جنين بين النفق والكتيبة

الساعة 10:37 ص|10 سبتمبر 2022

فلسطين اليوم | الكاتب محمد جرادات

بقلم: محمد فارس جرادات

ابتسم للصورة، وارتدي أكثر ملابسك أناقة، فقد تكون أنت الملصق التالي على الجدران، رصاصهم الذي لا يستثني أحد، هنا جنين جراد. هذا ما نشره المسعف محمد ملش في السادس من أيلول، بما يوافق الذكرى السنوية الأولى لنفق الحريّة، وخرج ملش بعد منشوره، ليسعف المصابين في شوارع جنين، ليصبح خبراً صحفياً بعد أن أصابه هذا الرصاص الإسرائيلي، وقد فتح ثأراً تلمودياً خاصاً مع جنين وكل أهلها.

تصدرت جنين مشهد البطولة، عبر تاريخها الممتد، منذ احتضنت أحراشها فارس اللاذقية الشيخ السوري؛ عز الدين القسام، ليرسم بدمه وخطه الفكري الأصيل، معالم الطريق لأمة يراد لها القعود أبد الدهر، ويتقدم فرسان الجيش العراقي عبر هدي هذه المعالم، وقد ضحوا بدمائهم على أبواب جنين في نكبة فلسطين الأولى، فيطلقوا مع ريح جنائنها أنفاس التحدي، وقبورهم تتزين حولها كزنار مفخخ بالشظايا والبارود.

 شظايا نثرها راغب جرادات في أوج الملحمة هناك في حيفا حيث قبر القسام، في عقاب جنينيّ عاجل لجيش وحشي اجتاحها ليمسح عش دبابيرها، فإذا بهذه الدبابير تتوالد بعد عقدين في جيل عشق ابتسامة جميل العموري وبارودة عبد الله الحصري وعناد داوود الزبيدي، فكانت الكتيبة؛ فخر السرايا وقدر هذا الجيل في حمل عبء أمة توحدّت قطرات دمها جدولاً يسقي بساتينها خصوبة التحدي المستحيل. 

بين النفق والكتيبة؛ معادلة تكاملت أطرافها، منذ كان مهندس النفق المعجز، محمود العارضة، يجدد فكر الشقاقي في فتية المخيم على صفيح جلبوع الساخن، عشرات تتلمذوا على مائدته، وانطلقوا إلى الأزقة والحواري، ليصوّبوا بوصلة البارود الذي لم يكن يزغرد إلا في الأعراس والصراعات العائلية، فإذا به يندفع نحو جنود الاحتلال، فترتد غاراتهم على جنين من نزهة خاطفة إلى مواجهة يرتقي فيها الشهداء، ويتخبط في وهجها الجيش الذي لا يقهر، وتقع في صفوفه خسائر، يتكتم على غالبها، ويضطر أحياناً للاعتراف ببعضها.

خرج نفق جلبوع المعجز، من زنزانة مكبلة بكل تقنيات القهر الإسرائيلي، وهي تحمل المستحيل لكل طامح بالحرية، ولكن ثمة صدر حاضن، استمد محاربة المستحيل منذ نادى بالإجابة على سؤال المرحلة، وقد منع السجّان العبري، أسرى الجهاد من أخذ حصتهم في زنازين القسم، إلا أن تكون في الوسط، بعيدة عن أطرافه الخارجية، استباقاً لأي محاولة للتحرر، وقد اشتهر أسرى الجهاد أكثر من بقية إخوانهم، بمحاولات سابقة متكررة نجح بعضها في سجون كفار يونا وعوفر، وكان أشهرها الهروب الكبير من سجن غزة الإسرائيلي، وهو الهروب الذي أطلق شرارة الانتفاضة الأولى.

