد غاليلي غروسي ضابط المخابرات الإسرائيلية، شرقي حيّ الشجاعية.
وفي عملية ثانية استطاع محمد الجمل وسامي الشيخ خليل من قتل قائد الشرطة العسكرية في قطاع غزة روني طال من مسافة الصفر. ليرتق في الأول من أكتوبر/ تشرين، وبعد أربعة أشهر على الهروب من سجن غزة المركزي، مصباح الصوري شهيدا بكمين لجيش الاحتلال. وفي السادس من الشهر ذاته، لحق به كلا من الشهيد محمد الجمل وسامي الشيخ؛ خلال اشتباك مع جيش الاحتلال شرقي حي الشجاعية أسفر عن مقتل ضابط مخابرات.
لم يمض اقل من شهرين حتى اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى انتفاضة الحجارة في 8 ديسمبر/ كانون الأول العام 1987. فكانت عملية "الهروب الكبير" من سجن غزة لأسرى الجهاد الإسلامي صاعق القنبلة ونواة المشاغلة التي افضت لتحريك الجماهير صوب المعادلة التي تقول بأن هزيمة الاحتلال ممكنة ومتاحة، وهذا عين ما أفضت إليه عملية سجن جلبوع " نفق الحرية" والتي لم يؤدي إعادة اعتقال الاسرى الستة لانتهاء التبعات لكنه افضى لخلق حالة جهادية ثورية نقلت المحددات من المشاغلة الى الجذوة المشتعلة وهي الحالة التي تعبر عنها الآن "كتيبة جنين" و"كتيبة نابلس" و"كتيبة طولكرم" و"كتيبة طوباس" والبقية تتململ لتعلن عن مولدها في اللحظة المناسبة لتشتعل الضفة الغربية معلنة انتفاضة شاملة باتت التقديرات الأمنية والعسكرية الاسرائيلية تراها قادمة لا محالة .
وبالتالي فإن معركة "وحدة الساحات" في قطاع غزة نتيجة حتمية وخلاصة للإحداثيات التي بدأت حركة الجهاد الإسلامي تخطها في الضفة الغربية المحتلة. وبالتالي واحدة من أسباب ومحددات هجوم الاحتلال على حركة الجهاد الإسلامي والذهاب الى المعركة هو الحيلولة دون قدرة حركة الجهاد الإسلامي على الذهاب الى إعادة انتاج انتفاضة فلسطينية جديدة على غرار ما حدث في العام 87 عندما تفجرت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، علما بأن المعطيات الحاصلة في الضفة الغربية تقول بأنه لم يعد ممكنا او متاحا لاي اجراء استباقي ينفذه الاحتلال ان يحول دون التدحرج صوب الانتفاضة المرتقبة. وأن مزيدا من الاعتقال او الاغتيال سيُفضي الى التعجيل باندلاع الانتفاضة، وبالتالي واحدا من أهم اهداف الاحتلال من معركة وحدة الساحات افضى الى نتيجة صفر. فالعمليات والاشتباكات والمشاغلة التي تتبناها حركة الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية لا زالت مستمرة بل وبوتيرة اعلى وأكثر كثافة عما كانت عليه قبل معركة "وحدة الساحات".
- معركة وحدة الساحات الدلالات والتداعيات
أولا: الدلالات
- خاضت حركة الجهاد الإسلامي معركة وحدة الساحات، ليتقاطع الفكر مع الممارسة، فخطاب الحركة وأدبياتها تتعرض لفلسطين كل فلسطين وعندما تتحدث عن التحرير تقصد فلسطين التاريخية والجغرافية، وهو ما عبر عنه الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الأستاذ زياد النخالة عقب المعركة مباشرة في قوله: "لا فصل بين ما يجري في الضفة من مقاومة، وما يجري في غزة. إنها معركة فتحت آفاقًا لشعبنا الفلسطيني في الشتات، ليعمل حتى يكون جزءً هاما في المعارك القادمة مع العدو، كذلك كانت تعبيرًا حقيقيًّا وصادقًا للشعارات التي نرفعها، بأن شعبنا واحد، ومصيرنا واحد، ومسؤوليتنا واحدة.. نحن نقول للعدو وداعميه ومؤيديه: إما أنتم وإما نحن في هذه البلاد التي هي لنا، سنقاتلكم على مدار الوقت، وسنقاتلكم على كل شيء، وسنستمر بالقتال حتى ترحلوا".
