نستحضر ذكرى عملية نفق الحرية لنستمد منها العزيمة والفخر والإرادة والكرامة، والتي استنفرت من أجلها دولة الاحتلال بكل مؤسساتها ومنظوماتها الأمنية ومكوناتها الشرطية والجيش في عملية تفتيش واسعة النطاق للبحث عن الأبطال الستة على طول حدود الضفة الغربية مع الأردن وأراضي فلسطين المحتلة عام ،1948 واستمرت عملية البحث عدة أيام استخدم فيه الاحتلال المروحيات والمسيرات، وسط حالة من التخبط وفقدان للسيطرة لدى قيادة الاحتلال، واصفين هذه العملية بأخطر الحوادث الأمنية التي هزت المنظومة الأمنية، والتي على إثرها تم اجتماع أمني عاجل و هام على مستوى قيادة الدولة المؤقتة المهزومة برئاسة رئيس وزرائهم (نفتالي بينت) الذى أكد في اجتماعه بأن ما جرى حادث خطير يستوجب تكثيف جهود جميع الأجهزة الأمنية لمواجهته.
أبطال الحرية ستة مأسورين في زنزانة واحدة في سجن جلبوع الأكثر أمناً وتشييدًا وتحصيناً على مستوى البناء الأمني لدى دولة الاحتلال، وفي هذا المقال نحاول أن نعيد إلى الأذهان أبعادها الأمنية، وإظهار قدرة هؤلاء الأبطال على انتزاع حريتهم، متجاوزين بذلك كل الحسابات والموانع والإجراءات الوقائية الأكثر تعقيدًا لدى إدارة مصلحة السجون.
هذا العمل المعجز الذى قام بها ستة من الأسرى الأبطال، منهم خمسة ينتمون إلى الجهاد الإسلامي وآخر يتمي لحركة فتح في عملية شكلت بكل المقاييس الواقعية إضافة نوعية تضاف إلى سجل العمل المقاوم، وإضافة غنية ومميزة تضاف إلى التجربة الأمنية الفلسطينية، تمثلت في قدرة هؤلاء الأبطال وتحديهم واقع السجن والتحديات الأمنية، ولفهم هذه الإشكالية لابد أن نتعمق بهذا الفعل، متجاوزين سطح الظاهرة لنصل إلى جذورها وعناصرها المتشابكة، والتي تظهر فيما نسميه التعقيد الأمني ضمن الخطوات التالية:
1. اختيار الوقت المناسب لعملية الحفر في ظل تعقد العامل الزمني.
2. إدارة وتوزيع الجهد لعملية الحفر.
3. المراقبة الأمنية الجيدة لحركة السجانين ليلاً ونهاراً .
4. القدرة على إفراغ وتصريف محتوى النفق (التراب) دون أن يتركوا أي أثر يدل على ذلك.
5. استخدام استراتيجية الإرادة والنفس الطويل في العملية.
6. عدم الارتباك ولفت الأنظار طوال فترة الحفر في ظل حركة السجانين المستمرة.
7. القدرة والمحافظة على الأداة البسيطة المتمثلة (بالمعلقة) والاستمرار باستخدامها كوسيلة للحفر دون أي كلل أو ملل.
كل هذه الخطوات تمت في إطار الحركة المستمرة لدى السجانين أمام إجراءات الفحص اليومية، وهي كالتالي::
# الوقوف على العدد 3 مرات على مدار اليوم.
# الخروج الصباحي ساعة الرياضة.
# الخروج للنزهة فترة الصباح والظهيرة والفحص الاعتيادي أثناء النزهة.
# فترة فتح الأبواب لزيارة الغرف مرتين في اليوم.
# الفحص الأمني على الأبواب والشبابيك والجدران 3 مرات طوال اليوم.
# إدخال الطعام للغرف 3 وجبات على مدار اليوم.
# إلقاء نظرة على الغرف قبل استبدال المجموعات المناوبة لدى السجانين، بالإضافة لحالة الاقتحامات المستمرة ليلاً ونهاراً وهى غير مرتبطة بعامل زمنى محدد.
والسؤال هنا: كيف استطاع هؤلاء الأبطال أن يستمروا في هذه العملية في ظل كل هذا التحرك الأمني؟. والجواب أن ذلك شيء أقرب للمستحيل استطاع هؤلاء الأبطال تحويله الى نصر وواقع هز وأذهل العدو، وجعله يقف حائراً أمام إرادة وعقلية هؤلاء الأبطال.
تأتى ذكرى هذه العملية التي أعادت للشعب الفلسطينية والأمة وكل أحرار العالم صورة المقاوم الفلسطيني الذى يثبت، وفى كل مرة من خلال هذا العمل البطولة أنه قادر بإرادته الصلبة أن يحول المستحيل إلى واقع وسلوك انتصاري على الأرض، وإلى فعل وطني حقيقي يهزم به جبروت الاحتلال وبطشه وكل أدواته الأمنية العسكرية التي يتغنى بها .
واليوم تأتى ذكرى هذه العملية البطولية في ظل مشهد معقد واستعداد أمنى مشدد فى مواجهة الأسرى من قبل إدارة مصلحة السجون، عاكسة بذلك فشلها وهزيمتها أمام عبقرية الأبطال؛ ليكرس المقاوم الفلسطيني من جديد أن إرادته وعدالة قضيته هي أقوى من جبروت وعنجهية وغطرسة المحتل.
فرغم قلة الإمكانيات التي يمتلكها المقاوم الفلسطيني فى فرض إنجازاته أمام الاحتلال، فإننا نقول أن الإرادة هى المحرك الأساسي لهذه المعركة الممتدة لكسر هيمنة السجان والإحتلال، وبأدوات بسيطة لا ترتقى ولا تتساوى مع حجم العمل المقصود، ففي المعادلة الواقعية لطبيعة الصراع بين الأسرى والسجان الواقع يقول أنه لا يمكن فعل شيء، لكن إذا ما ارتبطت بإرادة الفلسطيني وتصميمه على جعل ما هو مستحيل إلى واقع، بالإضافة للعمل الموحد والفعل وطني المقاوم فإن الأمر بذلك يتحقق، رغم كل العوائق والموانع الاحتلالية.
إن بركة فعل هؤلاء الأبطال ساهمت فى صناعة وإعادة المشهد المقاوم على أرض جنين والضفة الغربية برمتها، من خلال تشكيل أول كتيبة مسلحة وسميت كتيبة جنين، الأمر الذى لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد اسم وحضور وفعل هذه الكتيبة ليصل إلى نابلس وطوباس وطولكرم، وإلى ربوع الضفة الغربية؛ لتشكل منطلقًا جديداً وملامح واضحة لانتفاضة ثالثة باتت على أعتاب الانطلاق.