الخيارات الإسرائيلية الثلاث في مواجهة تبلور الاتفاق النووي

الساعة 09:52 ص|20 أغسطس 2022

فلسطين اليوم | محمد فارس جرادات

بقلم: محمد فارس جرادات

شهية الحروب؛ مائدة بولتون التي يتغذى عليها، في سعيه لإقناع الطبقة السياسية في أمريكا، أن مشكلة إيران ليست في برنامجها النووي، إنما في طبيعة النظام نفسه، في تعبير صارخ عن كامل الرؤية الإسرائيلية، وهي رؤية يتصدّر إشاعتها مستشار أمريكيّ سابق، يزعم تعرضه لمحاولة اغتيال إيرانية، منذ فترة وجيزة، يتم التكتم عليها بسبب ما اعتبره رؤية بايدن العمياء.

بين رؤية بايدن العمياء، وبين رؤية تل أبيب، ثمة خيط دقيق لا يلحظه بولتون في غمرة اشتهائه الدائم للدم وقرع طبول الحرب، وهو يرى إيران من زاوية الحقد الأعمى على نظامها الإسلامي الداعم للنهوض الشرقي في وجه الاستبداد الغربي، ورأس حربته الربيبة الأمريكية (إسرائيل)، لكن هناك في واشنطن خبراء ومراكز أبحاث وجنرالات، باتوا يعون أن محاولة احتواء انبعاث إيران، ولو نسبياً، وضمن مربعات محسوبة، أهون الشرّين في ظل ما باتت تمثله مع روسيا والصين، كمثلث شرقي يمكنه التنغيص على خطط الغرب، وربما خلق ثنائية في وجه عالم متوحّد القطبية.

محاولة الاحتواء الأمريكية للانبعاث الإيراني، تعكس تطور الفهم الأمريكي لطبيعة التحديات العالمية، أكثر من مجرد دفع خطر أمني وجودي عن ربيبتها تل أبيب، ولكن كيف تنظر الأخيرة لهذا التطور، وهي ترى اتفاقاً نووياً آخذ بالتبلور في فيينّا، وهو يكفل لطهران انتعاشاً اقتصاديّا وانفتاحاً عالمياً، مع ثباتها على ذات رؤيتها الفكرية والسياسية، بل العقائدية، في نفي شرعية وجود الكيان الإسرائيلي، وتطوير برامجها الصاروخية.

تجد تل أبيب نفسها ملزمة، وفق تكوينها النفسي واعتيادها السياسي ومشروعها العسكري والأمني، أن تتصدى لأدنى اتفاق غربي مع إيران، وتكاد الطبقة السياسية في الكيان العبري تجمع على ذلك، إلّا ما يصدر من مواقف متفرقة عن مراكز أبحاث وقيادات سابقة، تعي حقيقة الخبث الأمريكي ومآلاته، واضطراره للخطة ب في مواجهة النهوض الإيراني، بعد فشل سياسة ترامب في أقصى العقوبات وتصفير الصادرات.

فما هي السيناريوهات الكامنة في الجعبة الإسرائيلية، إزاء اتفاق يتم رسم حروفه الأخيرة، بين عالمها الغربي الداعم الدائم لحروبها وسياساتها، وبين عدوها الأول وهاجسها الذي يقض مضاجعها، ولم يتبق للتوقيع عليه إلا أسابيع قليلة، وربما أيام وشيكة، خاصة بعد فشل المراهنة الإسرائيلية على رفض إيران للمقترح الأوروبي؟

 "الجمهور الإسرائيلي" بمعظمه يعارض الاتفاق بغريزته، رغم عدم علمه بتفاصيله. هذا ما كتبته صحيفة يسرائيل هيوم اليمينية، وهو ما يعكس تركيبة الكيان العبري ومنطلقاته في التعامل مع الغير، فكيف والحال أن الكيان العبري يقف على عتبة انتخابات تتنافس فيها أضلاع اليمين المتطرف على المقعد الانتخابي الحاسم؟! ولعل هذا ما جعل الزعيم الاستيطاني للحكومة السابقة بينيت يحتفظ بملف إيران غداة تسليمه رئاسة الحكومة لشريكه الليبرالي لابيد، المقرّب من السياسة الأمريكية، بما يؤكد ثبات الموقف الإسرائيلي ضد الاتفاق مع إيران، مهما تردد عن موقف مغاير لبعض قيادات الجيش والاستخبارات، في ظل دفع الموساد بشدة لإعاقة الاتفاق.

