الإصلاحات القضائية في "إسرائيل": أسباب ودوافع

الساعة 01:26 م|23 فبراير 2023

فلسطين اليوم | عبد الرحمن شهاب

أطلس للدراسات عبد الرحمن شهاب 
 
تمر إسرائيل في مرحلة صراع داخلي يتعلق بالإصلاحات القضائية، التي تقودها الحكومة الحالية، وهو صراع بين المؤسستيْن التنفيذية والتشريعية من جهة، وبين القضائية - وعلى رأسها المحكمة العليا - من جهة أخرى، والذي يسعى من خلاله الائتلاف إلى تقييد صلاحيات المحكمة العليا وملحقاتها القضائية.

مكانة المحكمة العليا

في النظام الديموقراطي، هناك توازن بين السلطات الثلاث (القضائية والتنفيذية والتشريعية)، كما أن مُميزات النظام البرلماني تجعل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية سلطة شبه واحدة، حيث إن السلطة التشريعية يُسيطر عليها الائتلاف الحكومي من خلال الحزب الحاكم وحلفائه، وبالتالي نفس الائتلاف هو الذي يشكّل الحكومة التنفيذية، ما يعني أنهما يصبان في النهاية في إطار سياسة الجهة الحاكمة.

يعتبر اليمين الإسرائيلي أن حزب "العمل" والقاضي اهارون براك قد قادا انقلابًا قضائيًا أوائل التسعينيات، خلال غياب اليمين عن الحكم وتوافق الأحزاب المُشكّلة للحكومة مع جهاز القضاء على خطوات أكثر ليبرالية، وتعزيز القضاء الذي حرر نفسه من قيود السلطتيْن التشريعية والتنفيذية، والتحول إلى طرف حاسم في التوازن بين مركبات القوة، ليعمل في نهاية الأمر على تبني أفكار أكثر يسارية وقيم أكثر ليبرالية، ويستطيع فرضها على المجتمع والنظام السياسي، تضمنت سنّ قوانين أساس تتعلق بحقوق الإنسان والحريات، ومن ثم إصدار قرار محكمة عليا بأن هذه القوانين تمثل مكانة قانونية أعلى من كل القوانين الأخرى، القرار الذي عُرف لاحقًا باسم قانون "بنك مزراحي" وترسيخ مفاهيم تفسيرية لتلك القوانين.

مبادئ أقرتها المحكمة العليا

بعد إقرار مجموعة من قوانين الأساس التي تعزز دور المحكمة العليا، إضافة إلى ترسيخ مفاهيم قضائية أصبحت لاحقًا معايير لتفسير القوانين، واستجابة لما يقع بين القوانين مثل معيار التناسبية (מבחן הסבירות) في كل شيء، وكذلك سلامة النية (תום לב) الذي كان مقرًا بالقانون منذ 1973، لكن اهارون براك قام بتوسيع العمل بالمفهوم في كل المجالات القانونية، يتركز هذا المفهوم في اشتراط توفره خلال المفاوضات لأجل توقيع العقود بين الجهات المختلفة، ومن ضمنها الاتفاقيات الحزبية والاتفاقيات بين الحكومة وباقي الأطراف في الدولة وكذلك في الاقتصاد والعمل... الخ، وكذلك مفهوم النقض القضائي (ביקורת שיפוטית) الذي يسمح للمحكمة العليا بالاعتراض على السلطة التشريعية حال قيامها بتشريع قانون يتعارض - من وجهة نظر المحكمة - مع قوانين أخرى أو مع روح التشريع أو مع أسس الدولة (اليهودية - ديموقراطية)، بمعنى أن المحكمة العليا هي الضامن والمفسر لمبادئ الدولة ومقرر قيم النظام، هذا المبدأ القضائي معمول بهِ في الولايات المتحدة الأمريكية منذ 1947. مبدأ آخر وسعته المحكمة العليا وهو الإقدام القضائي (אקטיביזם שיפוטי) أو التوسع القضائي الذي يعزز مبدأ الرقابة القضائية.

