خبر مستقبل الحوار الفلسطيني والتحديات ..عبد الجبار سعيد

الساعة 09:35 ص|16 ابريل 2009

ـ الجزيرة نت 16/4/2009

مرّ الحوار الوطني الفلسطيني بمحطات عدة، يمكننا أن ننظر إليها من خلال ملامح مرحلتين، الخط الفاصل بينهما الحسم العسكري في غزة، إذ لا خلاف بين اثنين حول ضرورة الحوار والحاجة إليه، لنجاح المشروع الوطني المتمثل في التحرر من نير الاحتلال، وأن الوحدة الوطنية مقدمة ضرورية لتحقيق ذلك الهدف، كما أنها ضرورية لاستمراره وتحقيق ثمار ذلك التحرير المأمول.

ورغم اتفاق الجميع ومن كل الأطراف على ضرورة الحوار بين ألوان الطيف الفلسطيني كافة، وعلى ضرورة نجاحه، إلا أنه يتعثر ولم يحقق أهدافه بعد.

واقع تاريخي

والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو مستقبل هذا الحوار، في ظل جملة من التحديات الداخلية والخارجية، ولعل أبرز التحديات الداخلية يتمثل في التناقضات القائمة بين رؤى الفصائل الفلسطينية وبرامجها ضمن المشروع الوطني الفلسطيني، فقد آلت اتجاهات الفصائل إلى اتجاهين متناقضين متراكمين عبر سنوات المقاومة أو المفاوضات.

اتجاه يتبنى خيار المقاومة والكفاح المسلح طريقا لانتزاع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ويعتقد أن هذا الخيار هو أقصر الطرق لتحقيق الهدف الفلسطيني، والأقل تكلفة من حيث النتيجة، رغم صعوبة الطريق وكثرة التحديات، وبالتالي فلا اعتراف بإسرائيل ولا بمعاهدات السلام، أو القرارات الدولية التي ضيعت حقوقهم من وجهة نظرهم ولم ولن ترجع لهم شيئا من تلك الحقوق.

ويتمثل هذا الاتجاه في حركتي حماس والجهاد الإسلامي وإن اختلفتا في بعض الرؤى التفصيلية والثانوية خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الواقع السياسي المتمثل في السلطة الفلسطينية، لكن الخط الرئيسي المقاوم محل اتفاق بينهما، ويشاركهما هذا الاتجاه عدد من الفصائل الفلسطينية الموجودة في دمشق، ومن أهمها الجبهة الشعبية-القيادة العامة.

أما الاتجاه الثاني الرئيسي فيتبنى خيار المفاوضات والتعامل مع الشرعية الدولية ومؤسساتها والقبول بما تمليه اللجنة الرباعية، والإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، خاصة أن هذا الاتجاه هو الذي وقع اتفاق أوسلو، واعترف بإسرائيل وأجرى جولات طويلة من المفاوضات ليس آخرها أنابوليس وما بعده، ويرى هذا الاتجاه أن التغيرات الدولية، وتغير موازين القوى لم يعد في صالح الشعب الفلسطيني، وأن المفاوضات والتعامل مع الواقع السياسي الدولي أمر لا مفر منه، وأن خيار المقاومة والكفاح المسلح لم يعد ممكنا ولا مجديا وبالتالي فلا بد من التخلي عنه.

وتتزعم حركة فتح هذا الاتجاه ويشاركها فيه عدد من فصائل منظمة التحرير منها الجبهتان الشعبية والديمقراطية، إذن نحن أمام رؤيتين فلسطينيتين داخليتين مختلفتين حد التناقض تجاه المشروع التحرري وآلياته.

أما التحدي الخارجي أمام الحوار الفلسطيني فيتمثل على وجه الحقيقة وبصورة مباشرة في الفيتو الذي تضعه الإدارة الأميركية بوش أوباما على خيار المقاومة والجهاد أو ما تسميه العنف، وبالضرورة على حماس باعتبارها الوجه السياسي الأبرز لهذا الخيار، وربط الموافقة على التعامل مع حماس بتغيير مواقفها من الاعتراف بإسرائيل والاعتراف باتفاقية أوسلوا وتبعاتها، ونبذ العنف والتخلي عن خيار المقاومة، وبالتالي نهاية هذا المشروع وهذا الخيار من الناحية العملية.

