خبر إسرائيل والقدس.. من معركة الجغرافيا إلى الديموجرافيا ..محمد جمعة

الساعة 07:23 ص|13 مايو 2009

إسرائيل والقدس.. من معركة الجغرافيا إلى الديموجرافيا ..

محمد جمعة

من الخطأ النظر إلى عمليات سحب "الهوية" من "المقدسيين" والتوسع في سياسة هدم المنازل، والتي تباشرها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في هذه الآونة على أنها مجرد رد فعل على تزايد العمليات الفدائية في مدينة القدس، لكنها من منظور أكبر تمثل إحدى تجليات "معركة الديموجرافيا" في القدس، تلك المعركة المستمرة منذ استيلاء إسرائيل على الجزء الشرقي من المدينة في عام 1967 وحتى الآن.

ومنذ يوليو الماضي وقعت أربع عمليات (ثلاث منها في شهر واحد فقط) أسفرت عن مقتل 13 إسرائيليا وإصابة أكثر من ثمانين شخصا آخرين، كان آخرها تلك العملية التي وقعت في شارع يافا المركزي مساء يوم 22 سبتمبر 2008.

 

بيد أن هذه الإجراءات الإسرائيلية تسبق تلك العمليات من الناحية الزمنية، وتندرج ضمن المخطط الإسرائيلي الممتد لإحداث تغيير جذري على صعيد الديموجرافيا في القدس، بعد أن تم حسم المعركة تقريبا لصالح الاحتلال الإسرائيلي على صعيد الجغرافيا.

 

الشاهد على ذلك أن إسرائيل أقدمت على سحب هويات 1363 فلسطينيا مقدسيا خلال عام 2006 فقط، وهو عام لم تشهد فيه المدينة عملية واحدة ضد إسرائيل، فضلا عن أن حكومة أولمرت ومنذ 27 نوفمبر 2007، أي منذ مؤتمر أنابوليس وحتى الآن، قررت بناء 4486 وحدة سكنية في الضفة الغربية، 95% منها في القدس وحدها، وطرحت بالفعل عطاءات لبناء 2178 وحدة، منها 85% في القدس، وذلك وفق تقرير لدائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية.

 

والأهم من هذا وذاك أن الكنيست الإسرائيلي أقر في 4 يونيو الماضي (أي قبل وقوع أول عملية بـ 26 يوما) قانونا يقضي باعتبار "القدس" عاصمة لـ "الشعب اليهودي"، وليس فقط عاصمة لإسرائيل!! ومعنى ذلك القانون هو أن الـ 252 ألف فلسطيني من سكان القدس هم مقيمون فقط وليسوا مواطنين، فالقاعدة بحسب القانون الجديد أنه: "لا حق لأحد من غير اليهود في القدس"، حتى ولو كان يحمل الهوية الزرقاء "الجنسية الإسرائيلية".

 

وفوق ذلك فإن القانون الجديد يعكس إصرار الحركة الصهيونية على جعل اليهودية قومية، وبالتالي يعطي الحق في "القدس" لكل يهودي، بغض النظر عما إذا كان مواطنا إسرائيليا أم لا، أو إذا كان يعيش في إسرائيل أم لا!

 

من هنا يصبح استهداف المقدسيين والتضييق عليهم سياسة إسرائيلية ثابتة، لا تتغير حتى ولو لم ينخرط المقدسيون في عمليات ضد إسرائيل، بل حتى لو قرروا مسالمتهم لها، وسلموا بالعيش في كنف الاحتلال.

 

وإذا كانت ثمة معركة ديموجرافية بين إسرائيل والفلسطينيين داخل حدود فلسطين التاريخية بشكل عام، فإن هذه المعركة داخل مدينة القدس تكتسب أهمية خاصة، ولهذا تختلف التدابير الإسرائيلية فيها عن تلك التي تباشرها في بقية المناطق.