خلال العقود الثلاث الأولى على تأسيس دولة إسرائيل، لم تقدم المحكمة العليا على توسيع مفهوم الرقابة القضائية والإقدام القضائي، حيث تم كبح هذا المفهوم من خلال مفهوم تناقضي آخر هو حق التمثيل (זכות עמידה)، حيث كانت المحكمة لا تناقش أيّ قضية دون أن ترفع إليها من قِبل متضرر، ولكن في عهد الثورة القضائية التي قادها القاضي اهارون براك بداية التسعينيات وسعت هذه المفاهيم (الإقدام القضائي والرقابة القضائية وسلامة النية) واستخدمت معيار التناسبية في كبح مبدأ حق التمثيل، بحيث يصبح أيّ شخص بإمكانه الاعتراض على أيّ شيء، كما أصبحت المحكمة العليا قادرة على مناقشة أيّ قضية دون أن ترفع إليها من أيّ جهة، بمعنى الإقدام بنفسها على المناقشة.

لجنة تعيين القضاة

جزءٌ من الاتفاقات البرلمانية تتركز في لجنة تعيين القضاة، إما بالمطالبة بالإصلاحات القضائية أو التأثير على اللجنة.

الكثير من الاعتراضات تتركز في أن القضاة أصبحوا يعيّنون أنفسهم بأنفسهم، وعلى حدّ تعبير القاضي اهارون براك يتطلب من المرشح لعضوية المحكمة العليا أن يكون مؤمنًا بأفكار "عائلة القضاة"، لكن كيف يُمكن أن يتم التحكم في ذلك؟

لجنة تعيين القضاة واستبدالهم مُكونة من 9 أعضاء، ثلاثة منهم قضاة (رئيس المحكمة العليا وقاضيان آخران من المحكمة العليا)، وزير القضاء وممثل عن الحكومة، وعضوي كنيست يتم انتخابهم بشكل سري، وفي الكثير من الأحيان كان يتم انتخابهم من الائتلاف، وأحيانًا يكون واحد من المعارضة وآخر من الائتلاف، واثنين من نقابة المحامين. كما يُشترط أن يكون من كل جهة قاضية، وذلك لتمثيل الجندر، ويشترط لتعيين قاضٍ جديد في المحكمة العليا موافقة أغلبية 7 من 9 أعضاء، بمعنى أن المحكمة العليا لديها حق الفيتو. يُذكر أنه منذ تشكيل اللجنة وسن قانونها عام 1953، كان هناك دائمًا ثلاثة من القضاة في اللجنة يصوتون بشكل "بلوك" للمرشح المتقدم للمحكمة العليا، ومنذ إقرار قانون اللجنة إلى اليوم كانت هناك عشرات المحاولات لتغيير القانون؛ كلها لم تنجح.

المقترح المقدم من وزير القضاء يريف لفين (الإصلاحات القضائية) يتضمن تغييرًا في اللجنة، بحيث يصبح أعضاء اللجنة 11 عضوًا؛ ثلاثة ممثلين عن القضاء، أحدهم رئيس المحكمة العليا وثلاثة وزراء وثلاثة رؤساء لجان كنيست (لجنة الدستور، لجنة الكنيست، ولجنة مراقبة الدولة) واثنان يمثلان الجمهور يختارهما وزير القضاء؛ هذا يعني أنه سيصبح ثلاثة قضاة وثمانية مُمكن أن يكونوا محسوبين على الحكومة.

كما سيتم عقد جلسة استماع علنية لكل قاضٍ يتم تغييره أو تعيينه، وذلك للاطلاع على أفكاره. باختصار؛ هي عملية نقل اختيار القضاة من سلطة القضاء إلى أيدي السياسيين، وبالتالي تحويل الحزب الحاكم إلى مركز القوة ومركزية النظام.

قانون التجاوز (פסקת ההתגברות)

الوضع القائم منذ العام 1994 هو أن المحكمة العليا تتمتع بقدرة الاعتراض على قوانين سنتها السلطة التشريعية، إذا رأتها تتعارض مع قوانين الأساس، التي يرى اليمين أنها تحولت إلى ما يشبه الدستور، في الوقت التي سنت بأغلبية 32 عضو كنيست فقط دون أن ينتبه أعضاء الكنيست حينئذ إلى خطورة خطواتهم حين وافقوا عليها، وأن المحكمة العليا قادرة على رد القوانين بانعقاد محكمة من ثلاثة قضاة فقط.

المقترح في الإصلاحات يتضمن أن يلزم لرفض قانون سنته السلطة التشريعية أن تنعقد المحكمة العليا بكامل أعضاءها الـ 15، ويتطلب رفضه موافقة أغلبية 12 قاضيًا من 15، وإذا تم رفض القانون من قِبل المحكمة العليا تستطيع الكنيست - من خلال قانون التجاوز - التغلب على رفض المحكمة العليا، الذي يمنحها مناقشة القانون وإقراره مرة أخرى في دورتها المقبلة، وفرضه بتصويت 61 عضو كنيست أي (50%+1).