فإذا أضفنا إلى ذلك موقف الحكومة الإسرائيلية المتشدد برفض الاعتراف بحماس أو التعامل معها باعتبارها أمرا واقعا، واحتمالات تزايد هذا التشدد في ظل الحكومة الإسرائيلية الجديدة الأشد تطرفا، فإن أثر العامل الخارجي يبدو أكبر تحديا لنجاح الحوار حتى من العامل الداخلي.

ولا يفوتنا أن نتوقف ضمن تحليلنا للعامل الخارجي، أن نؤكد انعكاس الحالة الفلسطينية على الحالة العربية والإسلامية الرسمية، وليس العكس، فثمة معسكر الممانعة ودعم اتجاه المقاومة المتمثل في إيران وسوريا وقطر والسودان وعدد من الدول العربية والإسلامية مع إدراكنا للتفاوت بين أطراف هذا المعسكر في التفاصيل أيضا، وثمة معسكر الاعتدال ودعم التفاوض والتعامل مع الشرعية الدولية المتمثل في مصر والسعودية والأردن وغيرها من الدول العربية والإسلامية أيضا مع تفاوت في التفاصيل.  إذن ليس ثمة طرف عربي أو إسلامي محايد يملك رؤية ووزنا نستطيع المراهنة عليه للضغط على الطرفين ومحاولة تقريب وجهات النظر بينهما، أو محاولة زحزحة الموقف الدولي عن تشدده وإعطاء الفرصة لإمكانية التعامل مع توافق وطني فلسطيني يمكن أن يجمع بين الرؤيتين، فضلا عن أن جوهر التوفيق بين الرؤيتين ليس موجودا أصلا فلسطينيا. بل إن الخيار الدولي فيما يبدو للرائي يتجه نحو محاولة تفكيك ما يسمى معسكر الممانعة، والمراهنة على تحييد إيران وسوريا وبالتالي رفع غطاء الدعم عن خيار المقاومة الفلسطيني، وليس باتجاه العودة إلى واقعية الساحة الفلسطينية وضرورة التعامل الواقعي مع حركة حماس ضمن برنامجها المقاوم الرافض الاعتراف بإسرائيل. نقول إن العودة خطوة واحدة إلى الوراء والتوقف أمام حقيقة التناقض بين الأطراف الفلسطينية المتحاورة في القاهرة، وأمام تعقيدات الوضع الدولي والعربي، أمر في غاية الأهمية إذا أردنا أن نحاول النظر في آفاق نجاح الحوار الفلسطيني أو فشله.