 

ففي غزة مثلا، آثرت إسرائيل في نهاية الأمر الانسحاب من جانب واحد، كي تتخلص من 40% من العبء الديموجرافي الفلسطيني، وبأقل كلفة على صعيد الجغرافيا (1% من الأراضي المحتلة)، كذلك تبدي إسرائيل استعدادا تاما للتخلي عن منطقة "المثلث"، وضمها إلى أراضي السلطة الفلسطينية، وذلك ضمن خطة تبادل الأراضي والسكان بين مناطق الضفة الغربية ومناطق داخل الخط الأخضر، مفضلة بذلك -أي إسرائيل- اعتبارات الديموجرافيا (التخلص من 200 ألف عربي هم سكان المثلث) على اعتبارات الجغرافيا (توسيع خصر إسرائيل النحيل في محور "الخضيرة" - ناتانيا).

 

أزمة ديموجرافيا يهودية في القدس

 

وتشير معطيات لمؤسسة القدس الدولية في بيروت إلى أن نسبة السكان الفلسطينيين في القدس في تزايد مستمر منذ عام 1967 وحتى الآن؛ وذلك نتيجة للفرق في معدلات النمو بين الفلسطينيين واليهود من سكان المدينة، وتتوقع المؤسسة استمرار نمو السكان الفلسطينيين ليصل إلى 40% من سكان المدينة عام 2020، بعد أن كان يشكل 26% فقط من السكان لحظة إعلان الاحتلال رسميا ضم الجزء الشرقي من المدينة إلى دولته عام 1967.

 

وعن الهجرة اليهودية إلى القدس ومنها، توضح تقارير "مؤسسة القدس الدولية" أن الهجرة اليهودية إلى المدينة في تراجع مستمر، وأن الفارق بين عدد المهاجرين إليها من اليهود والمهاجرين منها بلغ 105 آلاف شخص تركوا المدينة بين أعوام 1980 - 2005، وأنه في عام 2005 فقط بلغ هذا الفارق 5900 شخص، حيث ارتفع عدد المهاجرين من المدينة إلى 16.200 شخص، في حين لم يتجاوز عدد الوافدين إليها 10.300 شخص، أما في عام 2007 فقد ارتفع هذا الفارق محققا هجرة سلبية وصلت إلى 6400 شخص.

 

نفس هذه الأرقام تقريبا تؤكدها معطيات جديدة لمعهد "أورشليم للأبحاث" الإسرائيلي، وكذلك بعض الأوراق البحثية المقدمة لمؤتمر هرتزليا السابع (2008)، حيث تشير كلها إلى أن ميزان الهجرة اليهودية إلى القدس يسجل تراجعا سنويا بمعدل 6000 شخص منذ عام 1998 وحتى عام 2007، وهذا يعني أن الأغلبية اليهودية في المدينة آخذة في التراجع.

 

كما تذكر تقارير إسرائيلية أخرى أن الأغلبية اليهودية في القدس التي وصلت إلى 75% من السكان عام 1967 لحظة توحيد شطري المدينة، انخفضت إلى 66% فقط عام 2006، ومن المتوقع أن تنخفض إلى 58% فقط عام 2020، لتنتهي إلى التعادل 50% مقابل 50% في عام 2030.

 

وتذكر هذه التقارير أيضا أنه ومنذ عام 1967 وحتى عام 2007 ازداد عدد اليهود في القدس بقسيمها الشرقي والغربي بنسبة 143%، في حين ازداد عدد الفلسطينيين بنسبة 268%.

 

وعن الهجرة اليهودية من القدس، تعزي الأبحاث الإسرائيلية تلك الهجرة المتزايدة (والتي قدرتها بنحو 100 ألف يهودي خلال السنوات العشرين الأخيرة) إلى عاملين رئيسيين: أولهما: الوضع الأمني المتدهور في المدينة؛ حيث وقعت في القدس وحدها منذ الانتفاضة الثانية عام 2000 وحتى الآن 642 عملية فدائية، أصيب فيها أكثر من 1700 شخص وقتل 230 آخرون، أي ما يعادل 20% من إجمالي القتلى اليهود خلال سنوات الانتفاضة الثانية.