- معركة وحدة الساحات قطعت الطريق على المخطط الصهيوني الهادف الى عزل غزة عن باقي ساحات فلسطين، وذلك بإشغالها في قضايا حياتية واقتصادية، لفصلها سياسيا وجغرافيا عما يحدث في القدس وفي الضفة وفي الداخل المحتل، وذلك لتعزيز روايته التي تقول ارض بلا شعب لشعب بلا أرض، فنسفت معركة وحدة الساحات كافة مكونات هذا الهدف عندما أطلقت حركة الجهاد الإسلامي على المعركة اسم "وحدة الساحات".
- معركة وحدة الساحات هي تعبير عن وحدة فلسطين – في زمن الانقسام- أرضا وشعبا وقضية ومقاومة، وهي معركة أحبطت في جزء مركزي من نتائجها مخططات الاحتلال الهادفة الى عزل وفصل الساحات الفلسطينية عن بعضها البعض والاستفراد بكل واحدة على حدة.
- معركة وحدة الساحات امتداد لمعركة سيف القدس التي خاضتها المقاومة الفلسطينية في أيار/ مايو 2021، ورسمت من خلالها قواعد اشتباك جديدة وفرضت معادلة ردع ملمحها الأبرز ان المقاومة هي من بدأت الهجوم وحددت ساعة الصفر التي بدأت بهز صورة جيش الاحتلال امام جبهته الداخلية وامام العالم، عندما بدأت معركة سيف القدس بمشهد سيبقى عالقا في الذاكرة وفي الوعي؛ عندما استهدفت سرايا القدس سيارة جيب عسكرية تتبع استخبارات العدو بصاروخ كورنيت ووثقت الاستهداف بالصوت والصورة.
- معركة وحدة الساحات افشلت مخططات حكومة لبيد – غانتس، التي تستهدف كسر معادلات الردع التي تشكلت في معركة " سيف القدس "، وربطت وحدة المصير ما بين القدس وغزة، بإضافة معادلة جديدة هي ربط الأسرى بالمقاومة في قطاع غزة.
- معركة وحدة الساحات ثبتت معادلة جديدة وأكدت عليها وهي أن الاحتلال بات يدرك أن اغتيال أو اعتقال أي قائد سياسي فلسطيني سيكلف الجبهة الداخلية أسبوع كاملا في الملاجئ، وسيفضي لشلل اقتصادي وتعطيلا للحركة، وخسائر بالمليارات فضلا عن الخسائر البشرية، والأهم تدحرج المواجهة وامتدادها من غزة الى باق الساحات الفلسطينية إذا استمرت المعركة. وقد عبر الاعلام العبري في كيان الاحتلال عن هذه المعادلة بقوله: "سابقًا عندما يُغتال قائد فلسطيني كبير كنا نسمع تهديدًا ووعيدًا، أما اليوم فإن نصف الجنوب معطل، وفي الملاجئ بسبب اغتيال قائد متوسط، فضلًا عن أكثر من 1200 صاروخ، طارد بعضها تل أبيب، وبعضها شوش عمل المطار، بمعدل 500-600 صاروخ يوميًا، أكثر مما كانت تطلقه الفصائل مجتمعة في أيار 2021م".
- معركة "وحدة الساحات"، هي الوحدة التي عمل الشيخ بسام السعدي على ترسيخها في مدن الضفة الغربية، لا سيما بين جنين ونابلس، عبر مقاومة كتائبها، ما أزعج العدو الذي يريد إبقاء الضفة الغربية جزرا منفصلة عن بعضها البعض، مشلولة وغير قادرة على مواجهة المستوطنين، كما هو الحال في مناطق متفرقة من الضفة الغربية.
