المواجهة عبر الجغرافيا الرقمية

الساعة 01:39 م|28 مارس 2022

فلسطين اليوم

بقلم : أيهم السهلي   

تُخاض مواجهة جديدة بين إسرائيل والفلسطينيين في جغرافيا افتراضية لا تعترف بموازين القوى العسكرية، بل يكفي جهاز كمبيوتر محمول أو هاتف نقال، لنقل ما يجري في اللحظة ذاتها إلى ملايين المتابعين. وما جرى في سنة 2021 في حي الشيخ جرّاح دليل على قدرة أشخاص قليلي العدد على مواجهة دولة مدججة بالسلاح.

ونقلت وسائل التواصل الاجتماعي في الأعوام الأخيرة الواقع الحيّ إلى افتراضي يمكن من خلاله التعبير عن الآراء والأفكار بغضّ النظر عن مدى معرفة الفرد وثقافته في الموضوعات التي يتحدث عنها.

وقد مكّن هذا الانتقال أي شخص يمتلك حساباً في "فايسبوك" أو "تويتر" أو "إنستغرام" من الاطلاع على مناخات معرفية متعددة لأي قضية أو بلد، وعلى الكيفية التي يتفاعل الناس من خلالها على هذا الأمر، من خلال منشورات وتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي.

ولمّا كانت إسرائيل معزولة عربياً لأعوام طويلة منذ تأسيسها في سنة 1948 حين كان الوعي الشعبي العربي يصنفها احتلالاً غريباً يجب إزالته وإعادة الحقوق المغتصبة إلى أصحابها، فإنها حاولت مراراً اختراق الشعوب العربية بأساليب متنوعة، ولا سيما بعد اتفاقية التطبيع التي وقّعتها مع مصر في سنة 1979، وكذلك بعد توقيع اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين في سنة 1993، واتفاقية وادي عربة في سنة 1994. لكن تلك المحاولات لم تنجح في اختراق الوعي العربي، ومن حسن الحظ أن الحكومات العربية التي وقّعت تلك المعاهدات والاتفاقات، لم تستخدم أدواتها الدعائية لتحويل "إسرائيل" إلى حمل وديع أمام شعوبها.

وهذا الأمر ليس خافياً على المسؤولين الإسرائيليين، فرئيس حكومة الاحتلال السابق بنيامين نتنياهو غرّد في سنة 2017 في موقع "تويتر" قائلاً: "أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا، بل هي الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرّض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطىء ومنحاز."[1] تلك "الدعاية"، وفق نتنياهو، عملت وتعمل "إسرائيل" عبر استخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي لتغيير النظرة إليها، وتمرير تطبيع رقمي قبل التطبيع الدبلوماسي الذي افتتحته في الأعوام الأخيرة الإمارات المتحدة، وتبعتها فيه كل من البحرين والمغرب والسودان. ومن أجل ذلك طورت وزارة الخارجية الإسرائيلية عمل "دائرة الدبلوماسية الرقمية باللغة العربية" التي تأسست في سنة 2011 ووصلت في سنة 2016 إلى المرتبة الثامنة عالمياً. وقد زاد نشاطها في سنة 2020 في إثر توقيع اتفاق تطبيع العلاقات مع الإمارات، فنشر فريق "الدبلوماسية الرقمية" نحو 700 منشور على وسائل التواصل الاجتماعي في الشهر بزيادة ما بين 15% و20% عمّا كان يُنشر قبل الاتفاق، وهذا بحسب تصريح نقلته وكالة "رويترز" عن يوناتان جونين، الرئيس السابق لـ "وحدة التواصل الاجتماعي باللغة العربية" في وزارة الخارجية الإسرائيلية.