 

وثانيهما وهو الأهم بحسب التقديرات الإسرائيلية: تدهور الأوضاع الاقتصادية؛ فالقدس هي الأفقر بين المدن الكبرى في إسرائيل، ودخل الفرد فيها هو الأدنى مقارنة بالمدن الأخرى؛ الأمر الذي يؤثر على القدرة الشرائية ومن ثم حركة التجارة بشكل عام، ناهيك عن أن ثمة وضعية خاصة يتسم بها القطاع اليهودي في القدس، وهي أن معظم سكانها اليهود من المتدينين، وهذا ما جعل اليهود العلمانيين يشعرون بأن القدس أصبحت مدينة طاردة لهم، ولهذا يرحل المثقفون من الرجال والشباب اليهود إلى الساحل؛ رغبة في الانخراط في التطور الاقتصادي الحاصل هناك، وطلبا لحياة عصرية تمثلها مدينة تل أبيب، ولا تمثلها مدينة القدس بأية حال.

 

التوسع والتهجير.. خطان متوازيان

 

ولأن العقل الجمعي الإسرائيلي بتركيبته الدينية والعلمانية يرى في القدس نواة الحلم الصهيوني، فقد تمسكت إسرائيل باعتبارات الجغرافيا والديموجرافيا معا، ولم تدفعها الأوضاع الديموجرافية غير المواتية في القدس إلى المفاضلة بين الاثنين، كما حدث في مناطق أخرى، كما سبقت الإشارة، ولهذا رفضت إسرائيل فكرة الانعزال عن أحياء عربية في القدس، وهي الدعوى التي طرحت من قبل البعض عقب الإعلان عن خطة الفصل الأحادي وبناء الجدار، وأصرت بدلا من ذلك على المضي في خطين متوازيين هما: توسيع نطاق بلدية القدس، وإبطال شرعية إقامة المقدسيين في القدس بسحب هوياتهم والتضييق عليهم.

 

أولا: على صعيد توسيع نطاق بلدية القدس شرعت إسرائيل في إقامة بنى تحتية ليس في غرب المدينة أو وسطها (لوجود عوائق طبوغرافية وجغرافية) ولكن في القطاع الشرقي المحتل؛ إذ رأت إسرائيل أن التوسع الجغرافي أو توفير احتياطي أرضي وبنية تحتية متطورة هما شرطان لتحقيق هجرة يهودية مكثفة إلى القدس، وزيادة الأغلبية اليهودية في المدينة.

 

وفي هذا الإطار ركزت السياسية الإسرائيلية على ما يلي:

 

- وصل المستوطنات الواقعة خارج نفوذ البلدية بالمدينة، بما يخلق حزاما أمنيا من الشرق.

 

- ضم مساحات كبيرة من الأراضي خارج حدود نفوذ بلدية القدس مع أقل عدد من السكان، كما حدث في منطقة جنوب شرق القدس (بيت ساحور - بيت لحم - صور باهر) لملء الفراغ بالبؤر الاستيطانية.

 

- إخراج ما يزيد عن 25 ألف فلسطيني بإقامة الجدار العازل، على الرغم من أن هذه المناطق تقع ضمن حدود بلدية القدس التي تم توسيعها بعد عام 1967 (مناطق كفر عقب - قلندية - أم الشرابط - سميراميس - شمال القدس).

 

وقد أفضت تلك الممارسات الإسرائيلية، في إطار سلسلة إجراءات وخطط مصادرة الأراضي، والتنظيم البلدي إلى ما يلي:

• 34% من الأراضي مصادرة.

• 40% أراضي خضراء.

• 7% أراضي غير مستعملة.

• 3% أراضي مجمدة.

• 6% أبنية تحتية وشوارع.

ومن ثم أضحت 90% من أراضي القدس الشرقية مقيدة تحت الاحتلال، وما تبقى لا يتجاوز 10% فقط.

 

ثانيا: وبالتزامن مع نسق تطور الملكية على النحو السالف كانت هناك سياسة التهجير أو "الترانسفير الهادئ"، أي تجريد الكثير من العائلات المقدسية من حق المواطنة، وفي هذا الإطار مارست إسرائيل من خلال وزارة الداخلية أسلوبا جديدا لتقليص عدد المقدسيين؛ وذلك بسحب بطاقة المواطنة من كل مقدسي لا يتمكن من إثبات مكان سكنه في الماضي والحاضر في مدينة القدس، وإجباره على مغادرة المدينة إلى الأبد، وفي هذه الحالة يفقد حقوقه كاملة.

