خبر في ذكرى إعلانها الـ 61: معنى « استقلال » إسرائيل؟ ..انطوان شلحت

الساعة 12:19 م|12 مايو 2009

ـ النهار اللبنانية 12/5/2009

في كل مرة "تحتفل" إسرائيل بذكرى استقلالها يتم من جديد تحرير التساؤل الصميمي: هل هي مستقلة فعلاً، سياسيًا واقتصاديًا؟ وبطبيعة الحال لم تكن المرة الحادية والستون من هذا "الاحتفال"، التي صادفت اخيراً، شاذة عما سبقهـا. لكن ما يمكن ملاحظته في هذا السياق هو ازدياد نبرة الأصوات التي تؤكد أن "استقلال إسرائيل" لا يزال مرهوناً، أساساً، بعوامل خارجية أكثر من العوامل الداخلية. ويقف على رأس تلك العوامل الخارجية التحالف القوي مع الولايات المتحدة [ومن نافل القول إن مبدأ التحالف مع قوة أجنبية عظمى كان أحد المبادئ الثابتة في فكر الحركة الصهيونية وممارستها، منذ تأسيسها في أواخر القرن التاسع عشر].

بيد أنه على الرغم من أن هذه العوامل الخارجية تبدو قوية ومتماسكة، في الظاهر، وتزيّن سبيل عدم الخشية من اهتزاز أركان هذا الاستقلال، إلا أنها في رأي البعض ليست كافية لها وحدها من أجل تدعيم استقلال أي دولة في المدى البعيد. علاوة على ذلك فإن الارتهان بها يفضي إلى تعلق يكرّس صنفًا من التبعية ينتقص عموماً من مبدأ الاستقلال. وفي هذا الشأن تحديداً أشار كبير المعلقين السياسيين في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، ناحوم برنياع، إلى أن نموذج دولة إسرائيل يعدّ أكثر تعقيداً من نماذج دول أخرى، فهي مدينة بجزء كبير من قوتها إلى العلاقة الخاصة القائمة بينها وبين الولايات المتحدة، وبناء على ذلك فإن استقلال إسرائيل مرهون بتبعية معينة [للإدارات الأميركية]. وفي واقع الأمر، فإن هذه التبعية ملزمة بكيفية ما، على ما يؤكد برنياع [ساق الكاتب هذا الحكم في نطاق التعقيب على تصريحات أطلقها وزير الخارجية الإسرائيلية، أفيغدور ليبرمان، وانطوت على دعوة إلى أن تدير إسرائيل ظهرها لهذه العلاقات الخاصة، وأن تسير بدلاً من ذلك في وجهة تعزيز العلاقات مع روسيا]. وقد استبق برنياع هذه الإشارة بالتأكيد على أن الاستقلال هو مسألة نسبية، ولا توجد دولة في العالم تعتبر مستقلة على نحو كامل، لا من الناحية الاقتصادية، ولا من الناحية السياسية.

في الوقت ذاته لم يعد سرًا أن إسرائيل لا تزال بعيدة للغاية عن الاستقلال الاقتصادي أيضًا. وهذا الأمر يفضي إلى تعميق تبعيتها كذلك.

ويجدر أن نستعيد هنا أنه في الذكرى الستين لاستقلالها، في السنة الفائتة، كتب أحد أبرز المعلقين الاقتصاديين الإسرائيليين [وهو نحميا شترسلر من صحيفة "هآرتس" يقول إنه يكفي، في رأيه، أن يهمس رئيس الولايات المتحدة بأنه "سيعيد النظر في علاقات بلده مع إسرائيل"، حتى يؤدي ذلك إلى انقلاب الأوضاع الاقتصادية الممتازة، التي كانت إسرائيل ترفُل فيها آنذاك، رأسًا على عقب. فالعالم - قال- يدرك أنه من دون السند الأميركي فإن إسرائيل سرعان ما تعود إلى حجمها الحقيقي. كما تدرك إسرائيل نفسها أنه من دون الفيتو الأميركي في مجلس الأمن الدولي لكان هذا المجلس قد فرض عقوبات اقتصادية عليها منذ فترة طويلة، على غرار ما حدث لجنوب أفريقيا ذات مرة، وذلك بسبب سلطة الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما تدرك أنه من دون المساعدات الأميركية ليس في إمكانها أن تحتفظ بجيش كبير وأن تزوده بالأسلحة اللازمة.