وتعمل "وحدة التواصل الاجتماعي باللغة العربية" بنشاط من خلال صفحات إسرائيلية منتشرة في معظم مواقع التواصل الاجتماعي، وتسعى لنشر خطاب ثقافي واجتماعي ودّي يحاول الترويج لـ "إسرائيل" كجزء طبيعي وحيوي في المنطقة، ولفكرة السلام بين "الشعب الإسرائيلي" وسائر الشعوب العربية.[2]

وتتركز مهمة هذا الفريق "في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإقناع العرب بتقبّل الدولة اليهودية." ومع أن الفريق زاد في نشاطه بعد توقيع اتفاقيات التطبيع الجديدة، إلّا إن تقريراً أصدرته وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية في تشرين الأول / أكتوبر 2020 كشف أن أكثر من 90% من التعليقات العربية على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن اتفاقات التطبيع خلال آب / أغسطس وأيلول / سبتمبر 2020 كانت سلبية، وانخفضت في كانون الثاني / يناير 2021 إلى 75%.[3]

وفي المقابل أظهرت أرقام "المؤشر العربي 2019/2020" الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، رفض 88% من المستجيبين أن تعترف دولهم بإسرائيل، في مقابل 6% أفادوا بأنهم يقبلون بهذا الاعتراف، لكن نصف الفئة الأخيرة اشترط أن "يتم إنشاء دولة فلسطينية مستقلة" قبل الاعتراف بإسرائيل. وجاء في المؤشر أيضاً أن "أعلى نسبة رفض للاعتراف بإسرائيل كانت في الجزائر بنسبة 99%، تليها لبنان بنسبة 94%، فتونس والأردن بنسبة 93% لكل منهما"، وأن رفض الاعتراف بإسرائيل جاء عالياً في منطقة الخليج أيضاً، فنسبة 90 %تقريباً من المستجيبين في قطر والكويت يرفضون اعتراف دولتَيهما بإسرائيل، وأن "65% من السعوديين عبّروا عن رفضهم لذلك."[4]

تدحض تلك النسب ترويج الدبلوماسية الإسرائيلية الكلاسيكية لإنجازات تظهر في وسائل التواصل الاجتماعي. ففي الوقت الذي ينجح الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي أفيخاي أدرعي في جذب المتابعين العرب لصفحته (عددهم أكثر من 2 مليون متابع) من خلال نشره الأدعية الدينية والمعايدات في المناسبات الإسلامية والمسيحية، فإنه يفشل في تحقيق القبول الشعبي به وبدولته. فأغلبية الردود التي تلاحَظ في صفحته تأتي ناقدة وشاتمة له ولمَن يمثل، علماً بأن كثيرين من المدونين العرب يحذّرون من التواصل مع أدرعي خاصة، والصفحات الإسرائيلية عامة، باعتبار أن هذا التواصل يشكل تطبيعاً ناعماً تسعى له "إسرائيل" وتستخدمه لتطوير استراتيجيات للتواصل مع المحيط العربي، أملاً بإنهاء حالة الرفض والعداء لها.

وصفحة "أدرعي" ليست الوحيدة التي تقدم محتوى للمواطنين في الدول العربية، إذ إن صفحة "إسرائيل تتكلم العربية" الرسمية التي يديرهـا قسـم اللغـة العربيـة في دائـرة الدبلوماسـية الرقميـة الإسرائيلية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، ويتابعها أكثر من 3 ملايين شخص، تقدم يومياً العديد من المنشورات التي تعمل على إظهار وجه آخر لإسرائيل. ولا يكاد الفريق المشرف على الصفحة يترك تعليقاً على تلك المنشورات، إلّا ويرد عليه بطريقة تسعى للإيهام باستيعاب الرأي الآخر ومخاطبته حتى في أمور تبدو في الذهنية الإسرائيلية مستفزة، ولا سيما إذا لامست الدين أو المعلومات عن الكيان ونشأته. فمثلاً نشرت الصفحة معلومات عن كتاب "الدولة اليهودية" لثيودور هيرتسل، فعلّق أحد الأشخاص قائلاً إن هيرتسل هو مؤلف "بروتوكولات حكماء صهيون"، فرد القائمون على الصفحة بتعليق أن كتاب البروتوكولات "وثيقة مزورة قامت بترويجها الشرطة السرية الروسية في نهاية القرن الـ 19"، وهذا المثال واحد من مئات، ليس في هذه الصفحة النشطة في "فايسبوك" و"تويتر" و"إنستغرام" فقط، بل في صفحات أُخرى أيضاً، إحداها ناطقة باللهجة العراقية.