كانت جنين تتصدر الانتفاضة الأولى والثانية في ظل زخم فلسطيني عارم على امتداد الوطن، ولكنها في زمن النفق الذي أطلق وهج الكتيبة، تجد جنين نفسها تعزف لحن المواجهة وشهداؤها يصرخون يا وحدنا! فالعمليات النوعية في قلب الكيان، يخرج غالبها من جنين، وآخرها عملية الغور، ومشاغلة الرصاص والعبوات تنفرد فيها جنين، في مواجهة أدنى اقتحام لأي طرف من أطرافها، ومعظم بلداتها من قباطية حتى طوباس، ليعترف قائد أركان الجيش العبري أن أكبر تحديات كيانه الأمنية تمتد من رصاص جنين حتى نووي أصفهان.

وأمام تصاعد المواجهات في نابلس، ورمزية بطولة إبراهيم النابلسي وإخوانه، واشتباكات متفرقة هنا وهناك من رأس كركر وبيتين وسلواد حتى حوسان، ظلّت جنين نبض المجابهة وفيصل العنفوان، وقد ثبت اشتعال ميدانها واتساعه، مع تطور متدرج في طبيعة المواجهات، بما أرسى سؤالاً لا يتوقف عن خصوصية هذا الميدان المتّقد دوماً في جنين؟!

هل تنبع هذه الخصوصية من موقع جنين الجغرافي؟ وقد تبين أن جغرافيتها رخوة، ليس فيها إلا استعصاء أزقة المخيم، وهي موجودة في كل مخيمات الوطن وبلدات مدنه القديمة، ليبقى السؤال الملحّ يفرض نفسه، وكلمة السرّ في الفكر والتاريخ، وذلك الصدر الذي اخترقت أنفاسه فولاذ النفق، والذي سبق أن اتسعت له جنين منذ أربع عقود، وظل يمثل رافعة خاصة لما هو جذرية الرؤية في مجابهة الباطل الإسرائيلي، رؤية خط معالمها القسام في أحراش يعبد التي أخرجت ضياء حمارشة، وصاغ حروفها الشقاقي في جولاته الاستثنائية لجنين، ووجدت حمرة لونها عبر كاريزما محمود طوالبة الذي صرخ في أوج المعركة، بعد أن ألقى بهاتفه النقال؛ إنه قتال لا رجعة فيه، ومضى ليثخن القتل في الجيش الغازي، فإذا به يصبح أنشودة عشق تربى على ألحانها هذا الجيل الذي يندفع اليوم نحو الشهادة بلا أيّ حساب.

امتازت جنين عن بقية مناطق الضفة الغربية، بوجود لافت للجهاد الإسلامي، وهو وجود اتسعت له كل مدن وقرى ومخيمات الضفة، ولكنه في جنين كان الأقدم، من جهة، ومن جهة أخرى، هو الأوسع، وقد حافظ هذا الوجود على ثبات وتطور، مع توفر حاضنة فكرية وشعبية، لا تؤمن إلا بزوال المستوطنة المسماة "إسرائيل"، وقد لامست خصوصية المخيم، واستقرت في عقله الجمعي، الذي ظل محتفزاً للاندماج السريع مع أدنى شرارة تتقد هنا أو هناك، فكيف وقد انطلقت الشرارة عبر نفق جلبوع المجاور؟!

 كان لانحدار أبطال النفق من جنين، بما يتمتعوا به من رمزية استثنائية، في وقت سارعت فيه قيادة الجهاد للدخول على وهج الشرارة، واحتضنت تفاعلات الحدث، ليعلن الأمين العام الحاج زياد نخالة إطلاق كتيبة جنين، ويرفدها بمتابعات شاملة، وقد ظهرت للعلن وهو يرسم لجنود الكتيبة مسارات التحرك بلا توقف، إلا عبر كمين أو استدراج، حتى أطلق وحدة الساحات عبر معركة بدأت في جنين، واتسعت على عصف سرايا غزة وهي تغرق الكيان بألف صاروخ، بما عزّز ميدان جنين كعنوان للمشاغلة المتصاعدة بلا توقف.

كلمات دلالية