كاريش تسوية أم خضوع؟

الساعة 07:51 ص|15 أكتوبر 2022

فلسطين اليوم

كاريش تسوية أم خضوع؟.. بقلم/ محمد فارس جرادات

بدأت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وتل أبيب منذ عام 2012، بشكل غير مباشر، عبر وسيط أمريكي، في ظل إصرار إسرائيلي، على أخذ قسم حيوي من حقل قانا، أو ما يعرف بالخط 23 البحري، وقد استغلت تل أبيب تفوقها العسكري والدعم الأمريكي، في ظل اتفاقيتها مع قبرص على ترسيم الحدود المقابلة للطرفين، لتمضي في سياسة الأمر الواقع، وقد بلغت ذروتها بالإعلان عن نيتها ضخ الغاز من حقل كاريش في بداية أيلول 2022.

لكن مستجداً دخل على خط التفاوض البارد بين لبنان وتل أبيب، في ظل اندفاع إسرائيلي أمريكي لاستخراج غاز كاريش الغنيّ، هذا المستجد وحده من انتظمت على إيقاعه التناقضات، لتخرج في صورة تفاهم طال انتظاره، فما هو هذا المستجد؟

شكّلت الحرب في أوكرانيا تحديّاً لتوفير بديل يغني أوروبا عن الغاز الروسي، فكان غاز المتوسط، ومنه حقل كاريش واحد من البدائل، على محدوديته، بما خلق حافزاً للاندفاع بالضخ من كاريش، لكنه لم يكن المستجد الذي فرض معادلة الخروج من العناد الإسرائيلي الذي دام عقداً من الزمن، وراوح لسنتين كاملتين منذ تم الإعلان عن اتفاق إطار بين لبنان وتل أبيب، في ظل القدرة الإسرائيلية على مواصلة فرض سياسة الأمر الواقع، وهي سياسة اعتاد عليها العرب على امتداد البحرين الأحمر والمتوسط، وترسخت منذ فشل عملية إغلاق مضيق تيران البحري، والتي تسببت بالهزيمة العربية عام 1967.

انتظر العالم وفاء تل أبيب بخطتها في ضخ غاز كاريش في بداية أيلول، وهو ما عجزت عنه بعد أن دخلت المقاومة على الخط، بصيغة تهديد صريح أطلقه السيد حسن نصر الله، وتبعه بطائرات مسيّرة حلّقت فوق كاريش، في رسالة بعثرت أوراق اللعبة المعتادة، وفرضت انتظامها على غير العادة في واقع الاستكبار الإسرائيلي والخضوع العربي.

بضع شهور كانت كافية ليصل فيها المبعوث الأمريكي هوكشتاين، الليل بالنهار، للخروج من الأزمة التي وضعت البلدين على حافة حرب في ظل تهديدات محددة بسقف زمني، وتعي واشنطن أن حرباً في هذا التوقيت ستخدم روسيا، ليس فقط في منع غاز كاريش، إنما في ارتفاع إضافي على أسعار الغاز، في وقت تصبح فيه مياه المتوسط ساحة مواجهة، بما يتطلب توفير حماية إضافية لناقلات الغاز عبر البحر.

حقل قانا المتنازع عليه وفق الأمم المتحدة، أصبح فجأة حقلاً لبنانياً خالصاً، وبإقرار إسرائيلي، فلا يمكن لتل أبيب أن تضخ الغاز من كاريش إلا إذا سُمح للبنان بالتنقيب عن ثرواته النفطية، وهو ما جعل الرئيس اللبناني يعلن بكل فخر أن لبنان دخل الخطوة الأولى في تنفيذ مشروعه الذي بدأه عام 2010 ليصبح بلداً نفطياً.

جاء ضغط المقاومة في توقيت حساس، والبلدان يعومان دون استقرار سياسي، فلبنان يمر بأقسى أزمة اقتصادية سياسية منذ عقود، وتل أبيب تخرج من انتخابات لتعد العدة لانتخابات لاحقة، وهو ما جعل الميدان الانتخابي عاملاً مرشحاً لتفجير الموقف، في ظل ما طغى من شعور عام في تل أبيب أن إسرائيل خضعت لتهديد نصر الله.

هل بالفعل أن تل أبيب جثت على ركبتيها في مواجهة تهديدات المقاومة، بحسب ما جاء على لسان غالبية المعلقين الإعلاميين في تل أبيب، وهو ما قاله نتنياهو صراحة، وصدر عن مئات الضباط والجنرالات السابقين، وعنونت به هآرتس ومعاريف، وغيرهما من كبريات الصحف العبرية؟

ظهر لبنان موحداً، وربما لأول مرة، في مواجهة انقسام حادّ في تل أبيب، وهو ما دفع السيد نصر الله للتحذير من الطيش الإسرائيلي المحتمل، رغم الدعم الأمني الرسمي الإسرائيلي لهذا الترسيم، باعتباره انجازاً تاريخياً، عبّر عنه رئيس الموساد، باعتباره اعترافاً من حزب الله بإسرائيل، فهل هو الأمر كذلك، ولماذا يشغل رئيس الموساد نفسه باعتراف حزب الله بدولته؟

تنبه الرئيس عون، كما قائد المقاومة، للالتباس السياسي بشأن عقد تفاهمات مع دولة ليس لها شرعية في القاموس اللبناني، لذا حرص كل منهما على فك هذا الالتباس بالإشارة لطبيعة الترسيم؛ باعتباره انتزاع حق دون الإقرار بشرعية السيطرة على المياه الفلسطينية، بقول نصر الله أنه بالنسبة لنا في المقاومة فبحرنا يمتد إلى غزة، وحين تتحرر فلسطين لن نختلف مع إخواننا الفلسطينيين على حدودنا البحرية. في وقت أكد فيه عون أن لبنان لم يقدم تنازلات جوهرية، ولم يدخل أدنى تطبيع مع المحتل، ولم يعترف بخط الطفافات.

شعور الخضوع السائد في تل أبيب، رغم مسرحية الضخ العكسي وما واكبها من تهديد إسرائيلي، مع الحرص على التأكيد الموازي الفوري أن ما يجري ليس ضخاً للغاز، عزّز الانطباع أن كل التطورات اللاحقة بشأن ترسيم الحدود بين لبنان والكيان العبري، إنما جاءت كلها تبعاً لتهديد المقاومة، خاصة مع التراجع الإسرائيلي بشأن حقل قانا، رغم رفض الاعتراضات اللبنانية بشأن خط الطوافات، وهي اعتراضات لم تزل قائمة، وإن لم تؤدي لنسف الترسيم الجوهري المتعلق بالبعد الاقتصادي.

كل إسرائيلي كما كل عربي بات يعي بشكل لا لبس فيه، أنه ما كان لهذا الترسيم أن يتم، بهذه السرعة لولا أن التفاوض جرى تحت ضغط المقاومة المحكوم بسقف زمني، ولا يخفى على أحد أن الترسيم تم بخلاف الإصرار الإسرائيلي الجوهري السابق، كما أنه وإن ضمن لتل أبيب الاستفادة السريعة من ضخ غاز كاريش، نظراً لتجاوزها العقبات الفنية، فإن لبنان المقعد اقتصادياً، ضمن بلوغ عتبة البداية الزمنية والواقعية في التحول لبلد نفطي. هذه العوامل الثلاث مجتمعة تؤكد أن الترسيم كان خضوعاً إسرائيلياً أكثر منه تسوية حدودية، فأيّ تسويات تقع تحت التهديد بالنار؟!

كلمات دلالية