تقف السياسة الإسرائيلية الآن في نهاية خيارها الأول: في مواجهة الاتفاق النووي، عبر محاولة إفشال الاتفاق من خلال العمليات الأمنية، سواء في الاعتداء على إيران ونفوذها المتعاظم في سوريا، أو عبر العمل الأمني والسياسي داخل أمريكا لتغيير أولوياتها، وغير مستبعد أن تكون المحاولة المزعومة لاغتيال بولتون واحدة منها، ما دامت مجرد محاولة لم تكلل بالنجاح، خاصة ما فاح حولها من لسان بولتون نفسه، بما يشيع جوّاً إيرانياً وأمريكياً يدفع أولوياتهما بعيداً عن العودة للاتفاق، ولكن يبدو أن هذا الخيار يقترب من الفشل النهائي، وهو ما يتطلب اللجوء لخيار آخر.

الحرب أو الاشتراط؛ وهما خياران مفخخان، فاللجوء للحرب الإسرائيلية ضد إيران لا يبدو خياراً واقعياً في هذه الظروف، والكيان يرى ذاته عاجز عن القضاء على مقاومة فصيل واحد كالجهاد الإسلامي في غزة، ليترجح خيار وضع مزيد من الاشتراط الإسرائيلي، وهي شروط ليست بالضرورة على إيران، رغم أن الكيان كان وما زال الحاضر الغائب خلال جولات التفاوض، وهو ما تجاهلته إيران بكل عناد عقائدي ووفاء مقاوم، باعتبار "إسرائيل" كياناً غير شرعيّ في الأبجديّة الإيرانية، وهو خارج أدنى اشتراط.

في ظل العجز الإسرائيلي عن خوض حرب شاملة ضد إيران، استباقاً للاتفاق النووي، وإن بقي للحماقة الإسرائيلية قليل احتمال في ذلك، فإن لجوؤها لهجمات غير مسبوقة ضد إيران وارد جداً في هذه الأيام، كونها تراهن على أولوية العودة للاتفاق إيرانياً، وإن كان ذلك ضمن حدود الصبر الاستراتيجي في العقل الإيراني، فهل بإمكان الإسرائيلي أن يحسبها بدقة للخروج بأفضل النتائج، سواء بدفع إيران لإدارة الظهر لأولوية الاتفاق، أو دفع الميدان نحو الدحرجة وفق نهايات إسرائيلية محسوبة؟

يأتي اتصال جانيتس بنظيره الأمريكي، بعد فشل الرهانات الإسرائيلية، ليؤكد انسداد الأفق الإسرائيلي، وتصدّر الاتصال إجراءات منع إيران من الحصول على السلاح النووي، وهو ما ينبئ بيأس إسرائيلي كامل، ربما دفعها للدخول في معترك الإشتراط كخيار أخير، وهو هنا مزيد من الشروط الإسرائيلية الاقتصادية والأمنية على الأمريكي ذاته، مقابل رفض إسرائيلي هادئ للاتفاق، بما يؤسس بالنهاية لموازين جديدة في الميدان الشرق أوسطي، ليجد الكيان العبري نفسه في تراجع خطوة حادة للخلف، وهو ما يدفع المشهد نحو تأزمات ميدانية متواصلة، لن يساعد فيها الاتفاق النووي على احتواء النفوذ الإيراني وفق المخطط الأمريكي، وهو ما يجعل الإسرائيلي يقلع شوكه بنفسه مهما وفّرت له منظومة التطبيع التركي والخليجي والعربي من مسارات استقرار وتفوق.