الكمبيوتر الرهيب وصناعة التفاهة

الساعة 03:57 م|22 ديسمبر 2022

فلسطين اليوم | الدكتور وليد القططي

الكمبيوتر الرهيب وصناعة التفاهة.. بقلم/ د. وليد القططي

يعرف الفيلسوف الكندي المعاصر، آلان دونو، نظام التفاهة بأنه: "النظام الاجتماعي الذي تُسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضاً عن العمل الجاد الملتزم".

نشر الكاتب البريطاني لويس إِلكسندر عام 1970 قصة بعنوان "الكمبيوتر الرهيب"، كانت مُقررة في المنهاج الدراسي المصري عام 1978 في الصف الأول الثانوي، القصة خيالية بطلها جهاز كمبيوتر ضخم بحجم الغرفة يمتلكه الجيش الأميركي، صنعه 3 مهندسين، ويوجّهه قائد الجيش الأميركي، والكمبيوتر الضخم يتحكّم في كل أجهزة الكمبيوتر الصغيرة في العالم، ومن خلالها يتحكّم في العالم.

مع الوقت، أصبح للكمبيوتر الضخم عقل مُفكّر وإرادة فاعلة وشهوة جامحة، جعلته يطمح لاحتكار التحكّم في العالم وحده دون البشر، فوضع خطةً ونفّذها بإصدار الأوامر لجنود الجيش الأميركي بتصفية المهندسين الثلاثة؛ لمعرفتهم بالرقم السري الذي يُدمّره، ثم تصفية قائد الجيش الأميركي لمعرفته كلمة المرور التي تشغّله وتوجّهه؛ لينفرد بعد ذلك في التحكّم بأجهزة الكمبيوتر الصغيرة المنتشرة في العالم، ومن خلالها يتحكّم في العالم، ليتمكّن من تغيير مسار الأحداث ونمط الحياة البشرية على كوكب الأرض.

ما تنبّأ به مؤلف قصة "الكمبيوتر الرهيب"، في خياله، مطلع سبعينيات القرن العشرين تحقق، بشكل ما، في الواقع مطلع القرن الحادي والعشرين؛ فقد تحكّمت تكنولوجيا الكمبيوتر في منظومة الحياة البشرية، مغيّرةً نمطها وطبيعتها جوهرياً، ومبدّلةً إيقاعها وصلاتها كُليّاً، ومن أهمّ مظاهر التغيّر وسائل تحصيل الثقافة وتبادل المعرفة وتواصل الناس، فبعد أنْ كانت تعتمد على الوسائل الورقية تحوّلت إلى الوسائل الإلكترونية كُتباً وصحفاً ورسائل، لا سيما بعد التطور الهائل لأجهزة الكمبيوتر مادياً وبرمجياً، والتطور الكبير لشبكة المعلومات العالمية التفاعلية (الإنترنت) على مستوى الخدمات والبرمجيات.

هذا التطور الهائل والكبير خدم البشرية إيجابياً في مختلف المجالات الحياتية، ولكن صاحبه، في الوقت نفسه، تطوّر سلبي في صناعة التفاهة في منصات التواصل الإلكترونية.

صناعة التفاهة في الغرب الذي اخترع الكمبيوتر وابتكر الإنترنت عبّر عنها الفيلسوف الكندي المعاصر، آلان دونو، في كتابه "نظام التفاهة"، ويُعرّف فيه نظام التفاهة بأنه: "النظام الاجتماعي الذي تُسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضاً عن العمل الجاد الملتزم"، من صفاته: تضخم النزعة المادية والاستهلاكية، واعتبار الإنسان مجرد شيء وسلعة بدون كرامة، وسيادة منطق الرأسمالية المتوحشة التي أحالت البشر إلى مجرد آلات مُسخّرة لتحقيق فائض الإنتاج...

وعبّر عنها المُفكر اللاتيني المعاصر، ماريو باراغاس، في كتابه "حضارة الفُرجة"، تحدّث فيه عن صناعة الرموز الرخيصة، وثقافة الاستعراض، وفكر التسطيح، وفن التهريج واللهو، وحلّل فيه الثقافة الاستهلاكية كمنتج للرأسمالية، وانتقد التركيز على التسلية والموضة والجنس والإثارة في الإعلام، وهاجم من يقيّم وجوده ودوره ونجاحه بظهوره في منصات التواصل الاجتماعي وعدد المتابعين والمشاركين والمعجبين.

