يحتوي هذا الكتاب للجاحظ على سيرة ترصد ما كان يعتمر الحياة والثقافة الإسلامية والعربية في البصرة بالعراق في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وهو عالم على هذا النحو الموصوف بالقياس مع الدنيا يوم عاش فيها الجاحظ.
أبو عُثْمان عُمَرُو بن بَحر بن مَحْبُوبٌ بن فَزارَة اللَّيْثِيّ الْكِنَانِيّ الْبَصَرِيّ المعروف بالْجَاحِظ (159 هـ-255 هـ) أديب عربي كان من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي، ولد في البصرة وتوفي فيها. وفي رسالة الجاحظ التي اشتهرت عنه مدح فيها نفسه حيث قال«أنا رجل من بني كنانة، وللخلافة قرابة، ولي فيها شفعة، وهم بعد جنس وعصبة»
سمي الجاحظ بهذا الاسم لأنه كان ثمة نتوء واضحٌ في حدقتيه فلقب بالحدقي ولكنَّ اللقب الذي التصق به أكثر وبه طارت شهرته في الآفاق هو الجاحظ. عمّر الجاحظ نحو تسعين عامًا وترك كتبًا كثيرة يصعب عدها.
لديه مجموعة كبيرة من الكتب وفي العديد من المجالات وليس فقط في اللغة العربية ومنها: البيان والتبيين وكتاب الحيوان والبخلاء والمحاسن والأضداد أشهر هذه الكتب، كتب في علم الكلام والأدب والسياسة والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة وغيرها.
يتميز الجاحظ بأنه هو من أسس لما تسمى بالفلسفة الكلامية والتي جاءت من المعتزلة، وكانت ولا زالت الفلسفة هي أداة الضمائر وآلة الخواطر ونتائج العقل وأداة لمعرفة الأجناس والعناصر وعلم الأعراض والجواهر وعلل الأشخاص والصور واختلاف الأخلاق والطبائع والسجايا والغرائز.
رسم الجاحظ في هذا الكتاب عالم بسيط، إلا أنه ضخم بما فيه من ثقافة وفكر؛ مجتمع البصرة، وهو شريحة عن المجتمع الإسلامي الذي تحقق في ذلك الزمان، وكانت الثقافة الإسلامية هي التي تعتوره، وتسري في شرايين أهله، وتَخْضِب حياتَهم، وتصبغها بصِبْغ العقيدة الإسلامية التي كانت أُسَّهُ وأساسَهُ، وميدانَهُ ونبراسَهُ، ومُقْتَدى جُلاَّسِهِ.
وبالرغم من أن الكتاب موضوعه في البخل والبخلاء، إلا أن ما فيه أعظم من هذا بكثير، فقد حشد الجاحظ فيه طريقة تفكير طائفة من الناس كانت تعيش في البصرة أيامَهُ، وتطرّق إلى قصص وأخبار جعلها عنهم محور الكتاب، ثم جَرَّت القصص إلى أخبار وقصص أخرى عن بخلاء عاشوا في الجاهلية وفي الصدر الأول من الإسلام، وفي عهد الدولة الأموية، وإلى وسائل في عصر الجاحظ كتبها أناس من المشهورين والكبراء يجتحّون فيها بالبخل وللبخل، ويحشرون كل ما فكّروا فيه من أمور تعضد هذا المسلك الذي اختاروه في الحياة، ولم يكتف الجاحظ بذلك.
وجاء الجاحظ برسالة ترد على البخل، وتنتصر للجود والإنفاق، والجاحظ في كل هذا يوضح لنا أنه يختار والإضحاك فحسب، وإن كانت الفكاهة مقصودة ومُحْتَسَبةً، إلا أنها عفوية، وليست هي المحل الأول والمرتبة العليا من الإهتمام، فوراءها ما وراءها من مقاصد اللغة، وسبيل المعرفة، وأهداف تتّجه إليها تحليلاته النفسية والفكرية، وكل هذا في نسيج يخفى إلا على المتأمل الغائص، الذي يريد أن يستغرق في أفكار الجاحظ ومقاصده وفلسفته وطريقة عرضه للأفكار، وهو أمر لم يُتِحْ لأحد أن يدرسه حتى اليوم دراسةً شاملةً مستفيضةً تستخرج لنا ماهية تفكير الجاحظ، وطبيعة فلسفته ورؤيته.