وعاد هذا المعلق نفسه فأشار، حديثاً، إلى أن أوضاع إسرائيل الاقتصادية تبدو جيدة في المدى القريب، على الرغم من الأزمة القاسية الأخيرة، إذ أنها دخلت إليها في ظل أوضاع اقتصادية جيدة نسبياً، ولذا فإن التوقعات هي أن تخرج منها بجروح أقل، مقارنة بما قد يحدث في العالم كله. غير أن هذه الأوضاع ليست كذلك في المدى البعيد. وتبقى المشكلة المركزية كامنة، بحسب قراءته، في فئتين من فئات المجتمع الإسرائيلي، هما "الحريديم" [اليهود المتدينون المتشددون] والعرب. فمعظم أفراد هاتين الفئتين يقبعون تحت خط الفقر، ونسبة الذين لا يعملون في صفوف الرجال "الحريديم" وصفوف النساء العربيات تبلغ نحو ثلثين. ونظراً الى أن الحديث يدور على فئتين غير صهيونيتين، فضلاً عن أن نسبة الولادة لديهما مرتفعة جداً، فمن المنتظر أن تشهد الأعوام القريبة المقبلة نشوء أكثرية ليست صهيونية وذات مستوى معيشة منخفض.

ولم يخلُ تشخيص هذا المعلق لأوضاع إسرائيل الاقتصادية من بعض الاستنتاجات السياسية المنطقية، فهو يؤكد أن التركيز على المشكلة الأمنية، وابتعاد احتمالات السلام، "لا يتيحان للحكومة الإسرائيلية أن تهتم بقضايا الحريديم والعرب وبسائر مشكلات الاقتصاد والمجتمع، ويجعلان الدولة تئن تحت وطأة الأعباء الأمنية الهائلة".

وكان معلق اقتصادي إسرائيلي آخر قد رأى أن أجندة إسرائيل الأمنية تُعدّ أحد الأعداء الألدّاء للاقتصاد الإسرائيلي. وأضاف أنه بالرغم من أهمية وضرورة الانشغال بالموضوعات الأمنية من دون توقف، إلا أن هذا الانشغال يخدم مصالح السياسيين والعسكر وحسب، إذ أن هؤلاء يصبح في إمكانهم، من خلال استغلال الستار الدخاني الأمني، أن يمتنعوا من إدارة شؤون الدولة فعلاً، وأن ينأوا بأنفسهم عن التعرّض للتقويم بموجب النتائج العينية التي يحرزونها حقًا. كما أنه من السهولة بمكان، تحت الستار الدخاني الأمني، أن تجري عمليات سرقة وخداع واحتيال، وأن تُبرم صفقات سياسية، وأن يتم التركيز على السياسة الآنية، بدلاً من اعتماد خطط بعيدة المدى. وتحت هذا الستار نفسه يصبح في إمكان سياسيين كثيرين، لا يملكون أي رصيد حقيقي، أن يبقوا متربعين على سدة الحكم أو في الكنيست [البرلمان] طوال عشرات الأعوام، من خلال إتقان فن المشهدية الإعلامية وبواسطة التنقل من ستوديو تلفزيوني إلى آخر.

لعلّ الخلاصة الأهم مما ورد كله هي عدم إمكان فصم عُرى العلاقة الجدلية بين الاقتصادي والسياسي في نموذج دولة إسرائيل. وهي خلاصة تنطبق ليس فقط على الأوضاع الناجمة عن اندلاع أزمات، كما نشهد في الوقت الحالي، وإنما تنطبق أيضًا على الأوضاع التي تبدو عادية على السطح، كما كانت عليه مثلاً عندما أحيت إسرائيل ذكرى استقلالها الستين في السنة الماضية. فعلى الرغم من بعض المعطيات الاقتصادية الإيجابية خلال الأعوام الخمسة التي سبقت عامها الستين (ومنها ارتفاع نسبة النمو الاقتصادي ومعدل الناتج القومي للفرد، وتحسن ميزان المدفوعات)، إلا أن هذه المعطيات لم تنحِّ جانباً مشكلات إسرائيلية داخلية، اقتصادية- اجتماعية، قد تكون أكثرها خطورة مشكلة اتساع الفجوات الاجتماعية داخل المجتمع الإسرائيلي. ولم يكن في إمكان المعلقين والمحللين، في معظمهم، أن يتغاضوا عن واقع كون هذه المشكلات متأثرة إلى حدّ كبير بالتحديات السياسية والمخاطر الخارجية الأمنية، والتي ظلت تشيع أجواء عامة من عدم الثقة بالمستقبل والخشية منه في أوساط الغالبية الساحقة من الإسرائيليين، بحسب ما دلت نتائج استطلاعات الرأي العام، وما يترتب عليها من تقليص حجم الاستثمارات ومسّ بالنموّ في المدى البعيد. وبناء على ذلك فقد قيل على لسان أكثر من خبير إن هذا النمو وسائر إنجازات إسرائيل الاقتصادية ليست مستقرة، ومن شأن هبوب أي رياح إقليمية عاتية أن تبددها. أمّا المغزى السياسي من هذا فقد عبّر عنه أحد هؤلاء الخبراء بالقول "إذا لم توقع إسرائيل على اتفاقيات سلام إقليمية، تشمل سوريا والفلسطينيين، فليس في الإمكان القول إنها حققت استقلالها الاقتصادي".