- إن هذه المعركة، على قِصر مدتها الزمنية، أظهرت "دولة" الكيان مربكة ومفككة، وتبحث عن تهدئة تخرجها من حالة الذعر والخوف التي سيطرت على مستوطنيها، وكلفتها أكثر من نصف مليار شيكل، عدا الخسائر الأخرى التي لم يتم إحصاؤها بعد.
ثانيا: التداعيات والانجازات
- على صعيد التكتيك والأداء العسكري، رغم نجاح الاحتلال في اغتيال قياديين بارزين في سرايا القدس هما الشهيد تيسير الجعبري قائد الشمال، والشهيد خالد منصور قائد الجنوب، الا أن الصدمة لم تؤثر على مقدرات الحركة القتالية، واستطاعت القتال على مدار 50 ساعة متواصلة، أطلقت خلالها ما يزيد عن ألف صاروخ وقذيفة، واستهدفت في توقيت متزامن 58 مستوطنة، ما يعني أن الأهداف العسكرية الصهيونية للمعركة في كسر او ترويض او شل قدرات سرايا القدس على القتال لم تتحقق. وبدت سرايا القدس أكثر قدرة وجرأة على اتخاذ قرار الرد العسكري على اعتداءات الاحتلال وتثبيت مفهوم وحدة الساحات كفكرة وممارسة في إطار استراتيجية المشاغلة.
- عسكريا اثبتت معركة وحدة الساحات أن الاحتلال بمقدراته كاملة غير قادر مطلقا على خوض مواجهة شاملة سواء كانت متعددة الساحات او الجبهات، وقد فشل باعتراف جنرالاته في حربه على حركة الجهاد الإسلامي التي واصلت إطلاق الصواريخ والقذائف في العمق حتى اللحظة الأخيرة التي سبقت إعلان وقف إطلاق النار وقطعا لهذا دلالاته العسكرية، وقد كتب الجنرال إسحق بريف عن ذلك قائلا : "صحيح أنه قد تم قتل قائدين من السرايا، غير أنه لم يأتي بالتغيير المرجو، فمركز القيادة والسيطرة لديهم بقي يعمل بفاعلية وكفاءة حيث تجلى بتكثيف منسق لرشقات الصواريخ، وتوسيع مداها حتى تل أبيبت ومطار اللد".
- هذه المعركة " وحدة الساحات" ستقرأها جبهات المقاومة جيدا وتتوقف عندها، مستحضرة سؤال كيف سيكون سيناريو القتال في معركة وحدة الجبهات عندما تشترك فيه جبهة الشمال مع الجنوب في توقيت واحد. فيما يعرف بمعركة وحدة الجبهات المتوقعة والممكنة مستقبلا. وتشترك فيها سوريا ولبنان واليمن والعراق وفلسطين وإيران. وهو عين ما عبر عنه عاموس يدلين رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، الذي قال بعد انتهاء معركة وحدة الساحات: "يجب ألا نطير من الفرحة وألا ننجرف مع نشوة النصر، الجهاد الإسلامي تنظيم صغير نسبياً، حماس أقوى منه بعشرات الأضعاف، وحزب الله أقوى بعشرات الأضعاف، الحقيقة أن الحرب انتهت من جانبنا، لكن هذا الأمر لن يكون كذلك في مواجهة محتملة ومقبلة مع حماس وحزب الله".
- معركة "وحدة الساحات "منعت تغير قواعد ومعادلات الردع، و"حفرت" عميقاُ في وعي مواطني دولة الكيان والذين تتعمق ازماتهم النفسية والمجتمعية وتضع علامات استفهام كبرى حول استمرار وجودهم في دولة الكيان.
- معركة وحدة الساحات ثبتت مخرجات معركة سيف القدس، وأثبتت ان فصل الساحات غير ممكن، وأن ردع غزة لا يمكن، بدليل أنه لم يمض على وقف إطلاق النار سوى بضع ساعات حتى اندلعت اشتباكات عنيفة وإطلاق نار امتد لساعات في البلدة القديمة في مدينة نابلس.
