خبر التراجع الانتخابي للقوى الإسلامية السياسية ..د. بشير موسى نافع

الساعة 09:24 ص|28 مايو 2009

ـ القدس العربي 28/5/2009

لم يكن أداء الإسلاميين الكويتيين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة جيداً، لا الإخوان المسلمون منهم ولا السلفيون أو المستقلون. بحصولهم على 11 مقعداً من مقاعد البرلمان الأربعين، يكون الإسلاميون قد خسروا عشرة من المقاعد التي احتلوها في البرلمان السابق، قصير العمر. وهو تراجع عام وشامل ولا يخص واحدة من الفئات الثلاث دون الأخرى، بمعنى أنه تراجع للتيار الإسلامي السياسي بكل تعبيراته. الكويت، بالطبع، بلد عربي صغير سكانياً، ولا يمثل ثقلاً تاريخياً ثقافياً أو سياسياً، وربما يمكن الجدل بأن حراكه السياسي لا يمثل دليلاً ولا مؤشراً على متغير يتعلق بالمجال العربي الإسلامي ككل. ولكن الحقيقة أن تراجع التيار الإسلامي السياسي الانتخابي في الكويت سبقه تراجع مماثل في المغرب، وتراجع شبيه، وإن ملتبس، في الأردن واليمن وباكستان وإندونيسيا. بكلمة أخرى، ثمة قرائن عربية، وغير عربية، على أن التيار الإسلامي السياسي ليس في طريقه إلى اجتياح الدول العربية والإسلامية، وأنه يتقدم ويتراجع طبقاً لمعايير ومقاييس وتدافعات ومؤثرات داخلية وخارجية عديدة، كما القوى السياسية الحديثة عادة.

منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران في 1979، واستيلاء الإسلاميين السودانيين على السلطة بعد عشرة أعوام، ثم انتصار الإسلاميين الجزائريين في الانتخابات البلدية، واقترابهم من تحقيق انتصار انتخابي برلماني كبير في مطلع التسعينات، الانتصار الذي تطلب انقلاباً عسكرياً وحرباً أهلية لمنعه، ولد انطباع كاسح بأن القوى الإسلامية السياسية، إن أعطيت الفرصة، ستسيطر بسهولة على مقاليد الحكم في أغلب البلدان العربية والإسلامية. وبالصعود الانتخابي الكبير لحزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين، تحول الانطباع إلى ما يشبه الثابت السياسي غير القابل للجدل أو المناقشة. وقد تعاملت النخب الحاكمة والدول الكبرى مع هذا التطور الجديد في المناخ السياسي العربي والإسلامي بوسائل ومقاربات متنوعة، استهدفت جميعها، على أية حال، استيعاب الظاهرة ومحاصرتها. في بلدان عربية وإسلامية، مثل اليمن والمغرب والأردن ولبنان والجزائر والكويت وباكستان وإندونيسيا، وجد أن الأفضل للدولة والاستقرار الاجتماعي السياسي إفساح مجال انتخابي للقوى الإسلامية السياسية. في دول أخرى، مثل مصر، حيث ليس ثمة حزب إسلامي التوجه سمح له بالعمل السياسي الشرعي، وحيث تقاليد راسخة لتحكم أجهزة الدولة في العملية الانتخابية، أتيح للإسلاميين هامش محدود، سواء للمشاركة في العملية السياسية أو الحياة السياسية العامة. في بلدان أخرى، مثل تونس وليبيا وتركيا، منعت القوى الإسلامية السياسية كلية، إما بوسائل القمع الأمني أو القمع الدستوري والقضائي. ولكن المؤكد أن النخب الحاكمة اجتمعت على القلق من الصعود الإسلامي السياسي، وعلى مشاركة الحلفاء الغربيين، سيما الولايات المتحدة، الخشية العميقة من إمكانية سيطرة التيار الإسلامي السياسي على الحكم.