وأظهرت دراسة تحليلية" حــرص صــفحتَي "إسرائيل تــتكلم بالعربيــة"، و"أفيخــاي أدرعــي" علــى نشــر منشورات دينية بلغة عربيـة فصـحى وعاميـة، والإكثـار مـن اسـتخدام الأحاديـث النبويـة الشــريفة والآيــات القرآنيــة. وبيّنت أن سبب تلك الاستخدامات "إحـداث تـأثير نفســي ووجــداني في مســتخدمي تلــك الصــفحات، ولفــت انتبــاههم لتلــك المنشــورات، واســتدراجهم للتفاعــل معهــا، ورســم صــورة ورديــة وأخلاقيــة مغــايرة للكيــان وللجــيش الإسرائيلي على أرض الواقع."[5]

وتحرص "الدبلوماسية الرقمية" الإسرائيلية على مخاطبة شعوب الدول المطبعة وإبراز أهمية التواصل بين "إسرائيل" وتلك الدول، فمثلاً تحرص الصفحات العربية التابعة للاحتلال على معايدة الإمارات والبحرين بأعيادهما الوطنية عبر منشورات متعددة، وفيديوهات تُظهر مدنيين إسرائيليين يعايدون البلد المستهدف ويتمنون له الخير. وعلى الرغم من وجود ردود إيجابية، فإن ردوداً سلبية وليست مرحّبة تظهر في تلك المنشورات.

وبهدف زيادة التواصل، يعمل القائمون على المنصات الإسرائيلية على "توريط" بعض الشخصيات الفنية العامة من خلال نشر صورة مع شخصية إسرائيلية، ولأن طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي تحرص على عامل الجذب والفضول فإن تلك الصور تدفع المئات، بل الآلاف أحياناً، إلى زيارة الصفحة التي يكتشف الزائر أنها إسرائيلية فتثير فضوله للتعرف إليها أكثر، ليجد فيها ما يناقض ما تعلم في مجتمعه ومدرسته وحياته عن أن إسرائيل عدو ومحتل لأراضٍ عربية، وهذا بحسب ما تحاول هذه الصفحات ترويجه.

المشكلة، أنه في مقابل ما تقوم به "إسرائيل" لترويج نفسها أمام الشعوب العربية، لا توجد جهود فلسطينية رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي لتظهير صورة الاحتلال الحقيقية، علماً بأن المعطيات الدقيقة عن ذلك متوفرة لدى الجهات الرسمية الفلسطينية، ويمكنها توفير المتطلبات اللازمة لمثل هذه الحقيقة على منصات التواصل الاجتماعي، إلّا إن "كثيراً مـن الدبلوماسيين الفلسـطينيين لا يعرفـون الدبلوماسـية الرقميـة ولا أهميتهـا ولا مغزاهـا."[6] وفعلاً، فإن صفحة وزارة الخارجية الفلسطينية في "فايسبوك" يتابعها نحو 98,000 شخص حول العالم، إلّا إن التفاعل مع منشوراتها، القليلة أصلاً، ضعيف جداً، وفي بعض الأحيان قد لا يشاهد المنشور أحد.

أمام هذا التقصير / العجز الرسمي، تمكّن ناشطون فلسطينيون وعرب على وسائل التواصل الاجتماعي من تحقيق اختراقات كبرى على مستوى "المواجهة الرقمية"، مضيفين "جغرافيا فلسطينية" جديدة، رقمية، تتجاوز انفصالهم الجغرافي في أنحاء العالم بفعل الاحتلال وتهجيره للآباء، وفصل الشعب الواحد إلى شعوب وفق البلد الذي يسكنه الفلسطينيون: فلسطيني لبناني، وفلسطيني سوري، وفلسطيني أردني، إلخ؛ بل باتوا شعوباً حتى في فلسطين التاريخية: شعب الداخل، وشعب الضفة، وشعب غزة، وشعب القدس.

