القدس لب الصراع مع الصهيونية والمساس بها عبث ببرميل بارود

الساعة 09:34 ص|05 يونيو 2022

فلسطين اليوم

وديع عواودة

عشية الذكرى السنوية لاحتلالها المصادفة اليوم الأحد، تقول القدس للعالم إنها قلب الصراع، فيها ابتدأ ويتواصل وربما فيها ينتهي مثلما تتضح مجددا مركزية الحرم القدسي الشريف خاصة وأنه يتعرض لتصعيد غير مسبوق من أجل تقاسم الأقصى مكانيا وزمانيا. كادت مسيرة الأعلام الاستفزازية في الشطر الشرقي من القدس المحتلة أن تشعل حربا في أقسى الشهور، أيار/مايو، على غرار ما حصل في العام الماضي. وسنة عن سنة يتفاقم الصراع على القدس خاصة بلدتها القديمة حاضنة الأقصى والقيامة نتيجة انزياح إسرائيلي بارز نحو التطرف القومي والديني، ونتيجة أطماع متزايدة في فرض حقائق على الأرض في أكثر مواضع الصراع حساسية من خلال انتهاك ما كان يعرف بالوضع الراهن وسط استغلال لنفاق العالم الغربي وانشغاله بنفسه وللتطبيع العربي مع الاحتلال.

أكثر من أي وقت مضى صار الحرم القدسي الشريف برميل بارود يفجّر حممه في فترات متقاربة بسبب تزايد الأطماع اليهودية فيه. حتى الأمس القريب كانت جماعات اليمين وغلاة المستوطنين الساعية لبناء الهيكل الثالث المزعوم هامشية، وتواجه رفضا من أوساط يهودية واسعة تناهض اقتحام الأقصى أو القيام بصلوات فيه لأسباب عملية وأخرى تتعلق بالشرع اليهودي. بيد أن تعداد المستوطنين الذين يقتحمون الأقصى ويدعون للصلاة فيه بل لتقاسمه في ارتفاع كبير، فيما تؤيد أغلبية يهودية فرض السيادة الإسرائيلية على الحرم القدسي الشريف، وتزداد نسبة المؤيدين لاقتحامه كما تدلل دراسة جديدة صادرة عن معهد «فان لير» الإسرائيلي قبل أسبوع. هذه التحولات العميقة تدفع بعض العقلاء في الجانب الإسرائيلي للتحذير من تديين الصراع والعبث بـ «برميل البارود» ومن مواصلة محاولات إدارته وإرجاء حله من منطلق فهمهم أن الزمن لم يعد يخدم إسرائيل بل يدفع بها نحو التحول لثنائية القومية، وأن تحويل الصراع على وطن لصراع ديني أيضا يعني فقدان ما تبقى من فرص لتسويته. والمفارقة أن نبوءات الغضب الإسرائيلية تأتي في السنوات الأخيرة من جهة خريجي المؤسسة الأمنية ممن شارك عدد كبير منهم في إطلاق صرخة مشتركة تحذر من تبعات عدم حل الصراع مع وجود ملايين الفلسطينيين على الأرض. أطلق هؤلاء الصرخة في فيلم وثائقي بعنوان «حراس العتبة» لكن نداءاتهم بقيت صرخة في واد. ومن أبرز هؤلاء الجنرال في الاحتياط الباحث شاؤول أرئيلي الذي استعرض الصراع وخطورته في كتاب شامل عميق قبل شهور. في كتابه «هل هكذا حصل فعلا؟» يؤكد أرئيلي أن هناك 12 أسطورة صهيونية تستبطن كل منها بذرة حقيقة ومغلفة بطبقات من الكذب، محذرا من أنها تكرّس الصراع وتحول دون تسويته، ومنها أنه لا يوجد شريك فلسطيني وأنه لا يوجد شعب فلسطيني وغيرها من الأساطير التي يتعلق بعضها أيضا في القدس والحرم والأطماع اليهودية فيه.

ويبدو أنه بالإضافة للأطماع اليهودية المتزايدة في القدس وفي الضفة الغربية المستفيدة من صمت العالم ومن التطبيع العربي المتزايد، هناك أيضا دور للانقسامات والصراعات والمزاودات الإسرائيلية الداخلية في تكريس هذا الصراع والابتعاد عنه والاهتمام بسؤال البقاء في الحكم، وهذا ما دفع رئيس الموساد السابق تامير باردو للانضمام لمطلقي صرخات التحذير بقوله قبل أيام إن «إسرائيل فعّلت نظام التدمير الذاتي» وذلك في تعقيبه على الصراعات المريرة بين المعسكرين المتصارعين على الحكم، وسبقه رئيس إسرائيل السابق رؤوفين ريفلين الذي حذر في مؤتمر هرتزليا للمناعة القومية عام 2015 من «احتراب الأسباط اليهودية» معتبرا أن هذه الخلافات الداخلية أخطر على إسرائيل من قنبلة إيران.

