الأسرى وصراع الإرادات بعد عملية سجن جلبوع

الساعة 12:50 م|24 ابريل 2022

فلسطين اليوم | د. عبد الجواد العطار

بقلم د. عبد الجواد العطار

قال المتنبي في إحدى قصائده: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وتأتي على قدر الكرام المكارم، وتعظم في عين الصغير صغائرها، وتصغر في عين العظيم العظائم"

كثيرة هي المواقف التي تواجه الإنسان في حياته والتي تحتاج الى عزيمة وإرادة، وكذلك لمخاطبة الذات بطريقة ايجابية، وتعزز الشعور لديه بأنه قادر على الوصول الى النجاح، ولكن للأسف الكثير يخاطب ذاته سلبياً لذا تكون النتيجة حتمية بالفشل، لذلك عرفت الإرادة بأن تقف وجهاً لوجه في مواجهة الظروف والواقع والخوف واليأس، وأن تتحلى بالإصرار والتحدي, فصاحب الإرادة والعزيمة يصنع من ضعفه قدرةً هائلةً تمكنه من الوصول الى غايته المنشودة، لذلك قالوا: " لا تعترف بالفشل ما لم تكن جربت آخر محاولة، ولا تتوقف عن آخر محاولة ما لم يتم النجاح", فالإرادة لا تتم إلا بالصبر وعدم استعجال النتائج، عندها ستنبهر بالنتائج الايجابية، والنماذج كثيرة ومنهم المخترع توماس أديسون حيث حكمت عليه المدرسة بالعجز والتخلف والفشل فطردته من المدرسة؛ لتقوده إرادته لتسجيل 1093 براءة اختراع، استطاع من خلالها نقل البشرية الى مرحلة جديدة من مراحل التقدم والازدهار.

وتحدث عن ذلك د. إبراهيم الفقي في كتابه قوة التحكم بالذات عن قصة فيل أبيض يدعى نيلسون أسره أحد الصيادين وربطه بسلسلة حديدية, فحاول الفيل التخلص من السلسلة دون جدوى، وأصبح يحاول كل يوم من أوله وإلى آخره، ومع تكرار المحاولات وتكرار الفشل أدرك الفيل نيلسون عجزه من التحرر من قيده, فما كان منه إلا أن استسلم وتوقف عن المحاولة، حينها استبدل الصياد سلسلة خشبية بالسلسة الحديدة، وعندما رأى طفل الصياد ذلك سأل أبوه مستغرباً عن السبب الذي يجعل الفيل يبقى في أسره  رغم انه قادر على التحرر بسهولة, فأجابه الأب قائلاً: بأن الفيل لم يكتشف القدرة على التحرر من القيد, والذي منعه من ذلك أنه برمج نفسه برمجةً سلبيةً والتي رسخت عجزه عن التفكير للتحرر.

وهذا بالتأكيد يعكس صورة الصراع بين إدارات سجون الاحتلال والأسير الفلسطيني، وما يريده الاحتلال من خلال الممارسات التي تمارسها إدارات السجون بأن يرسخ في عقل وثقافة الأسير الفلسطيني العجز والخوف وذلك عبر سياسات تنتهجها إدارة السجون من إرهاب وتعذيب وحرمان من أدنى مقومات الحياة للأسير الفلسطيني, وفي المقابل واجه الأسير الفلسطيني كل هذه التحديات بالعزيمة والإرادة والشجاعة والصبر، واستطاع أن يبدع في كافه المجالات الثقافية والأدبية والعلمية، وكذلك الإبداع في انتزاع حريته من بين أنياب السجان.

على مدار التاريخ استطاع الأسرى من مختلف الجنسيات في العالم أن يهربوا من سجون تتسم بالتحصينات الأمنية المعقدة، والتي عالجتها السينما الأمريكية في هوليود بطريقة مبهرة ومنها عملية الهروب من سجن الكاتراز في أمريكيا، المحصن والمحاط بالماء، وهو أكثر السجون شهرة, حيث من المستحيل الهروب من السجن المعروف باسم "ذا رووك" ومع ذلك في عام 1962م هرب ثلاثة نزلاء من السجن, وقد عالجت  السينما الأمريكية هذا الحدث بفلم يحمل نفس الاسم والذي رسم صورة المعجزة من الهروب من هذا السجن.