بيد أن دوافع القلق والخوف تختلف، بهذه الدرجة أو تلك، بين النخب الحاكمة وحلفائها الغربيين. من ناحية، حمل الخطاب الإسلامي السياسي إيحاءات شعبية وأخلاقية، وتوجهات مناهضة للفساد، هددت سيطرة النخب الحاكمة على السلطة والثروة. في دولة مثل الجزائر، حيث قبلت أجنحة من التيار الإسلامي السياسي شروط ومعايير النخبة للحكم والسلطة، لم يرحب بهذه الأجنحة في ساحة العمل السياسي وحسب، بل وفتح لها المجال للمشاركة، ولو الهامشية، في السلطة. ومن ناحية أخرى، أكد الخطاب الإسلامي السياسي على استقلال القرار الوطني، ومعارضة النفوذ الخارجي السياسي والاقتصادي في الداخل العربي والإسلامي؛ وأخذ موقفاً بدا في كثير من الأحيان موقفاً غير مساوم فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. في بلد مثل العراق، حيث تحالفت قوى إسلامية مع الولايات المتحدة، وساهمت في تسويغ الغزو والاحتلال، لم يفسح المجال السياسي لهذه القوى وحسب، بل وسلمت مقاليد الحكم والسلطة كذلك. مشكلة الإسلام السياسي، كما يبدو، خارجياً وداخلياً، ليست في الإسلام، بل في السياسي، ليست في حملها هوية إسلامية، بل في التوجهات السياسية لبرامجها. وهذه المشكلة هي التي ينبغي النظر إليها أيضاً في التراجعات الانتخابية للتيار الإسلامي السياسي في الكويت، أو في هذه الدولة أو تلك.

إن كانت الأغلبية الساحقة من المواطنين في هذا الفضاء القاري الممتد من نواكشوط إلى جاكرتا ترى نفسها مسلمة، وتعتبر الإسلام مكوناً رئيسياً من مكونات هويتها، فإن القوى الإسلامية السياسية لا ينظر إليها باعتبارها ضمانة للإسلام والانتماء الإسلامي. الشعوب المسلمة لا تحتاج القوى الإسلامية السياسية لتمنحها شهادة الإسلام؛ ما تنظر إليه الشعوب هو مقدار تلبية برامج ورؤى وسياسات هذه القوى لطموحاتها ومطالبها، سيما أن هناك خيبة أمل متعاظمة في القوى السياسية الأخرى، في جدية خطابها الإصلاحي وفي قدرتها على تلبية هذه الطموحات. وليس ثمة شك أن استناد الخطاب الإصلاحي إلى مرجعية إسلامية، مرجعية حقيقية أو متصورة، يعطيه مصداقية أكبر، ويعزز لدى متلقيه شعوراً أعمق بالثقة. عندما تمتحن البرامج والسياسات الإصلاحية للقوى الإسلامية السياسية وتخسر الامتحان، عندما تفتقد هذه البرامج والسياسات الصلة الضرورية بالواقع وقضاياه الملحة، عندما يفتقد الخطاب الإسلامي السياسي مسوغاته الموضوعية، فالنتيجة الطبيعية هي التراجع الانتخابي. بعض من القوى والشخصيات السلفية الكويتية تتبنى خطاباً إصلاحياً يتضاءل أمامه أي خطب معارض عربي آخر؛ وبعض القوى السلفية الكويتية هي الأكثر تخلفاً في العالم العربي، وهي قوى تجهل إلى حد كبير الميراث الإصلاحي العظيم للسلفية العربية الإسلامية الجديدة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين. ولكن السمة الأغلب للتيار الإسلامي الكويتي، سيما في السنوات القليلة الأخيرة، سواء بفعل الحملات الإعلامية أو كانعكاس لواقع حقيقي، أنه تيار متخلف اجتماعياً، وضيق الأفق. ولذا، فإن التراجع الانتخابي الأخير لم يكن الأول، بل سبقه تراجع لا يقل أهمية في الانتخابات البرلمانية السابقة. النواب الذين تصدوا للقضايا السياسية الملحة، وحملوا مسؤولية حل المجلس وعقد انتخابات مبكرة، عادوا في أغلبهم إلى مقاعدهم، في توجه انتخابي معارض كلية لرغبات الحكم الكويتي. وبخلاف انتخاب أربع نساء للمجلس، وهو استحقاق كويتي سياسي متأخر إلى حد كبير، فإن القوى التي توصف بالليبرالية، ويفترض أن تشكل بديلاً للتيار الإسلامي السياسي، لم تحقق تقدماً يذكر.