كما يحذر عدد من المراقبين الإسرائيليين من أن عمليات التهويد في القدس ومحاصرة الفلسطينيين في غيتوات وهدم بيوتهم بالجملة ومحاولات تغيير ملامحها بشتى الطرق لن تحسم الصراع بل ستجعله أكثر تعقيدا وتفجرا وذلك لأن المدينة التي تدعي إسرائيل أنها موحدة هي عمليا مقسمة بوضوح بين شطريها. يتنبه هؤلاء إلى أنها مقسمة جغرافيا وديموغرافيا، فرغم كل محاولات نقل اليهود للقدس وارتفاع نسبة الزيادة الطبيعية لدى اليهود المتدينين (الحريديم) فيها، ما زالت نسبة العرب تناهز الـ 45 في المئة طبقا لمعطيات إسرائيلية.

ورغم البطش ومحاولات إخراس مقاومة الفلسطينيين خاصة في القدس وربما بسببها، فإن أوضاع المدينة تنذر بالمزيد من التوترات والصدامات والهبات على غرار الهبة الشعبية في 2015. هذه الهجمات الإسرائيلية على القدس وعلى مقدساتها في ظل صمت دولي وعربي يدفع الفلسطينيين نحو الحائط ونحو محاصرة حصارهم لا مفر ولا محالة لاسيما والحديث يتعلق بصرح قومي ديني تاريخي جامع لكل الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر ومن أجله يلتئم شملهم ونضالهم ضمن إجماع فاجأ الاحتلال وهو يرى مشاهد الحرب الأهلية بين العرب واليهود ليس في القدس بل في مدن فلسطين الساحلية التاريخية من يافا إلى عكا. وبعد موجات التصعيد الأخيرة كشفت المخابرات الإسرائيلية «الشاباك» أن معظم العمليات الفلسطينية منذ قبل شهر رمضان نفذها فلسطينيون على خلفية انتهاك الأقصى وفداء للقدس وهذه حقيقة تنذر بالمزيد من التوتر والنار مستقبلا.

حالة إحباط

ويبدو أن قوة الفلسطينيين تكمن اليوم بمجرد بقاء ملايين منهم على الأرض في ديارهم على طرفي الخط الأخضر وازدياد نسبتهم لدرجة التعادل مع أعداد اليهود في فلسطين من البحر للنهر رغم تتالي استدراج يهود العالم للهجرة للبلاد. ويبرز هنا دور فلسطينيي الداخل في الصراع، خاصة بما يتعلق في القدس وشد الرحال إليها والمساهمة في دعم الأقصى وحمايته وهم يستمدون المزيد من الثقة بالنفس نتيجة تكاثرهم وتضاعف عددهم عشرة أضعاف منذ نكبة 1948. هذه الحقيقة الديموغرافية والتعاون بين كافة المجموعات الفلسطينية من أجل القدس بالذات، تصب فيهم روح التكافل وتعزز الهوية الوطنية الجامعة خاصة بعد نجاحات حققوها في القدس بمنع إخلاء بيوت في الشيخ جراح وفي التصدي لاعتداءات المستوطنين في المدينة بصدور عارية. وهذا الواقع الفلسطيني اللافت الذي تجلى بوضوح خلال وبعد عملية «سيف القدس» في أيار/مايو 2021 هو أحد أسباب حالة القلق والتوتر والإحباط في الجانب الإسرائيلي الذي يرد ردا هستيريا أحيانا كما ظهر في التعامل مع موضوع العلم الفلسطيني الذي دفعهم للاعتداء حتى على جنازة الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة في الحادي عشر من أيار/مايو الماضي.

وردا على مشروع قانون جديد يحظر رفع العلم الفلسطيني في المدارس والجامعات وعلى الحملات الإسرائيلية المنفلتة عليه ومسيرة الأعلام الاستفزازية في القدس المحتلة، رفعت منظمة يهودية يسارية راية فلسطينية ضخمة على برج شاهق في منطقة تل أبيب إلى جانب علم إسرائيل، ولكن ضغوطا إسرائيلية منقلتة العقال إدت لإنزاله بعد ساعات. وصادق البرلمان الإسرائيلي «الكنيست» على مشروع قانون يجرم رفع الراية الفلسطينية وذلك ضمن حملة هستيرية إسرائيلية على هذا الرمز الفلسطيني الكبير. وبادرت حركة «محزكيم» (تعزيز) لرفع الراية الفلسطينية العملاقة على برج المجوهرات في مدينة رمات غان في محيط تل أبيب تحت عنوان «مستقبلنا أن نعيش معا» فيما رفعت راية مماثلة في قلب مدينة الناصرة. لكن وبعد ساعات من ذلك ونتيجة ضغوط إسرائيلية واسعة تم إنزال العلمين الفلسطيني والإسرائيلي من واجهة العمارة في رمات غان. يذكر أن اللجنة الوزارية الإسرائيلية للتشريع كانت في الأسبوع المنصرم قد قررّت منح نواب الائتلاف الحاكم حرية التصويت على مشروع قانون قدمه وزير المخابرات السابق النائب عن الليكود ايلي كوهن ويجرّم رفع الراية الفلسطينية على كل مؤسسة تحظى بتمويل رسمي من حكومة الاحتلال.

