خبر روايتان لحرب واحدة ..وليد الخالدي

الساعة 10:57 ص|16 مايو 2009

ـ السفير 16/5/2009

لنعد الآن إلى الرواية الأسطورية الصهيونية ثم العربية. فالرواية الصهيونية فحواها ان الدولة العبرية الرضيعة، المكونة من 650,000 نسمة فحسب، ما كادت تفتح عينيها لتستقبل نور الحياة حتى اقتحمتها جيوش عربية جرارة تمثل 40 مليون نسمة تابعة لخمس دول عربية مستقلة تتمتع بطاقات الدول وقدراتها المعهودة، ومدججة بأحدث أسلحة الجيوش النظامية وأشدها فتكاً، من طائرات قاصفة ومقاتلة ودبابات ومدفعية ثقيلة، تدعمها بريطانيا العظمى التي عقدت النية على خنق الدولة الوليدة في مهدها، فأخذت تمد هذه الجيوش بما تحتاج إليه لتحقيق هذا الهدف، وأن الضحية المستهدفة، على الرغم من تفوق الجيوش الغازية عليها عدداً وعتاداً وأسلحة وموارد وعلاقات دولية، تمكنت لا من الصمود أمامها فقط بل من دحرها أيضاً. وما ذلك إلا لكون الحق إلى جانب الصهيونية وبسبب روعة مقاومة المدافعين وبطولتهم المستلهمتين من القيم الخلقية والأدبية الرفيعة للمجتمع اليهودي في فلسطين.

وفي المقابل كانت أبرز الروايات العربية الأسطورية عن حرب 1948، وأكثرها تداولاً وتواتراً إلى يومنا هذا، رواية فحواها أن القوى الصهيونية كانت مجرد عصابات إرهابية أطبقت عليها الجيوش العربية في مرحلة القتال الأولى (15 أيار/مايو ـ 11 حزيران/يونيو) من كل صوب، فتوغلت في أعماق فلسطين، ووصلت طلائع الجيش المصري إلى ضواحي تل أبيب الجنوبية، وطلائع الجيش العراقي إلى قاب قوسين أو أدنى من شاطئ البحر الأبيض المتوسط غربي قلقيلية وطولكرم، وطلائع الجيش العربي (الأردني) إلى ضواحي تل أبيب الشرقية. ولم يبق سوى حفنة من أيام معدودة تسدد الضربة القاضية فيها إلى العدو ويحسم الأمر ناجزاً، وإذ بالضغوط الدولية تتراكم وتتصاعد وتصل حداً من التهديد والوعيد إنقاذاً له، لا تترك سبيلاً للحكومات العربية سوى الرضوخ لها، وتفرض الهدنة الأولى فرضاً عليها، وينتزع الكيان الصهيوني النجاة من فكي هزيمة محتومة لا مفر آخر له منها.

بيد أن دنيا الأساطير شيء ودنيا الواقع المر شيء آخر كلياً، وهو ما أدركته في وقت مبكر، عقب النكبة مباشرة، عصبة من مفكري العرب على رأسهم قسطنطين زريق وساطع الحصري وموسى العلمي وجورج حنا، في كتابات سبرت أغوار الخلل المجتمعي العربي سبراً محكماً، وهو خلل انبثقت من جذوره الدفينة أسباب هزيمتنا الحقيقية، لكنها كتابات لم تتمكن، على الرغم من رواجها، من طمس أساطيرنا عما جرى في حرب 1948 ودفنها إلى الأبد.

والواقع، خلافا للرواية الصهيونية، أن الكيان اليهودي في فلسطين عشية 15 أيار/ مايو 1948 لم يكن ذاك الوليد الرضيع الهش وإنما كان مجتمعا عصريا غربيا صناعيا متماسكا ينبض بالحيوية، مضى على تكوينه سبعة عقود منذ بدء الاستيطان الصهيوني في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر بفضل المنظمة الصهيونية العالمية، وتجذّرت قواعده خلال ثلاثة عقود من الانتداب البريطاني والحماية البريطانية منذ نهاية الحرب الكونية الأولى، وكان قبل إعلانه كدولة ليلة 14 ـ 15 أيار/ مايو دولة بكل معنى الكلمة لا ينقصها سوى التسمية، لها من أسباب القوة والمنعة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والدولية ما لم يكن لأي من الدول العربية المجاورة. ولم تقتصر «رعية» الكيان اليهودي في فلسطين، في يوم من الأيام، على من فيه من يهود بل شملت بفضل المنظمة الصهيونية الجوالي اليهودية القادرة النشيطة في سائر أنحاء العالم، خصوصا في الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. فكان الكيان اليهودي الفلسطيني ولا يزال بمثابة الواجهة والمصب لطاقات هذه الجوالي البشرية والمادية والسياسية والدعاوية. وهذا ما حدث بنوع خاص سنة 1948 حين تجندت الجوالي اليهودية الغربية جميعاً لمد الكيان اليهودي الفلسطيني بكل ما افتقر إليه ولزمه لإدارة الحرب وتصعيدها، علماً بأن العبرة ليست في الكم كما يشهد بذلك تاريخ الاستعمار الغربي المديد لدول افريقية وآسيوية يقطنها مئات الملايين من السكان.

وخلافا للرواية الأسطورية العربية، لم تكن الجيوش العربية عند نهاية مرحلة القتال الأولى وإعلان الهدنة الأولى (11 حزيران/ يونيو 1948) على وشك تسديد ضربة قاضية إلى الدولة العبرية، ولا هي كانت على أية مقربة من وضع كهذا. صحيح أنها، أو بعضها (القوات الأردنية والعراقية والمصرية)، توغلت بعيداً داخل فلسطين خلال هذه المرحلة، لكن تقدمها جميعا كان عبر مناطق عربية صرفة لا يهودية.

وليد الخالدي، «خمسون عاماً على حرب 1948»