تفصيلات تناقضية

ثم دعونا نمعن في مكونات هذا الحوار لعلنا نجد أفقا يمكن أن يجاوز الحوار فيه عنق الزجاجة، أو يبقى حبيس الأماني والخطابات، فقضايا الحوار خمس كل واحدة منها تملك من مقومات تعقيد الحوار أكثر من الأخرى.  فقضية منظمة التحرير تحمل في طياتها التساؤل الأكثر مفصلية وصراحة، وهو هل من الممكن أن تقبل فصائل منظمة التحرير عموما وفتح خصوصا، أن تقبل دخول حماس بثقلها ووزنها وحركة الجهاد الإسلامي لمنظمة التحرير، وتقديم مزيد من الشرعية والغطاء المؤسسي لبرنامج الجهاد والكفاح المسلح الذي يتناقض مع رؤية منظمة التحرير التي استقرت عليها والتي أشرنا إليها آنفا؟  بل إذا قبلت فتح ذلك -ولن تقبل- فهل ستوافق الدول العربية والولايات المتحدة وأوروبا على ذات الفكرة؟ وبالمقابل هل ستقبل حماس التنازل عن إصلاح منظمة التحرير بما يكفل دخولها والجهاد الإسلامي ضمن أطرها، وبالتالي إضفاء المزيد من الشرعية الفلسطينية على نهج المقاومة والكفاح المسلح، والعودة بمنظمة التحرير إلى ما كانت عليه قبل السير في مسلسل التنازلات وأوسلو؟  لعله لا يخفى على أحد مفصلية هذه القضية، خاصة أن حماس تعلمت من الدرس، وباتت تشترط أن يتم الاتفاق حزمة واحدة وبدون تجزئة، ولا يقل عن ذلك مفصلية ما يتعلق بإعادة تشكيل أجهزة الأمن على أسس مهنية، وبعيدا عن الفصائلية، وهذا معناه أن تتنازل فتح عن سيطرتها على الضفة الغربية، وتعيد الفرصة لحماس لتستعيد قدراتها، وترتب صفها من جديد، وتفعّل المقاومة من جديد، وأن تتنازل حماس عن سيطرتها على قطاع غزة، وتعطي فتح الفرصة لإعادة ترتيب صفوفها من جديد أيضا. أما العقدة الصعبة الثالثة فهي ولا شك البرنامج السياسي للحكومة الفلسطينية، وتشكيلها وهذا أيسر من البرنامج ليس لأن التوافق على البرنامج يعد أمرا صعبا، بل لوجود الفيتو الدولي الذي تحدثنا عنه بشأن حركة حماس وبرنامجها. أما القضية الرابعة فهي الانتخابات الرئاسية والتشريعية ولعلها من أيسر النقاط المطروحة للحوار، ولكن الشياطين تكمن في تفاصيل هذه المسألة، سواء في تشكيل لجنة الانتخابات، أو محكمة الانتخابات، أو القانون الانتخابي بين نظام القائمة النسبية أو الدوائر أو الجمع بينهما، ولا يخفى أن هذه النقاط تزداد صعوبة في ظل حالة الشك وعدم الثقة بين الطرفين، وسعي كل منهما لضمان تحقيق مصالحه من خلال الانتخابات. أما العنصر الخامس محل الخلاف الكامن، والذي طغت عليه المسائل السياسية، وهو في تقديرنا الأكثر تعقيدا في التفاصيل، وهو معالجة آثار ما بعد الحسم، مما يعني الخطوات التي ينبغي أن يتراجع عنها كل طرف من الأطراف مما اتخذه بعد الحسم، بمعنى التنازل عما يعتقد أنه حققه من مكتسبات على الأرض، ومن ذلك موضوع المعتقلين ومؤسسات العمل الخيري، والمفصولين من الوظائف العامة، والمساجد والخطباء، وغير ذلك مما تعرض لتغييرات وإجراءات جذرية مست وجود الطرف الآخر في بنية المؤسسات الفلسطينية. ولا يخفى أن هذه الإجراءات في الضفة أكثر منها في غزة، لأن الميادين المستهدفة هي محل اهتمام حماس أكثر منها محل اهتمام فتح. وكم من التعقيدات ستعترض هذا الملف وتعصف بالاتفاق، هذا إذا تم التوصل إليه ابتداء.