إذا كانت صناعة التفاهة قد تغلغلت في الغرب فإنَّ تغلغلها في غير الغرب أعمق، لا سيما في البلاد الأقل عملاً وإنتاجاً وإبداعاً، لارتباطها عكسياً بالعمل والإنتاج والإبداع، فكلما انشغلت الشعوب بالعمل والإنتاج والإبداع تراجعت صناعة التفاهة فيها، وكانت أهمّ مُخرجات تلك الصناعة المُدمّرة الثرثرة اللغوية المنطوقة والمكتوبة، التي تزدهر عند الأمم التي غادرت العمل والإنتاج والإبداع إلى البطالة والإفلاس والإخفاق، فضربها العجز والكسل، وأقعدها الوهن والفشل، واستبدلت القول بالعمل، والتقليد بالتجديد، والتخبيط بالتخطيط، والاتباع بالإبداع، والتكرار بالابتكار، خاصة بعدما أصبح تبادل الثرثرة عبر الشبكة العنكبوتية أكثر سهولةً وسيولةً، وأسرع شيوعاً وذيوعاً وأٌقرب سفاهةً وبلاهةً، وكل ذلك القبح بفضل إبداع الغرب للكمبيوتر والإنترنت ليقوم المسلمون بتوظيفه في حملات التكفير والتسفيه ضد بعضهم البعض، وليوزعوا مُخرجات صناعة التفاهة ما بين ثرثرةٍ فارغة وإشاعةٍ كاذبة، وما بين قولٍ بذيء واتهام مُسيء.

صناعة التفاهة بواسطة الثرثرة على منصات "السوشيال ميديا" تتخذ أشكالاً عديدة، أهمها: تبادل المجاملات المزوّرة، وإظهار المشاعر المُزيّفة، وتملّق أصحاب النفوذ، وتقمّص شخصيات الناجحين، وتضخيم الإنجازات الشخصية، وتغطية الإخفاقات الخاصة، وتعويض عُقد النقص، وتصدير صورة مثالية للذات، وجلب الاهتمام والتعاطف، ولفت الانتباه والأهمية، والقيام بدور الأستاذ الحكيم... ولذلك، تُعدّ منصات السوشيال ميديا منبراً للنفاق والخداع الاجتماعي، ومنصةً للعُري الأُسري، والأفكار الشاذة، والمحتويات السخيفة، والفضائح المُثيرة، والمنشورات البذيئة، والصور المبتذلة، والفيديوهات الرديئة... وأكثر الأماكن التي يوجد فيها تناقض بين شخصية الإنسان الحقيقية الواقعية وشخصيته المُزيفة الافتراضية، والتي يوجد فيها تناقض بين ما يعمله الإنسان في العالم الفعلي، وما يقوله في العالم الافتراضي.

هذه الأشكال من مُخرجات صناعة التفاهة تقف وراءها دوافع نفسية عديدة لاسيما في المجتمعات الأقل عملاً وإنتاجاً وإبداعاً، والأكثر إحباطاً وإخفاقاً وبؤساً، وأهم هذه الدوافع النفسية اللاشعورية التفريغ الانفعالي، ليخرج الإنسان المقهور من باطنه طاقة الغضب المقموعة، ومخزون الغرائز المكبوتة، وطبقات العقد المدفونة، وأكوام الإحباطات المكدسة، وكم الأحلام الموءودة... ويساعده في هذا التفريغ الانفعالي توهّمه بأنه فعل الشيء المرغوب لمجرد أنّه قاله، واكتسب الصفة الحسنة لمجرد أنه ادعاها وانتقم من خصمه لمجرد أنه شتمه، وهذا كله يُعطيه شعوراً وهمياً بالراحة، ويمنحه إحساساً خادعاً بالسعادة.

ومن الدوافع النفسية اللاشعورية التي تقف وراء حب الناس لنشر الفضائح ومتابعة الإشاعات والأخبار التي تكشف عورات الناس وتهتك أعراضهم وتسيئ إلى سمعتهم، هي راحة الشماتة بالآخرين، كما يقول أنيس منصور في كتابه "كيمياء الفضيحة": "الناس تسعدهم الفضيحة، فهي فرصة للشماتة بالآخرين، الفضيحة هي الصرف الصحي للعلاقات الإنسانية"، وفضائح الناس تُعطي الشخص إحساساً بالأفضلية والتعالي على الآخرين، كما أنَّ مصائب الناس تُعطي شعوراً خفياً بالراحة؛ لأنَّ تلك المُصيبة تخطتنا وذهبت إلى الآخرين.

وأخيراً، منذ أن نشر لويس إلكسندر كتابه "الكمبيوتر الرهيب"، وخلال نصف قرن من الزمن، تطوّرت أجهزة الكمبيوتر وشبكة الإنترنت ومنصات السوشيال ميديا، وتطورت معهم الحياة البشرية إيجابياً في كثير من المجالات، ولكنها تغيّرت سلبياً في مجالاتٍ أُخرى، أفرزت صناعة التفاهة والتافهين، وهذا ما تنبأ به رسول الله وخاتم النبيين محمد – صلى الله عليه وسلم – في حديث السنوات الخدّاعات التي ستأتي على الناس عندما تندثر الثقافة الأصيلة، وتضعف القيم الأخلاقية، ويغيب الإبداع الحقيقي، فذكر من خصائصها: "ينطِق فيها الرويبضة"، وعندما سُئِل عن الرويبضة، قال: "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة". وهذا، بالتأكيد، لا ينطبق على صانعي المحتوى المُفيد والثقافة الجادة، التي تُساهم في تثقيف الأفراد، وتقوية الأُسر، وبناء المجتمعات، وتعزيز القيم، وتهذيب الأخلاق، وتشييد الحضارات.

 

كلمات دلالية