خبر غزة: « المشاطيح » الخشبية تضفي « أنتيكة » جديدة على صناعة الأثاث والموبيليا

الساعة 06:53 ص|27 مايو 2009

فلسطين اليوم : وكالات

تراصت أعمدة من "المشاطيح" الخشبية بفناء حوش واسع يعود للمواطن عزمي الشيخ (58 عاما)، من حي الدرج بمدينة غزة، وفي الداخل عكف "الشيخ" مع صغيره الذي لا يتجاوز 11 عاما على خلع المسامير المثبتة بالألواح الخشبية بواسطة" عتلة صغيرة" أضاف لها قائم حديدي طويل يمكنه من خلع المسامير الطويلة بسهولة.

وتزايد الطلب على شراء "المشاطيح" الخشبية بعد أن فرضت "إسرائيل" حصاراً مشدداً على 1.5 مليون نسمة يقطنون في 36 كيلو متر مربع، ومنعت إدخال المواد  الخام الأساسية اللازمة للصناعة والإنشاء.

ويعتبر "الشيخ" أول من امتهن تلك الحرفة بضاحيته قبل اندلاع انتفاضة الأقصى، لكن سرعان ما انتشرت منطقة سكناه بكثيرين ممن يعملون  في هذا المجال، فشبح البطالة دفعهم للبحث عن فرصة عمل بديلة لمهنهم الأصلية التي تلاشت ملامحها من القطاع.

وتبدو منطقة "قرقش" مسقط رأس "الشيخ" أشبه بسوق لأخشاب "المشاطيح" المنتشرة في الأزقة، وأمام بيوت مالكيها، والتي تشهد إقبالا منقطع النظير من النجارين،الذين يتوافدون لشرائها، واستخدامها في صناعة الموبيليات والأثاث المنزلي.

وتعد المساعدات الاغاثية للقطاع المنكوب، والبضائع التجارية التي يسمح الاحتلال بإدخالها في أوقات متفرقة مصدرا" للمشاطيح" الخشبية، ويقوم "الشيخ" وأقرباؤه بشرائها من التجار، ومن ثم تنظيفها من المسامير وبيعها للمناجر الخشبية، فهي تشهد ارتفاعا ملحوظا في تلك الآونة؛ لقلة المعونات الواردة للقطاع، مما أدى إلى زيادة الطلب عليها، و تخزين النجارين كميات كبيرة منها – حسبما يشير "الشيخ".

وساهم الحصار المضن بشح الأخشاب من الأسواق، وارتفاع أسعارها بشكل جنوني، وتصاعد سعر كوب الخشب ثلاثة أضعاف سعره الحقيقي" في حال وجوده" ؛ بسبب إغلاق المعابر، وتصنيفه ضمن المواد الممنوعة . 

ويصف "الشيخ" مهنته بالجيدة ، فسعر اللوحة الواحدة من "المشطاح" تصل إلى ثلاثة شواقل، علما بأن سعره كاملا قبل الحصار كان لا يتجاوز الأربعة شواقل، أما الآن فيتراوح بين 40-50 شيقل، "فالألواح الخشبية أصبحت عزيزة في هذا الوقت"- كما يقول.

ولا تحتاج عملية التنظيف منه، سوى تبليل الأخشاب بالمياه قبل تفريكها حتى تسهل عملية خلع المسامير بدون تكسير الألواح المثبتة بقوة، وفرزها حسب الأطول والأحجام المتساوية.

ولا تقتصر حاجة النجارين للمشاطيح فقط، فأعداد كبيرة من مقاولي البناء باعوا أخشباهم، في ظل انعدام فرص العمل وعدم سماح الاحتلال بإدخال مواد البناء والحديد والأسمنت.

فالمقاول رافع الأيوبي(38)، باع كمية كبيرة من أخشابه التي رزحت فترة طويلة في المخازن دون أن يستفيد منها ولو بشيء يسير من المال، ويقول حجازي:" أسعار الأخشاب مغرية، فقد بعت كمية من الأخشاب المستعملة المدهونة بالزيت الأسود إلى احد النجارين بسعر يضاهي سعرها الحقيقي وهي جديدة.

ويشهد فصل الصيف إقبالا على الموبيليا والأثاث المنزلي, لاسيما لدى المقبلين على الزواج فهم بحاجة إلى فرش شققهم السكنية وتزيينها بالأثاث المنزلي, ومع استمرار هذا الغلاء" يزداد الطين بلة" لدى الأزواج الشابة  فهم مجبرون على شراء تلك الأشياء الضرورية التي لا غنى عنها؛ الأمر الذي يدفعهم  إلى إنفاق ميزانية قد تفوق مهر العروس.

الشاب محمود صلاح (22 عاما)، بحث كثيراً عن غرفة نوم لفرحة العمر المقبلة بعد شهور، لكن أسعارها الغالية دفعته للبحث عن غرفة نوم مستعملة في إحدى المعارض التي تبيع الموبيليا المستعملة الواقعة على امتداد شارع  الصحابة في مدينة غزة, وارتسمت على ملامحه الذهول والدهشة عندما  طرأ على مسامعه أن ثمن الغرفة يبلغ 1000  دينار أردني, فبهذا المبلغ الخيالي كان بإمكانه أن يشتري غرفتين نوم قبل أن تفرض "إسرائيل" حصارها على قطاع غزة.

وأصبحت تلك الأزمة فرصة ذهبية للمواطنين الفقراء التي أجهزت عليهم البطالة, ونفذت مدخراتهم لقلة فرص العمل، الأمر الذي سول لبعضهم ببيع غرفة نومه بمبالغ معقولة, لمواصلة حياته اليومية بعيدا عن ذل السؤال و الحرمان، والوقوف في طوابير البطالة.

