خبر تركيا تعدّل شروط تحالفها مع أميركا ..مصطفى اللباد

الساعة 09:25 ص|28 مايو 2009

ـ النهار اللبنانية 28/5/2009

مثلت زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى روسيا ومباحثاته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي نقلة نوعية في العلاقات التركية - الروسية، ومرد ذلك أن الزيارة تناولت الترتيبات الأمنية التي ترغب تركيا في إبرامها على خلفية النزاع المحتدم بين موسكو وواشنطن في منطقة الأوراسيا.

لم ترحب موسكو فقط برئيس الوزراء التركي وفقاً للأعراف الديبلوماسية المعتادة في مثل هذه الحالات، بل إنها عرضت عرضاً غير مسبوق على تركيا حليف أميركا الإستراتيجي: توريد أنظمة الدفاع الجوي الروسية الإستراتيجية من طراز إس-400، لتحل محل أنظمة هوك وهيراكليوس المتهالكة والتي تمتلكها تركيا منذ عقود. وتنبع أهمية العرض من كون الأنظمة الصاروخية المشار إليها لم تخرج حتى الآن خارج حدود روسيا، إذ تستعمل كحزام حماية أساسي للمدن الروسية ضد الصواريخ الباليستية، وهو ما يعني أن روسيا تقدم عرضاً غير مسبوق إلى تركيا. يحاول هذا المقال تحليل خلفيات العرض الروسي فضلاً عن حسابات تركيا.

ترتكز السياسة الخارجية للدول على رؤية إستراتيجية مؤسِّسة لدور الدولة في محيطها الجغرافي، وتعيين نسق تحالفاتها الإقليمية والدولية الذي يضمن لها تحقيق أكبر قدر من مصالحها الوطنية. وبتطبيق هذه القاعدة النظرية على تركيا يمكننا التعرف على الرؤية المؤسِّسة لدور تركيا في محيطها الإقليمي وهي فكرة "العمق الإستراتيجي" التي صاغها في كتاب يحمل الاسم نفسه، مفكر تركيا الإستراتيجي أحمد داود أوغلو الذي أصبح منذ أسابيع قليلة وزيراً لخارجية تركيا.

يقول مقتضى الفكرة المؤسسة بأن الابتعاد النسبي عن المحاور والمقترن باقتراب محسوب من قضايا الجوار وتنويع التحالفات الإقليمية والدولية سيمكن تركيا من استخدام أمثل لعمقها الإستراتيجي في التأثير على الفاعلين الإقليميين والدوليين. تحالفت تركيا مع الولايات المتحدة الأميركية وانخرطت في الحلف الاطلسي (الناتو) منذ عشرات السنين، وهو ما حفظ لها أمنها القومي ودورها الدولي في فترة الحرب الباردة. ومع التغير في بنية النظام الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة فقد كان لزاماً على تركيا أن تجدد أدوارها بما يتفق مع مصالحها الوطنية من ناحية، وبما يحفظ لها وزنها الدولي من ناحية أخرى. بمعنى أن رسم السياسة الخارجية لتركيا وفقاً لنظرية "العمق الإستراتيجي" يعني أنها ليست في وارد التملص من تحالفها الدولي مع أميركا والذي جعلها ضمن رابحي الحرب الباردة، ولكنها تتوخى الاقتراب المحسوب من الأقطاب الدولية الأخرى ومنهم روسيا لكي تستطيع أن تجدد دورها. ويزيد من رغبة تركيا في تنويع علاقاتها الدولية حقيقة أن موقعها الجغرافي المفتاح يفرض عليها أن تكون على تخوم النزاعات، وهنا يكفي أن نعرف أنه عندما دخلت الدبابات الروسية إلى أوسيتيا الجنوبية في صيف العام الماضي فقد كانت تبعد حوالى 160 كيلومترا فقط عن الحدود التركية.

تبدو رغبة تركيا في تحديث أنظمة دفاعها الصاروخي معلومة في ضوء تصاعد أدوارها الإقليمية، كما تظهر رغبتها في الحصول على ضمانات أمنية من الطرفين الأميركي والروسي منطقية ومفهومة. ولا تريد تركيا الانزلاق إلى وضعية بولندا التي وجدت نفسها عالقة بين العملاقين الروسي والأميركي؛ وبسبب غياب رؤيتها الإستراتيجية لدورها واستكانتها في الأحضان الأميركية، فقد فقدت في النهاية هامش مناورتها السياسية. تطرح التكنولوجيا الحديثة نفسها على تركيا لتحديث أنظمتها الدفاعية، حيث يتربع نظامان على قمة تكنولوجيا الدفاع الجوي حاليا: صواريخ "باتريوت" الأميركية في أحدث تعديلاتها التقنية والتي يطلق عليها "باتريوت بي إيه سي-3"، أو أنظمة الدفاع الجوي الروسية "إس-400" التي يطلق عليها "تريومف". تبدو المفاضلة بينهما صعبة للغاية من النواحي السياسية، لأن الصراع بين النظامين الصاروخيين يجسد المفاضلة بين خيارين سياسيين قبل أن يلخص مقارنة تقنية صرفة لإمكانات وقدرات كل منهما. ويزيد من وطأة المقارنة التقنية - السياسية أن روسيا مورد الصواريخ "إس-400" لا تملك علاقات تحالفية مع تركيا، وهو ما يجعل مهمة توريد قطع الغيار وتحديث الأنظمة وأجهزة التوجيه محلاً لمفاوضات مستمرة عند كل منعطف. وفوق كل ذلك لم يتم تجربة الصواريخ "إس-400" في مناطق نزاعات من قبل، وبالتالي يصعب الحكم على نجاعتها قبل الشراء. وإن كانت القدرة الفائقة لهذه الصواريخ - كما تقول المجلات العسكرية المتخصصة - من بين الأفضل في العالم، إلا أن توسيع الإنتاج الروسي من هذه البطاريات لتزويد تركيا بها والفترة الزمنية اللازمة لتوريد كهذا مجهولان حتى الآن.