 

كما عمدت سلطة الاحتلال إلى سحب الهويات الإسرائيلية من أولئك المقدسيين الذين انتقلوا للعيش في مدن الحدود المصطنعة لبلدية القدس، أي في مدن الضفة الغربية المحيطة بالقدس؛ وذلك على اعتبار أن تلك الضواحي هي خارج "إسرائيل"، مستندة إلى الفقرة (1) من المادة (11) من قانون الدخول إلى إسرائيل الصادر عام 1974، وهذا القانون يحصر الحالات التي يجوز فيها سحب بطاقات الهوية في ثلاث حالات هي:

 

أ‌- إذا تواجد الشخص خارج إسرائيل فترة سبع سنوات على الأقل.

ب- إذا حصل الفرد على إقامة في دولة أخرى.

جـ- إذا حصل على جنسية دولة أخرى بواسطة التجنس.

 

وتبعا لهذه الحالات، فإن المصادر الإسرائيلية ذاتها تقدر عدد العرب في القدس والمعرضين لفقدان بطاقة الهوية بنحو 50 إلى 60 ألف شخص، وهذا يعني ترحيلهم منها أو إبقاءهم خارجها، في حين بلغ عدد الأطفال الفلسطينيين المحرومين من التسجيل في بطاقات هويات والديهم إلى 20 ألف طفل.

 

وفي إطار السياسات الإسرائيلية لإعاقة النمو السكاني الطبيعي ومحاربة الكثافة السكانية العربية أقدمت إسرائيل على ما يلي:

 

- رفضت بلدية القدس الاعتراف بسكان قرية "خلة النعمان" كسكان مقيمين في القدس، والقرية تقع في الطرف الجنوبي للمدينة، وضمن حدود البلدية.

 

- القيام بحملات هدم المنازل العربية في المدينة بحجة عدم التصريح بالبناء، في حين يرفضون إعطاء التصاريح أو يطلبون مبالغ كبيرة مقابل منحها، وفي هذا الإطار تقدر بعض المصادر عدد المنازل العربية التي دمرت على يد الاحتلال في القدس منذ عام 1967 وحتى الآن بـ 20 ألف منزل، وفي نفس الوقت انخفضت نسبة الوحدات السكانية المبنية للفلسطينيين؛ حيث تم بناء 12% من مجموع الوحدات السكانية خلال 1967-2007 مقابل 88% لليهود في القطاع اليهودي، ولهذا بلغ متوسط عدد الأفراد العرب الذين يعيشون في البيت الواحد 8.4 أفراد مقابل 3.6 أفراد للأسرة اليهودية، ويعيش أكثر من 62% من المقدسيين في اكتظاظ سكاني شديد.

 

- اتباع أسلوب الضغط الاقتصادي لترحيل السكان عن طريق فرض ضرائب باهظة، لاسيما على المشروعات والمحال التجارية العربية، وفي هذا الإطار أغلق أكثر من 250 تاجرا مقدسيا في البلدة القديمة فقط محالهم التجارية، في حين يبلغ عدد المقدسيين المهددين أو المضطرين لمغادرة المدينة لأسباب تتعلق بظروف السكن والتعليم وشظف العيش 50 ألفا، في ظل معطيات تؤكد أن 60% من العائلات المقدسية يعيشون تحت خط الفقر.

 

إسرائيل مصرة إذن على حسم المعركة على الجغرافيا والديموجرافيا في القدس لصالحها، وليست المفاضلة بواردة بينهما عبر تطبيق خطة الانفصال في القدس، ومن ثم فهي تصعد من إجراءاتها عبر سحب الهويات وسياسة الترحيل التي لم تقتصر على الأحياء فقط، بل شملت الموتى أيضا؛ حيث أصدر "موشيه ديختر" وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي قبل شهور قرارا بمنع دفن الموتى الفلسطينيين في مقبرة الرحمة الواقعة خارج أسوار البلدة القديمة.وفي سياق كهذا تتصاعد عمليات المقدسيين ضد إسرائيل، كردة فعل طبيعية -وليس العكس- على الحرب الصهيونية ضدهم، بل لعل هذه العمليات تمثل صرخة استغاثة تقرع بقوة جدار الصمت العربي والإسلامي، ومن ورائهما الصمت الدولي.. فهل من أحد تحركه تلك الصرخة؟!

 

------------------------

 

باحث متخصص في الشئون الفلسطينية.