خبر تنتهي محكوميته سنة 4053.. الأسير عبد الهادي غنيم.. الزوج الغائب والأب المفتقد منذ 20 عاماً

الساعة 11:24 ص|22 ابريل 2009

فلسطين اليوم - غزة

في حجرة الضيافة التي يضمها هذا المنزل في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، يستشعر المرء وطأة الغياب. فهناك ما هو مفقود في هذا البيت الفلسطيني منذ عشرين سنة.

 

ولا حاجة لتفسيرات كثيرة، فالمنزل يعود للأسير عبد الهادي غنيم (43 عاماً)، الذي يقضي حكماً بالسجن لمدة 2064 سنة، بدأت من السادس من تموز (يوليو) من عام 1989، تنقل خلالها عبر كافة سجون الاحتلال ومعتقلاته. أما الإفراج الرسمي عنه فسيكون في عام 4053 بعد الميلاد، حسب سجلات المحاكم الإسرائيلية على الأقل.

 

لدى اعتقال عبد الهادي لم يكن قد مضى كثير من الوقت على زواجه. كان قد رُزق وقتها بابنه البكر ثائر، وبعد يوم واحد على ميلاده وقع عبد الهادي أسيراً. كان ذلك قبل عشرين سنة من الآن، وهو اليوم يُعدّ من أبرز الأسرى الذين كانت سلطات الاحتلال ترفض الإفراج عنهم.

 

قسمات وجه الابن، الشاب ثائر، تكشف أنه ينتفض انفعالاً وهو يتحدّث عن والده الأسير. فما سمعه الابن منذ سنوات أنه رآى والده حين كان عمره يوماً واحداً، ثم غادر الأب وطالت غيبته. وضعت زوجة عبد الهادي طفلها ثائر في الخامس من تموز (يوليو) من عام 1989، فطار الخبر لزوجها الذي جاء مسرعا من عمله في داخل الأراضي المحتلة عام 1948 لمشاهدة ابنه البكر. قبّله ومضى. لم تعلق صورته كاملة في ذهنه، فعهده به جديد وعلاقته معه حديثة.

 

بعد أقل من أربع وعشرين ساعة من ميلاد ثائر، وقع عبد الهادي في الأسر. كان الخبر في البداية شبه عادي، لكنّ التفاصيل اللاحقة أكدت أنّ الحافلة الإسرائيلية التي سقطت في أحد أودية القدس تدحرجت عقب تكبيرة مجلجلة من عبد الهادي، ومهاجمته السائق وقيامه بليّ مقود الحافلة، انتقاما للأطفال والمواطنين الفلسطينيين الذين يقتلهم الجيش الإسرائيلي في الضفة والقطاع. غاص عبد الهادي برفقة ستة عشر قتيلاً إسرائيلياً وعشرات الإصابات في واد سحيق. لحيته الشقراء شفعت له لساعات فقط، قبل أن يستيقظ بعض الركاب من غيبوبتهم ويدلّوا عليه، بينما كان هو فقط على بعد عشرات الأمتار يحاول الابتعاد وقد سقط مضرجاً بجروحه. هذه هي التفاصيل الكاملة التي حدثته بها أمّه؛ فكيف ينساها؟!.

 

يقطّع ثائر الكلمات واصفاً علاقته بوالده "العلاقة معه هي علاقة أصدقاء، تعودنا على ذلك حتى هو عوّدني على ذلك، وأنا الآن انتظره". يبتسم ثائر وهو يتابع قوله "أنتظر الأب بكل ما تحمل الكلمة من معنى. قبل سنوات كنّا نزوره، لكن من سنوات لم أره، ونادراً ما نتمكن من الاتصال معه، فهناك كثير من الأشياء لا يصلح التليفون للحديث فيها". وفي الواقع؛ فإنّ سلطات الاحتلال أخذت في السنوات الأخيرة تحظر على ذوي الأسرى من قطاع غزة زيارات السجون، ما أدى لانقطاع قسري دام سنوات.

 

تنضم والدة ثائر للجلسة قبل أن يتابع ثائر حديثه، عن احتمالات إنجاز تبادل للأسرى بين المقاومة الفلسطينية والجانب الإسرائيلي. يرتفع منحى التفاؤل لدى الأم وابنها أحياناً وينخفض أحياناً أخرى، بحسب تفاوت الأنباء عن تقدم التفاوض أو تعثره.

 

وكغيره من الأسرى، عانى عبد الهادي غنيم مرارة التعذيب، خاصة العزل الانفرادي. وتقول زوجته "أم ثائر"، إنّ عبد الهادي "سُجن في كثير من السجون، فقد قضى ثلاث سنوات ونصف السنة في (سجن) عزل الرملة، وبعد سبعة عشر يوماً من إضرابه عن الطعام جاؤوا به إلى سجن المجدل، وبعدها بدأت سلسلة تنقلات إلى سجن نفحة، ثم سجن بئر السبع الذي أمضى فيه عشر سنوات، ثم سجن هدرايم، ومنه إلى سجن جلبوع (في أقصى شمال فلسطين المحتلة)، ثم سجن بئر السبع ونفحة مرة أخرى".

 

عشرون سنة في كلمتين؛ تعني ألواناً من العذاب المستمر بحق الأسير عبد الهادي غنيم، ربّ الأسرة الغائب ووالد الطالب الجامعي ثائر، الذي تركه وعمره يوماً واحداً فقط.

 

وصلت قبل شهور رسالة إلى "أم ثائر" من عبد الهادي، مرّت عبر عشرات الأبواب المغلقة بطريقة ما، لكنها في النهاية وصلت إلى يدها. كانت رسالة نادرة، خاصة بعد وفاة والدته التي انقطعت بعدها الرسائل، حيث لم يستطع الكتابة منذ وفاتها قبل سنوات، وها هو الآن يكتب من جديد وبفيض من الأمل.

 

تشبك والدة ثائر أصابعها، وهي تتحدث عن معاناة زوجة الأسير، فالأسرة بحاجة إلى أب قائد وموجِّه، مضيفة "كنت مضطرة أن أكون أماً وأباً في الوقت نفسه".

 

في حارته بمخيم النصيرات تحدّثوا كثيراً عن غيابه، لكنّ أكثرهم تأثراً به همّ أسرته، إخوته ووالدته التي توفيت قبل أربع سنوات، حيث كانت قد رأته قبلها بعام وثلاثة شهور في إحدى زياراتها للسجن. لقد دعت والدته الله كثيراً ألاّ تموت إلا بعد أن تراه يحتضن ثائراً، لكنّ منيتها عاجلتها، فظلت الأمنية تتردّد في منزله، حين يترحّمون عليها ويستذكرون أمنيتها.

 

أما زوجة عبد الهادي؛ فهي فلسطينية من سكان بئر السبع في الأصل، المدينة التي قضى الأسير "أبو ثائر" شطر حياته الاعتقالية في سجنها.

 

تختتم "أم ثائر" حديثها بلحظات صمت، دارت فيها العيون قبل أن تقع على إحدى الجدران في منزل عبد الهادي غنيم، حيث يحتفظون بإحدى لوحاته القادمة من السجون، والتي كتب عليها اسم ابنه ثائر وزيّنها بألوان التراث الفلسطيني. وعلى طاولة أخرى رقد مجسّم لقبة الصخرة المشرفة بالقدس، من صناعة الأب، حيث هو الغائب الحاضر في كل الأركان، والذي لا تنقطع الآمال بخروجه متحرراً من أسره، طال الزمان أم قَصُر.