لماذا تخشى إسرائيل مواجهة متعددة الساحات؟

الساعة 11:32 ص|07 يونيو 2023

فلسطين اليوم | صالح النعامي

الكاتب د. صالح النعامي  

يعكف الجيش الإسرائيلي حاليا على تنفيذ واحدة من أكبر المناورات العسكرية في تاريخه تحاكي تفجر مواجهة شاملة على عدة ساحات في آن. وتختبر المناورة التي أطلق عليها “اللكمة القاضية”، والتي انطلقت أوساط الأسبوع الماضي وستتواصل لمدة أسبوعين، القدرات العملياتية لجيش الاحتلال على الصعيدين الهجومي والدفاعي، فضلا عن فحص مدى جاهزية الجبهة الداخلية الإسرائيلية لتحمل تبعات تعرضها للاستهداف انطلاقا من لبنان، سورية، لبنان، إيران وغزة.

ولقد جاء تنفيذ هذه المناورة نتاج توصل القيادات السياسية والعسكرية في تل أبيب إلى استنتاج مفاده أن فرص اندلاع مواجهة شاملة متعددة الساحات تعاظمت مؤخرا بشكل كبير.

وحسب المنطق الإسرائيلي فأن تفجر مواجهة متعددة الساحات يمكن أن يكون نتاج أحد تحولين أساسيين:

أولا: إقدام إيران أو أحد الأطراف التي تشكل المحور الذي تقوده على مباغتتها باستهداف عمقها الداخلي بالصواريخ أو المسيرات الهجومية، حيث تتخوف إسرائيل بشكل خاص من إقدام حزب الله تحديدا على مثل هذا الهجوم. وقد دقت المناورة التي نظمها  حزب الله مؤخرا على الحدود مع فلسطين والتي حاكت هجوما عبر الحدود يتم فيه السيطرة على إحدى المستوطنات شمال إسرائيل، ناقوس الخطر لدى صناع القرار في تل أبيب. فخلال مشاركته في المؤتمر السنوي الذي نظمته جامعة “رايخمان””هرتسليا” الأسبوع الماضي حذر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أهارون حليفا من إقدام زعيم حزب الله حسن نصر الله على “خطأ” يمكن أن يفضي إلى مواجهة شاملة.

ثانيا: أن تتخذ إسرائيل ذاتها قرارا بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية بهدف تدميرها في أعقاب مواصلة إيران تطوير برنامجها الذري، كما عكست ذلك تقارير اللجنة الدولية للطاقة الذرية التي صدرت الأسبوع الماضي وتحدث عن تمكن طهران من تخصيب كمية من اليوارنيوم كافية لانتاج قنبلتين ذريتين. وتفترض إسرائيل أن توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية سيدفع طهران والأطراف التي تشكل الحلف الإقليمي الذي تقوده إلى الرد عبر استهداف العمق الإسرائيلي ومحاولة اقتحام الحدود عبر عمليات تسلل بري. وقد وجه رئيس الحكومة الإسرائيليية بنيامين نتنياهو بالفعل تهديدا مباشرا لإيران عندما توعد بأن إسرائيل “ستفعل كل ما يتوجب عليها فعله من أجل منعها من الحصول على سلاح نووي”.

وبغض النظر عن طابع السيناريو الذي يمكن أن يقود إلى تفجر مواجهة متعددة الساحات، فأن اندلاع مثل هذه المواجهة يمكن أن يلحق بعمق إسرائيل الداخلي أضرارا هائلة لم يسبق لهذا العمق أن تعرض لها في كل الحروب التي خاضها الإسرائيليون منذ حرب 1948.

فالواقع الجيوإستراتيجي يجعل لهجمات مكثفة بالصواريخ والمسيرات الهجومية على العمق الإسرائيلي كلفة باهظة الثمن. فتكدس أكثر من 70% من الثقل الديموغرافي وحوالي 80% من المرافق الحيوية العسكرية والمدنية الإسرائيلية في شريط جغرافي ضيق على الساحل يجعل من اندلاع مواجهة متعددة الساحات يتم فيها استهداف هذا الشريط بكثافة بمثابة سيناريو رعب للقيادتين السياسية والعسكرية في تل أبيب.

ونظرا لحيازة كل من إيران وحزب الله تحديدا على صواريخ ذات دقة إصابة عالية فأنه سيكون بوسعهما تدمير الكثير من المرافق العسكرية ذات الارتباط المباشر بقدرة إسرائيل على مواصلة الجهد الحربي. فعلى سبيل المثال، بإمكان الصواريخ ذات قدرة الإصابة العالية استهداف القواعد الجوية والمطارات العسكرية بشكل يمكن أن يفضي إلى تقليص إسهام سلاح الجو في الجهد الحربي، على الرغم من أن هذا السلاح يمثل رأس الحربة في أية مواجهة عسكرية  تخوضها تل أبيب. فضلا عن أن مثل هذه الصواريخ يمكن أن تهدد أيضا مرافق مدنية حيوية، مثل: محطات تحلية المياه، محطات توليد الطاقة، منصات استخراج الغاز وغيرها.

صحيح أن إسرائيل يمكنها أن ترد باستخدام قوة عسكرية غير متناسبة تلحق أضرارا كبيرة جدا تحديدا بلبنان لكن هذا لن يمثل عزاءا الذي ستترك فيهم نتائج هذه المواجهة  صدمة نفسية عميقة الأثر.