الأسير الفلسطيني ومن خلال عملية انتزاع حريته من بين أنياب السجان، ضرب أروع ملامح التحدي والصبر والشجاعة، وهو الذي فكر وكتب وخطط ونفذ في صورة تعجز أفلام هوليود عن تصورها، حيث مثلت عمليات الهروب من سجون الاحتلال تحدي كبير بين الإرهاب الإسرائيلي والإرادة الفلسطينية، فعلى مدار تاريخ الحركة الأسيرة كان هناك العشرات من عمليات انتزاع الحرية والتي شكلت ضربة قاسية للمؤسسة الأمنية والعسكرية لإدارات سجون الاحتلال، وكان من أشهرها عملية الهروب الكبير من سجن غزة المركزي بتاريخ 17 /5/1987م، والتي استطاع ستة من عناصر حركة الجهاد الإسلامي وهم: مصباح الصوري، وعماد الصفطاوي، وصالح شتوي، ومحمد الجمل، وخالد صالح، وسامي الشيخ خليل، أن ينتزعوا حريتهم من هذا السجن رغم الصعوبات والتحديات الأمنية الكبيرة، حيث وصف الكاتب الصهيوني يهودا عاري ذلك الحدث وتأثيراته فقال: " إن عملية الهروب الجريئة تلك التي كانت بداية قصة الأسطورة والبطولة، والهالة التي نسجت سريعاً حول المنظمة الصغيرة, وكانت قصص الهاربين بمثابة عود الثقاب الذي أشعل النيران في مشاعر المحنة والإذلال التي انتابت الفلسطينيين".

لم تكن هذه العملية آخر فصول القصة بل بدايتها، ليكتب أبطال انتزاع الحرية من سجن جلبوع فصولها الأخيرة في عملية يعجز العقل البشري على تخيلها, هذا السجن الذي يعتبر من أكثر السجون أمناً داخل دولة الاحتلال، ويقطنه الأسرى الذين تم تصنيفهم الأخطر على دولة الاحتلال. حيث شارك في بناء وتخطيط هذا السجن خبراء ايرلنديون, يبلغ ارتفاع سوره 9 أمتار أعلاها صاج مطلي؛ حتى لا يستطيع أحد أن يتسلقه, وتم تسميته بالخزنة الحديدية, واستطاع ستة أسرى من سجن جلبوع وهم: محمود العارضة، ومحمد العارضة، وأيهم كممجي، ويعقوب قادري، وزكريا الزبيدي، ومناضل انفيعات، انتزاع حريتهم من هذا السجن.

 لم تكن قصه الهروب حدثاً عادياً بل كانت حدثاً استثنائياً، وذلك ليس بمجرد عملية هروب من سجن أمني صهيوني فحسب, بل في ترسيخ ثقافة جديدة يصنع فيها فلسطيني جديد في أتون المعركة، يواجه ويقاتل ويفكر ويخطط في أشد اللحظات حلكةً وحصاراً وإرهاباً ومن قلب التحصينات الأمنية الصهيونية في سجن جلبوع الذي يصنف من أشد السجون تحصناً وأمناً في العالم، حيث رسخ هؤلاء الأسرى الفلسطينيين ليس للفلسطينيين فحسب، بل لكل المظلومين والمقهورين في العالم؛ بأنهم يستطيعون أن ينتصروا بإرادتهم وصبرهم على الظالم مهما كانت جلبته وقوته ومهما طال زمانه, هذا الحدث المعجزة بث الفرحة في قلوب الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية، والذي نسج في عقولهم ومخيلاتهم صورة البطولة والشرف لهؤلاء الأسرى، بل رسخت في نفوسهم الثقة التي طالما غيبت عنهم بأنهم حتماً منتصرون على هذا الاحتلال الذي احتل أرضهم ودنس مقدساتهم وسفك دمائهم، لينظروا من خلال نفق سجن جلبوع ومن النور الذي في آخره بأن زمن الحرية آت لا محالة.