ومن الأمثلة البارزة لنجاح المبادرات الرقمية غير الرسمية، المجهود الفردي لكل من منى الكرد وشقيقها محمد اللذين مكّنتهما وسائل التواصل الاجتماعي، من نقل قضية منزلهما في حي الشيخ جرّاح، وقضية حيّهما، بل وطنهما المحتل منذ سنة 1948، إلى عشرات آلاف المتابعين. فمن خلال وجودهما على أكثر من منصة، تمكّنا من جذب اهتمام العالم إلى ما كان يحدث في حي الشيخ جرّاح، كما ساعدت التقنيات الحديثة التي يمتلكها عدد من الصحافيين الفلسطينيين في نقل الأحداث لحظة بلحظة ومباشرة ليس على الشاشات فقط، بل على صفحاتهم الخاصة في "فايسبوك" أيضاً، مثل الصحافية كريستين ريناوي التي كانت تنقل مباشرة، ولا تزال، الأحداث التي تجري على الأرض، حتى إن بعض القنوات الفضائية نقل ما كانت تبثّه تلك الصحافية في صفحتها. وليست كريستين وحدها ناشطة رقمياً، بل إن هناك مئات الآلاف على منصات أُخرى يتابعون منى حوّا وعلاء أبو دياب وغيرهما.

هؤلاء جميعهم نشروا ووضّحوا الحقائق، وهم مستمرون حتى اليوم في تقديم الرواية الفلسطينية، في مواجهة ما يحاول الاحتلال ترويجه عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وإزاء نجاح "المواجهة الرقمية" الفلسطينية، انحازت شركات التواصل الاجتماعي إلى الاحتلال واستجابت لمطالبه بحجب المحتوى الفلسطيني، بل حذفه وتقييد الوصول إليه، فانتشرت حملة رقمية لخفض تقييم "فايسبوك" على متجرَي "غوغل بلاي" الذي وصل إلى 2,5 بعدما كان نحو 4,7، كما تراجع تقييم التطبيق على متجر "آبل ستور" من 5 إلى 1,7.

كذلك انتقدت منظمات حقوقية دولية انحياز موقع "فايسبوك" الذي يدّعي الحيادية، فطالبت منظمة "هيومن رايتس ووتش" ذاك الموقع بإجراء تحقيق مستقل متوافق مع المعايير الدولية، وقالت في بيان "إن شركة (فايسبوك) أزالت وقمعت بشكل غير جائز محتوى نشره فلسطينيون ومناصروهم، يتضمن الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان في إسرائيل وفلسطين خلال الأعمال العدائية في أيار / مايو 2021"، وأضافت أن "اعتراف الشركة بالأخطاء ومحاولات تصحيح بعضها غير كافٍ ولا يعالج حجم ونطاق القيود على المحتوى المبلّغ عنها، ولا يشرح بشكل كافٍ سبب حدوثها في المقام الأول."[7]

لقد نجح فلسطينيون ومؤيدون لهم عبر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في نشر السردية الفلسطينية ونقل صورة أُخرى عن أي حدث تحاول إسرائيل ومؤيدوها، وحديثاً بعض المطبّعين العرب، تزييفه، الأمر الذي زاد في أعداد مَن ينتقدون إسرائيل لدى الرأي العام العالمي، بينما لم تنجح إسرائيل كثيراً في اختراق النسيج الشعبي لدول التطبيع، والداعم للقضية الفلسطينية.

إن انعكاسات أي حدث تبدو واضحة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعادة ما يعيش الحدث الكبير على المنصات (ترند / trend) من أسبوع إلى عشرة أيام، وخلال تلك المدة هناك مَن يغتنمون تلك الأدوات العصرية لترويج روايتهم وتمكينها في وعي شعوب كاملة بذكاء وجمال وبخلال ثوانٍ قليلة، ولدى التمكن من تلك الأدوات الرقمية الحديثة، فإن حاصلاً حقيقيا للمعركة القائمة منذ أكثر من مئة عام سيأتي بثماره مثلما حدث أكثر من مرة، لكن ذلك سيجري الآن أمام العالم كله، بكل هدوء وبـ "نقرة زر".

 

كلمات دلالية