وإن كانت منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية لم تتعاط بنجاعة كبيرة مع الصواريخ التي أطلقها “الجهاد الإسلامي” من قطاع غزة في المواجهة الأخيرة، على الرغم من أن قدرات هذا التنظيم الصاروخية تعد متواضعة جدا، فأن قدرة هذه المنظومات على تأمين العمق الإسرائيلي ستكون متدنية إلى حد كبير في حال نشبت مواجهة تشارك فيها إيران وحزب الله.

إذا كانت الأمور على هذا النحو، فكيف يمكن الحكم على مدى جدية التهديدات الإسرائيلية بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية بشكل يمكن أن يفضي إلى تفجر المواجهة متعددة الساحات؟.

 

في الحقيقة، إن إسرائيل ترى في حصول إيران على سلاح نووي تهديدا وجوديا لها، ليس فقط انطلاقا من مخاوفها من إمكانية أن يستخدم هذا السلاح ضدها، بل أيضا لإدراكها أن التسليم بتحول طهران إلى قوة نووية سيمنح دول المنطقة الأخرى، وتحديدا السعودية، مصر، وتركيا الشرعية للسعي للحصول على هذا السلاح. وهذا لا يعني فقط أن إسرائيل ستخسر تفوقها النوعي على الصعيد الإستراتيجي، بل أيضا ستتقلص قدرتها على الدفاع عن نفسها. فعلى سبيل المثال، فأن إسرائيل ستأخذ بعين الاعتبار مواقف القوى الإقليمية النووية  الأخرى عند بلورة سياساتها تجاه الساحات: الفلسطينية، اللبنانية، السورية وغيرها، مما يقلص من هامش المناورة المتاح لها في تحقيق مصالحها، كما تملي ذلك المنطلقات الأيدلوجية للأحزاب التي تشكل ائتلافاتها الحاكمة.

لكن إسرائيل في الوقت ذاته، تعي أن إقدام إيران على زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم حتى بالمستوى اللازم لانتاج السلاح النووي، لا يعني أنه سيكون بإمكانها انتاج السلاح النووي، حيث أن طهران ستكون مطالبة أيضا بدمج اليورانيوم المخصب في رأس حربي ليتحول إلى رأس نووي،  فضلا عن الحصول على منظومات صاروخية بالستية قادرة على حمل الرأس النووي. وتجمع التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية والأمريكية والغربية على أن إيران لم تقم حتى الآن بأية خطوة نحو انتاج الرأس الحربي النووي، حيث تجمع هذه التقديرات على أن القيادة الإيرانية لم تتخذ أي قرار بإنتاج الرؤوس النووية.

في الوقت ذاته، فأن إسرائيل تعي أن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام الخيار العسكري ضد إيران فقط في حال قررت التوجه نحو انتاج السلاح النووي، حيث لا تعتبر واشنطن أن زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم مسوغا لتوجيه ضربة لمنشآت طهران الذرية.

إلى جانب ذلك، فأن هناك شكوك حول قدرة إسرائيل على توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية؛ حيث نفى كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت ورئيس جهاز الموساد السابق تامير باردو أن يكون بحوزة إسرائيل الإمكانيات العسكرية التي تؤهلها لتوجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية.

ولا يحسن الانقسام الداخلي والتشظي المجتمعي الذي تعيشه إسرائيل حاليا نتاج طرح حكومة نتنياهو التعديلات القضائية من قدرة إسرائيل على الإقدام على مغامرة عسكرية كبيرة تفضي إلى تفجر مواجهة متعددة الساحات.

من هنا يمكن النظر إلى مناورة “اللكمة القاضية” التي تحاكي مواجهة شاملة متعددة الساحات على أساس أنها تأتي في إطار محاولة إسرائيل توجيه رسائل إلى كل من حزب الله وإيران والولايات المتحدة.

فمن خلال تنفيذ هذه المناورة، تحاول إسرائيل تحذير حزب الله من مغبة الإقدام على مهاجمتها؛ حيث حرص القادة الإسرائيليون على تذكير نصر الله بالثمن الذي دفعه لبنان في 2006، بعدما اجتاز حزب الله الحدود وخطف جنديين إسرائيليين.

كما تحاول إسرائيل من خلال هذه المناورة اقناع إيران بأن خيار استخدام الخيار العسكري لإحباط مشروعها النووي قائم وأنه يجدر بها إعادة تقييم حساباتها. إلى جانب ذلك، فأن المناورة تحمل رسالة تحذير للولايات المتحدة من مغبة التوصل لصفقة مع إيران تضفي شرعية على ما حققته من إنجازات على الصعيد النووي، سيما زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم. وكما كشف موقع “واللاه” مؤخرا فأن إسرائيل تشك بأن إدارة بايدن معنية بالتوصل لاتفاق “مؤقت” مع إيران يضمن تجميد بعض مكونات برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة عليها. وتراهن إسرائيل على مخاوف الولايات المتحدة من تداعيات إقدام إسرائيل على شن ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووي. وتعي تل أبيب أن إدارة الرئيس جون بايدن تخشى أن تضطر إلى التورط في مواجهة مع إيران تحت ضغط الأغلبية الساحقة من نواب الحزبين الجمهوري والديموقراطي، سيما في حال ردت إيران وحلفاؤها على قصف منشآتها النووية  باستهداف العمق الإسرائيلي على نطاق واسع.

رغم استعدادات إسرائيل لمواجهة تبعات تفجر مواجهة متعددة الساحات وتنفيذها مناورة “اللكمة القاضية”، فأنه يرجح أن تتجنب أن تقدم على خطوات يمكن أن تفضي إلى اندلاع مثل هذه المواجهة.

 

 

كلمات دلالية