ويساور صلاح القلق لعدم تمكنه من شراء غرفة النوم, مما قد يدفعه إلى تأجيل موعد زفافه, أو أن يضطر مغلوبا" على أمره إلى شراء غرفة نوم مستعملة  بسعر لا يتناغم مع قدراته المالية؛ الأمر الذي سيثقل كاهله ويغرقه بالديون.

ولم يكن المتضررون بمنأى عن تلك الأزمة المتشعبة، التي لفحت برياحها الهوجاء حياة المواطنين، فالمواطن ناصر العشي (39عاما)، من مخيم جباليا يعجز عن اقتناء دولاب خشبي  يتسع ملابسه المعبئة في صناديق كرتونية، بعد تحطم أثاثه  بالكامل تحت ركام منزله، إبان الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزة.

ووفقا للإحصائيات المسجلة- فإن الحرب التي شنتها "إسرائيل" خلفت أضرارا جسيمة في أكثر من 20 ألف منزل، بينها حوالي خمسة آلاف دمرت كليا، وتحطم أثاث المتضررين بأكمله تحت أنقاض منازلهم.

وربما يستغني هؤلاء عن كماليات الحياة، وهمهم الوحيد الحصول على بعض القطع الأثاثية، فهم يجوبون معارض الموبيليا التي تفتقر الى طلبهم المنشود.

وينتاب العشي اليأس في رحلة بحثه عن دولاب بمعارض الأثاث والموبيليا الفاخرة، وفي كل مرة يغادر مهرولا من أسعارها الخيالية، ويأمل أن يفلح في العثور على أسعار تواكب قدرته المالية وأوضاعه التعيسة.

يقول العشي العاجز عن تدبير أمر يسير من  متطلبات حياتيه  اليومية "للرسالة" بلهجة بائسة: شراء أي قطعة أثاث أصبح ضربا من الخيال، فالأخشاب لا تدخل القطاع منذ فرض الحصار، مما جعل الأسعار تناطح السحاب، وتعلو ملامحه الدهشة والتعجب متابعا: يصف لك البائع قطعة بالية من الأثاث بالمتينة، والجيدة، مثيرا السخرية بثمنها الذي يوازي قطعة جديدة، وفي النهاية لك خياران أحلامهما مر، إما الشراء، أو الانتظار لحين رخص أسعارها.

وتعتبر أسعار الأثاث المنزلي خيالية بالنسبة لميسوري الحال, الذين يعيشون حياة أكثر قتامه من أي وقت مضى, لاسيما وأن فرص العمل تضاءلت بشكل كبير, وارتقت البطالة أعلى مستوياتها حيث يرزح نحو 70% تحت عباءة الفقر المدقع.

وغطت سحابة كثيفة من الغبار منجرة المواطن توفيق المصري(50 عاما)، الذي كان يعمل بطرقٍٍ يمكن تصنيفها "بالبدائية"، فهو تذوق آلام الإغلاق الذي منع الألواح الخشبية من ورشته منذ أكثر من عامين.

ويشير توفيق المصري إلى أن الطلب على الأثاث تزايد بعد الحرب الإسرائيلية نتيجة الدمار الذي لحق ببيوت المواطنين، ورغم أن محله شبه خاوي إلا أن الزبائن تتوافد عليه بشكل مستمر والأمل يحدوهم بإمكانية الحصول على دولاب أو بعض الأسرة.

ويعد شارع الصحابة سوقا شعبيا للأثاث المستعمل الذي ترتاده أطياف مختلفة من المواطنين، وأغلبهم يبحثون عن غرفة نوم أو دواليب في هذه الأيام- كما يقول": لا أستطيع الإيفاء بطلبات المواطنين فشح الأخشاب وغلائها يعكران صفو العمل.

ولم ييأس المصري كباقي النجارين الذين عجزوا عن مسايرة الأوضاع المريرة، والعمل بهذه الطريقة البدائية، وشمر عن ساعديه لينتج قطع أثاث جميلة، اكتسبت رونقا يحاكي  قطع "الأنتيكة" الجميلة.

ويعتبر تصنيع قطعة من الأثاث ضربا من الجنون على  حد وصفه، فالحصول على لوح كامل من الخشب يحتاج ساعات طويلة تمر بمراحل مختلفة من العمل المستمر على لصقه وصنفرته- كما يقول.

وجدير ذكره أن " إسرائيل" لم تسمح بإدخال الأخشاب إلى قطاع غزة منذ حصاره، إلا مرتين خلال تهدئة يونيو/ 2008م  السابقة التي عمرت ستة شهور، وانتهت بحرب شعواء عصفت بكافة أشكال الحياة الغزية.

وأضاف بابتسامة خافتة: رواد المنجرة يصعقون للولهة الأولى من الأسعار، لكن سرعان ما يعودون للشراء، بعد أن يطلعوا على تقارب الأسعار في كل المناجر، وحجم المعاناة لغياب الأخشاب، وغلاء المواد الخام الشحيحة المتوافرة في الأسواق بعد تضييق الخناق على الأنفاق الجنوبية.

وتبقى استغاثات الغزيين كصرخة في واد ونفخة في رماد، أمام تجاهل المجتمع الدولي والعالم العربي في فك الحصار عنهم، وأمام ضيق الحال فلم يعد بإمكانهم سوى ابتداع بدائل لم يألفوها من ذي قبل للتحايل على الواقع  المرير.