تعلم موسكو جيداً أن الضمانات الأمنية التي تسعى وراءها تركيا والابتعاد عن الصراع الروسي - الأميركي في مجال الصواريخ الباليستية تبقى أمراً يصعب تقديمه لتركيا في ضوء التحالفات الدولية للأخيرة. ويقود تقليب النظر في الدوافع الروسية إلى استنتاج أن موسكو لا تريد فعلاً توريد هذه الأنظمة المتقدمة إلى تركيا، لأسباب مختلفة أهمها الخشية على الأسرار التكنولوجية العسكرية من التسرب إلى الغرب. ويتأسس الاستنتاج على العلاقة الجدلية التالية: كلما عرف البنتاغون عن إمكانات الصواريخ أكثر، كلما عرف مواطن الضعف وعيوب النظام الصاروخي، وكلما كان قادرا على تكبيده خسائر في أي مواجهة مقبلة. ويعني ذلك أنه في حال أرادت موسكو المضي قدماً في إتمام الصفقة جدياً، سيتوجب على تركيا أن تضمن أمن التكنولوجيا الروسية وتوافق على إرسال موسكو لخبراء تشغيل روس مع البطاريات، وهو أمر من المستبعد أن تقبل به تركيا العضو في "الناتو". يقول المنطق التقني إن العرض الروسي وبالرغم من جاذبيته الاستثنائية يواجه مصاعب جدية للتنفيذ، وبالتالي فالنتيجة المنطقية تقود إلى طريق إجباري مؤداه أن موسكو لا تريد في الواقع أن تمتد شبكة الصواريخ الباليستية التي تزمع واشنطن نشرها في بولندا وتشيكيا إلى تركيا، وبالتالي فهي تستخدم عرض توريد الصواريخ المتطورة من طراز "إس-400" للتأثير على اختيارات تركيا الإستراتيجية وليس لتوريدها فعلاً.

لا ننسى في هذا السياق أن موسكو تؤمن جانباً كبيراً من احتياجات تركيا من الطاقة كما أن موسكو لها يد في القوقاز وتتنافس مع تركيا وتتعاون معها في توازناته، كما أن تركيا، وبرغم تحالفها مع واشنطن، تريد تحييد نفسها عن المواقف الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في ما يتعلق بالقوقاز، وكلنا يتذكر موقف تركيا المختلف عن الموقف الأميركي في موضوع جورجيا.

لا تريد أنقره بأية حال أن تربح عدواً جديداً هو موسكو، ومجرد انطلاق المباحثات التركية - الروسية حول الصواريخ "إس-400" سيرسخ هذا الانطباع. وهكذا ستثبت المفاوضات - مجرد المفاوضات - حول الصواريخ صورة تركيا التي تريدها لنفسها، أي الدولة المستقلة عن الأحلاف، والدولة الإقليمية الصاعدة التي تحتفظ لنفسها بمسافة عن كل الأطراف. لذلك فالأرجح أن تظل المفاوضات حول الصواريخ "إس-400" قائمة بين موسكو وأنقره لفترة من الزمن، بالرغم من أن نجاح الصفقة يبقى أمراً مستبعداً، بسبب أن استمرار المفاوضات في حد ذاته سيحقق منفعة معنوية للطرفين.

تُعدل تركيا أولاً بأول وعبر تطبيق سياسات "العمق الإستراتيجي" من شروط التحالف مع واشنطن، وتقدم درساً بليغاً إلى الدول العربية مفاده أن التحالف الدولي مع الولايات المتحدة الأميركية لا يمنع من تعديل شروط هذا التحالف بما يحفظ مصالحها الوطنية. والأخيرة تتحقق من طريق اكتساب المزيد من هوامش الحركة ومساحات المناورة مع القوى الدولية والإقليمية المختلفة، وليس عبر الاستكانة في عباءة واشنطن بدون أفق إستراتيجي أو مهارات سياسية. احتدام الصراع على تركيا وعمقها الإستراتيجي يجسد في حد ذاته القيمة الكبرى لتركيا في السياسة الدولية!