تراجع مستقبلي

ولقائل أن يقول ما الذي يمنع من عودة الطرفين إلى ما اتفقا عليه في مكة المكرمة، أو وثيقة الوفاق الوطني، وهاتان محطتان تدللان على إمكانية التوافق والوصول إلى قواسم مشتركة، ولا نحتاج إلى كبير جهد لنقول إن ما تم التوصل إليه في اتفاق مكة ووثيقة الوفاق الوطني ليس كافيا لتحقيق الوفاق الوطني، وليس قابلا للاستمرار، وإلا فلماذا انهار؟ ولماذا يتعقد الحوار الوطني في هذه المرحلة إذا كان ما تم التوصل إليه سابقا كافيا؟ ولا ننسى أن العامل الخارجي كان الأكثر تأثيرا على اتفاق مكة وحال دون نجاحه، وهذا العامل الخارجي لا يزال قائما كما أشرنا، مما يعيدنا إلى المربع الأول، الذي اتخذنا فيه خطوة إلى الوراء لمراجعة صادقة متأملة للواقع الفلسطيني حتى نتمكن من استشراف مستقبل الحوار الفلسطيني واستجلاء الصورة على حقيقتها، والغاية من هذه الخطوة ليست الوصول إلى حالة من التفاؤل أو التشاؤم بقدر ما هي تشخيص الواقع للوقوف على أرض صلبة، ننطلق منها في تصور إمكانيات الفشل أو النجاح لهذا الحوار الذي تسير عواطفنا ولا شك باتجاه الأمل في نجاحه، ولكن الأمل والطموح شيء والواقع شيء آخر. وإذا استمر الوضع الداخلي الفلسطيني والوضع الدولي والعربي والإسلامي على ما هو عليه، فليس من المتوقع في نظرنا أن يكتب النجاح لهذا الحوار، وإن تجاوز بعض العقبات وتم التوافق على بعض المشتركات، فسيكون أمرا مؤقتا قصير الأجل. ولذلك نحن ممن يعتقدون أن الأرضية الطبيعية التي لابد منها لضمان نجاح هذا الحوار هي الانطلاق من تقييم حقيقي للواقع الفلسطيني، وإعادة نظر شاملة في النظام السياسي الفلسطيني، ومراجعة للتجربة الفلسطينية بكل حيثياتها مقاومة ومفاوضات ومؤسسات، وأن ينطلق الحوار من رغبة صادقة في التوصل إلى نتائج واستخلاص عبر من الدرس الفلسطيني، وأن تشارك فيه كافة أشكال الطيف الفلسطيني دون استثناء.

ولا بد أن يتجاوز الحوار الوطني النمط الفصائلي -ولا يستثنيه- إلى مؤسسات المجتمع المدني، والشخصيات الوطنية الفلسطينية والعربية والإسلامية، وبالتالي السعي للبحث عن رؤية كلية جديدة شاملة للهدف الفلسطيني في المرحلة القادمة، والأطر الفلسطينية السياسية الأنسب لتحقيق ذلك الهدف والذي يفترض أنه يقترب أكثر من أي وقت مضى باتجاه التحرير. بمعنى آخر نحن بحاجة إلى تفكيك التحدي الداخلي وتجزئته ومرحلته، وإعادة بنائه برؤية تجمع بين الفصائل وغيرها من مكونات المجتمع الفلسطيني، وبعيدا عن مؤثرات العوامل الخارجية المتمثلة في الضغوط الدولية والعربية بهذا الاتجاه أو ذاك، ولسنا ندعو هنا إلى إهمال العامل الخارجي والواقع الدولي ونحن ندرس خياراتنا، ولكننا ندعو إلى أخذه بعين الاعتبار، ولكن بعين المصلحة الفلسطينية وليس العكس, فلا يصح أن نشكل الرؤية الفلسطينية بالمنظار الدولي الخارجي فقط، خاصة أنه ينحاز في الجملة للرؤية الإسرائيلية. ونحن نعتقد أن البقاء على الحالة الفلسطينية الراهنة، ومناقشة المسائل المطروحة على مائدة الحوار، هو استمرار للغرق في التفاصيل، وابتعاد عن تشكيل الرؤية الكلية الحاكمة للوضع الفلسطيني، وهذا دوران في حلقة مفرغة لن يؤتي ثمرة أو يوصل إلى نتيجة حقيقية، ولن يبقى أمام أحد الاتجاهين إلا إقصاء الآخر والسيطرة عليه، بالقوة أو بالمغالبة أو ذوبانه وتحلله بفعل السنن والقوانين الإلهية التي تعتري التجمعات الإنسانية ولا تتخلف. وحتى يتحقق ذلك سنجد أن حكومة نتنياهو وربما قبل أن يأتي غيرها تستثمر الحالة الراهنة في التهام الأرض الفلسطينية، وتهويد القدس وتقطيع أوصال الحلم الفلسطيني، ولن تجد ما يجبرها على القبول بتغيير قوانين اللعبة والقبول بحالة فلسطينية جديدة، فنحن الذين بيدنا أن نبني مشروعنا الوطني الفلسطيني بكل مكوناته، ونملك أن نجر الموقف الدولي إلى رؤيتنا إن توحدت، ونحن الذين نؤخر هذا المشروع لا قدر الله.