ما ينطبق على الكويت يمكن أن ينطبق على كل بلد عربي يسمح فيه بمشاركة التيار الإسلامي السياسي في الحياة السياسية والعملية الانتخابية. ولعل المثال الآخر الأبرز كان العراق، حيث أطاح الناخبون العراقيون بالقوى السياسية الإسلامية الطائفية، السنية والشيعية على السواء، وأجبروا قوى أخرى على تغيير خطابها السياسي قبل أن يمنحوها أصواتهم، بالرغم من أن المناسبة كانت انتخابات محلية وبلدية وليست انتخابات برلمانية. ولكن ثمة حالات استثنائية بالتأكيد قد لا تنطبق عليها المعايير ذاتها، حيث تتقدم القضية الوطنية كل القضايا الأخرى، كما في فلسطين، أو حيث يقوم النظام السياسي على قواعد طائفية بحتة، كما في لبنان. بغير ذلك، فإن القوى الإسلامية السياسية ستجد نفسها خلال السنوات القليلة القادمة مجبرة على تحمل مسؤولياتها كقوى سياسية فعالة، وعلى التصدي لأولويات الحياة السياسية بكفاءة وجدية، أو أن تفقد ثقة الناخب، جزئياً أو كلياً. وهذا ما يطرح مسألتين هامتين، تتعلق الأولى بالأنظمة الحاكمة وحلفائها من الدول الغربية الكبرى، وتتعلق الثانية بالعقل والخطاب السياسيين للقوى الإسلامية.

يمكن، بالطبع، وصف الدول التي تمنع التيار الإسلامي من الحياة السياسية والعملية الانتخابية، في شكل كلي وفج أو في شكل موارب، بكل أوصاف الاستبداد وغياب الحياة الديمقراطية. وهذا صحيح بالتأكيد. ولكن الأخطر أن هذه الأنظمة تمنع الشعوب من ممارسة حقها في امتحان الخطاب والبرامج السياسية للقوى الإسلامية، في الوقت الذي تحوز هذه القوى على ثقة قطاعات وشرائح واسعة من الشعب، بل وتلعب دوراً مؤثراً في صياغة رؤية الشعب وفي بنية المنظمات النقابية والمدنية غير السياسية بالضرورة. كيف يمكن، مثلاً، أن يتمتع الإخوان المسلمون المصريون بدور بالغ التأثير في الدوائر الجامعية الأكاديمية، في اتحادات الطلاب، في النقابات والاتحادات المهنية، بل وأن يحصلوا على زهاء خمس المقاعد البرلمانية، وأن لا يسمح لهم بتشكيل حزب سياسي شرعي، أو عقد مؤتمرات انتخابية وسياسية يعرضون فيها تصوراتهم وبرامجهم على الشعب المصري؟ في كل الحالات التي تم فيها تطبيع الحياة السياسية، لم يكتسح الإسلاميون الحكم والسلطة ولم يطيحوا بجهاز الدولة والنظام؛ وعندما نجحت بعض القوى الإسلامية في الحصول على أغلبية تؤهل للحكم منفردة أو متحالفة، لم تضع نهاية للعملية السياسية الانتخابية كما كان التصور في الثمانينات والتسعينات. وبينما ترى الشعوب أن هذه القوى قد رفدت الحياة السياسية والثقافية بقدر كبير من الحيوية، بل وأعطت التعددية السياسية الكثير من المعنى، فإن الشعوب لن تغض النظر عن أخطاء وقصور هذه القوى، وستحاسبها كما تحاسب التيارات السياسية الأخرى، وربما على أساس من مقاييس أكثر قسوة.

المسألة الثانية، أن على القوى الإسلامية السياسية أن تدرك أن الهوية الإسلامية لا توفر حصانة من المحاسبة الشعبية، وأن وجود عدد ملموس منها في الساحة السياسية قد مضى عليه زمن كاف يستدعي خضوعها لمعايير الإنجاز والكفاءة والمصداقية السياسية المعروفة. الجمع بين الدعوة الإسلامية والعمل السياسي، وفي أحيان كثيرة الجمع بين وسائل وقيم وطرائق الحقلين، لن يتقدم بهذه القوى كثيراً.