- فشل الاحتلال في ضرب العلاقة بين الحاضنة الشعبية وبين المقاومة، وتجلت العلاقة في حالة الاستفتاء الشعبي من خلال المظاهر التالية جنازة الشهيد خالد منصور في رفح فرغم الحرب والقصف الا ان جماهير محافظة رفح خرجت عن بكرة ابيها في موكب الجنازة، وهو عين ما حدث في جنازة الشهيد تيسير الجعبري، وعندما انتهت الحرب وذهب حركة الجهاد الإسلامي لتأبين الشهيدين، شاركت جماهير غزة في رفح وغزة بالألاف، والامر حدث في جنازة الشهيد إبراهيم النابلسي، ما يعني ان ضرب الحاضنة الشعبية لم يفلح بل افضى لعكس ما يريد الاحتلال ويستهدف.
- معركة وحدة الساحات اعادت القضية الفلسطينية للواجهة وباتت المقاومة وبطولاتها تحتل المساحة الأبرز في العناوين الرئيسية بعدما كادت القضية ان تتلاشى ويختصرها الاحتلال بين معايشة واحتياجات اقتصادية، ويحولها من قضية تحرير الى قضية إنسانية. وردت الاعتبار لخيار المقاومة، وعرت اتفاقيات ابراهام التي ذهب اليها البعض على قاعدة ان بإمكان كيان العدو ان يوفر حماية للمنطقة وهو غير قادر على حماية جبهته الداخلية من صواريخ ورشقات حركة الجهاد الإسلامي ونقل مستوطنين الغلاف للعمق وادخل البقية في الملاجئ.
خلاصة
- اثبتت سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي قدرة فائقة على إدارة المعركة، من خلال تكتيك تنقيط الصواريخ، وانعكست الخبرة القتالية للمعارك والجولات القتالية السابقة في القدرة على إدارة النيران والرماية المديات والتوزيع والميدان، بما يخدم إلحاق أكبر أذى في العدو، والاستمرارية في إطلاق الصواريخ، والحفاظ على القوة البشرية المقاتلة.
- زيادة كثافة النيران مقارنة بالجولات القتالية السابقة، فعلى سبيل المثال في معركة "صيحة الفجر" في كانون الثاني/ يناير 2019، والتي ردت فيها سرايا القدس على استشهاد القائد بهاء أبو العطا، واستهداف منزل القائد العام لسرايا القدس أكرم العجوري في دمشق، وفشل استهدافه واستشهاد نجله معاذ، ردت سرايا القدس بإطلاق ما يزيد عن 400 صاروخ، بينما في معركة وحدة الساحات أطلقت ما يزيد عن 1000 صاروخ وقذيفة بمدايات وصلت لحوالي 90 كم. خلال 50 ساعات فقط من القتال، ما يعني أنه في الفترة ما بين معركة صيحة الفجر حتى وحدة الساحات حدثت نقلة نوعية في الأداء وفي التكتيك، بل إن ما يمكن ملاحظته وفق بعض القراءات المهتمة والمعنية أن الإرباك في صفوف مقاتلين السرايا الذي حدث عقب اغتيال الشهيد أبو العطا لم يحدث عند اغتيال الجعبري ومنصور، وقد كتب عن ذلك "يتسحاق بريك " قائد الكليات العسكرية سابقاً، في صحيفة "هآرتس" قائلا: "إنجازنا الرئيسي - اغتيال قائد منطقة الشمال وقائد منطقة الجنوب في التنظيم - لن يأتي لنا بالتغيير المنشود. والدليل: بعد اغتيال القيادات، استمر الجهاد في إطلاق الصواريخ كالسابق، ووسّع نطاق القصف إلى وسط البلاد. ونحن نستمر في الانحدار إلى الهاوية، بكل ما يخص جاهزية الجيش لحرب متعددة الجبهات".