هذا الحدث المعجزة رسخ العديد من الدلالات المهمة ومنها:

1.     إعادة روح وثقافة الانتصار التي فقدت منذ احتلال فلسطين عام 1948م في ثقافة وفكر الأمة العربية والإسلامية، التي رسمت في مخيلتها بأن هذا الاحتلال يمثل صورة الخرافة التي لا يمكن أن تقهر وتهزم، ليأتي هؤلاء الأسرى وبأدوات بسيطة يكسرون هيبته ومنظومته الأمنية والعسكرية؛ وليبرهنوا بأنه أوهن من خيط العنكبوت، كما يقول مهندس عملية انتزاع الحرية محمود العارضة: "أن هذا الاحتلال وهم من غبار".

2.     التأثير المباشر لرفع همة القتال للشباب الفلسطيني في مواجهه الاحتلال الإسرائيلي، وخلق حالةً من الإبداع  في منازلة ومواجهة الاحتلال، بالتفكير والتخطيط الجيد قبل تنفيذ عمليات نضالية ضد الكيان الصهيوني، وهذا ما رسخ في العمليات الاستشهادية الاستثنائية الأخيرة في بئر السبع والخضيرة وبني براك وتل أبيب.

3.     كلمة السر التي عنوانها جنين, هؤلاء الأسرى الذين ترعرعوا في جنين فلا عجب أن تكون جنين بوابة الثورة وكلمة السر في إشعالها في الضفة الغربية، هؤلاء الأسرى الذين غرسوا ثقافة المواجهة في عقول وفكر أبناء جنين، والذين يمثلون ظاهرة استثنائية، والتي أرهقت الاحتلال الإسرائيلي والذي يخشى من انتشار هذه الظاهرة  في مدن الضفة الغربية، فتقدمت جنين بأبنائها الشجعان وهم يدافعون عن تراب فلسطين، ضياء ورعد وأبو سند وعباهرة وطوالبة وزكارنة وأبو الرب وكممجي والحصري وغيرهم من الشهداء الذين استمدوا هذه القوة وأصبحت منهج حياة للمقاومة بعد عملية انتزاع الحرية في سجن جلبوع.

4.     أعادة عملية انتزاع الحرية من سجن جلبوع قضية الأسرى الى الواجهة من جديد وعلى جميع المستويات: الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية، وتسليط الضوء على الإرهاب والظلم الذي يواجهه الأسير الفلسطيني داخل سجون الاحتلال. 

5.     هزيمة المنظومة العسكرية والأمنية للاحتلال الصهيوني ولإدارات سجونه،  وهذا ما كان واضحاً من حالة الإرباك التي عاشتها دولة الاحتلال عقب انتزاع الأسرى حريتهم، حيث حالة عدم الثقة بين المجتمع الصهيوني وبين المؤسسات الأمنية والعسكرية الصهيونية .

بلا شك أن إدارات سجون الاحتلال عكست فشلها الأمني والعسكري في هذه العملية بالمزيد من القمع والإرهاب وسحب الإنجازات من الأسرى، ولكن الأسير الفلسطيني واجه هذه التحديات بالصمود والتحدي والإرادة واستطاع أن يفشل كل مخططات إدارات سجون الاحتلال في النيل من إرث وإنجازات الحركة الأسيرة والتي دفعوا ثمناً كبيراً من دمائهم وزهرات عمرهم وشبابهم من أجل هذه الانجازات.

وكان للفن الفلسطيني بصمة رائعة للتعبير عن مشهد انتزاع الحرية في سجن جلبوع، حيث استطاعت الدراما الفلسطينية أن تجسد هذه المعركة في مسلسل حمل عنوان شارة نصر سجن جلبوع، والذي جسد من خلاله مدى الدقة والتفكير والتخطيط والتحدي الأمني الكبير الذي كان يتحلى به الأسرى الستة في تنفيذهم وتخطيطهم لعملية حفر نفق الحرية في سجن جلبوع، واستطاعوا أن يتغلبوا على كل هذه التحديات والمعوقات، وأن يصنعوا المعجزة التي ستظل عالقة وراسخة في تاريخ نضال شعبنا الفلسطيني لنيل حريته وتحرير أرضه.

 

 

كلمات دلالية