اختبار التناسبية

كما أسلفنا أن المحكمة العليا اعتمدت اختبار التناسبية، وهي رد قرارات السياسيين أو موظفي الدولة إذا رأت أن هذه القرارات لا تتناسب مع مبرراتها أو استخدام القوة المفرطة أو عدم التناسب بين المخاطر الكامنة في الضرر المتحقق مع المخاطر الكامنة في الاستجابة الحكومية، على سبيل المثال: يرى العديد من المتطرفين أن دولة إسرائيل تتعرض لمخاطر التغير الديموغرافي نتيجة تسلل مهاجرين على الحدود، وترى المحكمة العليا أن إعادتهم إلى بلادهم تشكل خطرًا مضاعفًا عليهم إلى حد كبير عن خطر تسلل المئات أو الآلاف ومكوثهم في البلاد.

كما يرى المتطرفون من اليمين أن السلطة القضائية تحد من قدرتهم على مواجهة "الإرهاب"، مثال على ذلك الإجراءات المطلوبة لسحب الهوية الزرقاء من أعضاء المجلس التشريعي من حركة حماس، وكان آخرها تصريح بن غفير عندما أعلن عن قراره الميداني بنسف بيت الشهيد خيري علقم، حيث أشار إلى أن "هناك تعقيدات قضائية تحد من قدرتنا على ملاحقة الإرهاب"، والحقيقة أنها ليست عقبات تضعها المحكمة العليا ولكنها إجراءات قضائية تقوم بها المحكمة كي تمنع أيّ محكمة دولية من مناقشة القضية، وذلك لوجود إجراءات قانونية في إسرائيل ومناقشة قضائية تقدم على أنها إجراءات ديموقراطية منحت الفلسطينيين إمكانية الدفاع عن أنفسهم.

الخلاصة القانونية: يرى اليمين أن هذه الإجراءات، وإن كانت شكلية؛ إلا أنها تدخل في عمل السلطة التنفيذية، حيث لا يجوز لأحد أن يقول للسياسي إن كان تصرفه متوازنًا أم لا، ناهيك عن أنهم يرون أن اختبار التناسبية مبدأ ليس له معايير أو حدود.

المستشار القضائي

هل رأي المستشار القضائي للحكومة استشاري أم مُلزم؟ هذا هو بيت القصيد من الجدل حول هذه القضية، فحسب رأي الساعين للتغيير، المستشار القضائي أصبح يحدد الأجندة اليومية للدولة، وأصبح رأيه الشخصي يحدد جدول الأعمال وليس بالضرورة القانون، فقد أصبح مفسرًا للقانون ومُمثلًا له، وليس خاضعًا له كما كل أجهزة الدولة ومواطنيها.

وحسب رؤية الحكومة الحالية، فإن المستشار القضائي، الذي من المُفترض أن يمثل الحكومة أمام المحكمة العليا، على العكس يقوم بتمثيل المحكمة العليا أمام الحكومة، ويحتكر في نفس الوقت تمثيل الحكومة أمام المحكمة، فهو يقوم أحيانًا بمنع الحكومة من مناقشة اقتراح قانون أو تقديم مقترح للمناقشة في الكنيست، وأحيانًا يقوم بإفراغ بعض القوانين من محتواها.

المقترح في التعديلات القانونية هو وضع المستشار القضائي كاستشاري دون أيّ سلطة إلزامية للحكومة، بالضبط كما أوصت لجنة اغرنت (1962) التي شكلت لأجل الفصل في الخلاف بين وزير القضاء والمستشار القضائي حينئذ، وكذلك لجنة شمغار (2000) التي أشارت إلى أن الحكومة غير ملزمة برأي المستشار القضائي، وبإمكانها الحيد عن رأيه القانوني.

على المستشار القضائي أن يكون مُعينًا للسلطة التنفيذية على تنفيذ سياستها وإدارة الدولة، وليس عبئًا عليها، وأن يقدم الاستشارة في كيفية العمل وفق القانون، كما تقتضي الإصلاحات أن يسمح للحكومة ووزرائها ورجال الدولة بأن يمثلوا أنفسهم أمام المحكمة العليا، وأكثر من ذلك يسمح لهم بالاستعانة بمحامين يمثلونهم على حسابهم الخاص، وليس كما هو معمول به حاليًا، حيث يحتكر المستشار القضائي تمثيل الحكومة أمام المحكمة.