لماذا يستثيرهم العلم؟

الهجوم الإسرائيلي الهستيري على علم فلسطين لا يعكس فقط ارتفاع منسوب الكراهية نتيجة شيطنة الفلسطينيين والتحريض عليهم خاصة بعد عودة حكم نتنياهو منذ2009. العداء الأعمى المنفلت للعلم الفلسطيني مرده الرغبة والمساعي لإبادة القضية الفلسطينية والإجهاز عليها وحسم الصراع بدلا من إدارته وسط استغلال للتطبيع والخذلان العربي والنفاق والعجز الدولي. لا شك أن هناك دورا أيضا للتجاذبات والمزاودات الداخلية على الحكم بين معسكرين يمينيين متعادلين يسعى كل منهما بكل طريقة لحسم الصراع والوصول لسدة السلطة. ولكن ليس هذا فقط، إذ يبدو أن هناك ما هو إضافي وأعمق وأهم: أولا ما يرتبط بالماضي: خوف دفين، فمن أكل لحما نيئا يوجعه بطنه وتخيفه كل صورة تذكر بما اقترفته أيديه.

العدو الداخلي

وثانيا يعكس هذا التحامل المجنون على العلم الفلسطيني قلة ثقة بالنفس من الحاضر ومن المستقبل: وفق كل المؤشرات والقرائن والوقائع على الأرض لا يريد الإسرائيليون تسوية الصراع ويرفضون مجرد فكرة الحديث والثرثرة مع الرئيس محمود عباس أبو مازن، لكن على الأرض هناك ملايين الفلسطينيين هم منزرعون اليوم في وطنهم كالزيتون في طرفي الخط الأخضر. وبالذات فلسطينيو الداخل ممن يقيمون في قلب الدولة اليهودية تطوروا منذ النكبة كما وكيفا وتضاعفت أعدادهم عشرة أضعاف وأفشلوا عمليات الأسرلة والتدجين والتطبيع طيلة عقود سواء بالاحتواء أو الاستعداء مما يفاقم الحساسية والإحباط الإسرائيلي حيال هذا الواقع الناجز على الأرض، ويكاد لا يمر يوم في الكنيست الإسرائيلي دون توجيه تهمة «الإرهاب وتشجيع الإرهاب» للنواب العرب وتوجيه إصبع الاتهام لهم من قبل الائتلاف والمعارضة بصفتهم «الطابور الخامس» خاصة بعد انتصار فلسطينيي الداخل وقياداتهم للقدس وللأقصى ولغزة ومجمل قضايا شعبهم وتمسكهم بهويتهم الوطنية لجانب هويتهم المدنية التي تريدها إسرائيل حصرية ويتيمة كي يكونوا «عرب إسرائيل» فحسب.

تجري الرياح الفلسطينية بما لا تشتهيه السفن الإسرائيلية، فالكبار كادوا يموتون كلهم لكن الصغار تشبثوا بالذاكرة والرواية ويرفعون الرايات الفلسطينية حتى داخل الجامعات الإسرائيلية ما أجّج من حالة الغضب الهستيري في أوساط إسرائيلية واسعة رسمية وشعبية.

وهذا الواقع هو من جملة أسباب دفعت ساسة إسرائيليين في الماضي منهم نتنياهو نفسه للقول وهو رئيس حكومة، إن «العدو ليس في الخارج إنما هنا يقيم بيننا» وذلك في إشارة لفلسطينيي الداخل (19 في المئة). ورغم اختلال ميزان القوى العام نجح الجانب الفلسطيني في أيار/مايو 2021 في مجابهة الغطرسة الوحشية في القدس وغزة وداخل المدن الفلسطينية التاريخية المحتلة عام 1948 كيافا واللد وحيفا وعكا، وهذا يحبط ويثير جنون أوساط إسرائيلية واسعة مثلما يستثير المنديل الأحمر الثيران. تجلى ذلك في الاعتداء البربري على رافعي الرايات الفلسطينية خلال تشييع الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة وتجلى أيضا في مسيرة الكراهية والاعتداء المعروفة بمسيرة الأعلام في الشطر الشرقي من القدس المحتلة قبل أيام.

كلمات دلالية