خبر إلى أين تتّجه العلاقة الأميركية ـ الإسرائيلية؟ ..حسن نافعة

الساعة 08:56 ص|15 ابريل 2009

ـ الحياة 15/4/2009

لا تحتاج العلاقة الأميركية - الإسرائيلية إلى دليل أو برهان على متانتها وعمقها، فقد صمدت على مدى الأعوام الستين التي انقضت منذ نشأة الدولة الإسرائيلية أمام كل أنواع التحولات التي شهدها النظام الدولي خلال تلك الفترة. وفيما عدا الشرخ الموقت الذي حدث لهذه العلاقة إبان أزمة العدوان الثلاثي على مصر، والذي يمكن النظر إليه كاستثناء يثبت القاعدة ولا ينفيها، ظلت العلاقة الأميركية الإسرائيلية تتطور نحو الأفضل دائما إلى أن أصبحت تشكل في حدود علمي، نمطاً فريداً لا مثيل له في تاريخ العلاقات الدولية. وحين أصف هذا النمط بأنه "فريد" فلأنه يختلف كلياً عن غيره من أنماط العلاقات الثنائية بين الدول وبالتالي يبدو غير قابل للتصنيف أو المقارنة مع أي نمط آخر.

صحيح أن العلاقة الأميركية - الإسرائيلية تنتمي إلى النمط التعاوني في أقصى درجاته كثافة إلا أنها، مع ذلك، لا تخلو من مظاهر صراع مكتوم أو سافر بلغ في بعض الأحيان حد الإقدام على شن غارات عسكرية أو القيام بعمليات تجسس، ولكن دائما من طرف واحد هو إسرائيل. من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، قيام إسرائيل بشن هجوم مسلح متعمد على السفينة الحربية الأميركية "ليبرتي" أثناء وجودها في مسرح العمليات إبان حرب 1967 راح ضحيته عشرات الضباط والجنود، أو تمويلها لعمليات تجسس كثيرة داخل الولايات المتحدة ربما كانت أشهرها عملية الجاسوس الإسرائيلي جوناثان بولارد الذي ما زال قابعا منذ سنوات في السجون الأميركية ولم تفلح كل جهود اللوبي الصهيوني والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في الإفراج عنه. ويصعب تفسير دلالة ما ينطوي عليه هذا النمط من شذوذ إلا إذا أخذنا في الاعتبار درجة التعقيد في التركيبة النفسية والاجتماعية لدولة ولمجتمع لم يعودا يملكان رفاهية الوثوق بأي طرف من "الأغيار".

غير أن هذا النمط الشاذ من العلاقة لم يعد في ما يبدو قابلاً للاستمرار لأسباب ثلاثة، الأول: أن الولايات المتحدة تغيرت أو في طريقها للتغير. والثاني: أن إسرائيل بدورها تغيرت كثيراً وفي طريقها للتغير أكثر. والثالث: أن التغيير الحادث في البلدين يسير في اتجاهين متعارضين قد يستحيل التوفيق بينهما.

التغير الذي طرأ بالفعل، أو بدأت ملامحه تتبلور بشكل أكثر وضوحاً، نجم عن إدراك متزايد من جانب أجهزة صنع القرار والنخبة السياسية الأوسع بعجز القوة الأميركية عن تحقيق أي نوع من أنواع الهيمنة المنفردة على العالم، أو حتى الاستمرار في قيادة النظام الدولي لفترة طويلة، وذلك للأسباب التالية:

1- فشل عسكري مُنِي به الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان. فقد بنيت الاستراتيجية الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة على افتراض أن القوات الأميركية المسلحة قادرة على أن تخوض بنجاح حربين متزامنتين في منطقتين مختلفتين، وهو ما لم تثبت صحته بعد أن تبين أن هناك حروباً يستحيل تحقيق نصر نهائي فيها بقوة السلاح وحده.

2- سقوط أخلاقي مع تراجع واضح في جاذبية "نمط الحياة الأميركي" كنموذج يحتذى على الصعيد العالمي. وكان النظام الأميركي قد نجح، بحكم ما يتمتع به من عوامل "قوة ناعمة"، في صياغة نموذج للقيم ونمط للحياة تمتع على مدى عقود طويلة بجاذبية قوية على الصعيد العالمي، إلا أن إدارة المحافظين الجدد، والتي اتسم سلوكها باحتقار شديد لقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والعدالة، نجحت في تبديد هذا الرصيد المهم.

3- أزمة مالية واقتصادية بلغت من الضخامة حدا فرض على الإدارة الأميركية الجديدة مراجعة أسس النظام الرأسمالي نفسه، خصوصاً في صورته أو طبعته الأميركية المتطرفة، والذي ظلت اميركا تروج له وتتزعمه على مدى عقود طويلة.

وقد تواكب الإدراك المتزايد لحدود القوة الأميركية على هذه الأصعدة الثلاثة مع إدراك متزايد أيضا بالعجز عن عرقلة صعود قوى دولية أخرى بدت طامحة للمشاركة في قيادة النظام الدولي. وبينما كانت مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي تتآكل أو تتراجع، كانت مكانة قوى أخرى تتعاظم أو تزداد تألقا. فقد استطاعت روسيا أن توقف حالة تدهور كانت قد بدأت عقب انهيار الاتحاد السوفياتي وراحت تستعيد تماسكها وتفرض نفسها من جديد كقوة عالمية، وواصلت الصين نموّها الاقتصادي بمعدلات متسارعة وأصبحت مرشحة لشغل موقع القوة الاقتصادية الأولى في النظام العالمي خلال فترة ربما لا تتجاوز ربع قرن من الآن، وبدأت قوى إقليمية، مثل الهند والبرازيل وغيرهما، تبرز وتطالب بمقاعد دائمة في مجلس الأمن.

ولأن هذه التغييرات تبدو عميقة إلى الدرجة التي تفرض على الولايات المتحدة إعادة النظر في خريطة تحالفاتها الدولية، فمن المتوقع أن تدفع في اتجاه السعي لإعادة صياغة العلاقة الأميركية - الإسرائيلية على أسس جديدة ترتكز على تغليب المصلحة الأميركية أولا.

أما التغير الذي طال الساحة الإسرائيلية فجاء في سياق مختلف وسار في اتجاه يبدو معاكساً تماماً لما جرى على الساحة الأميركية، بعد أن تراجع دور اليسار الإسرائيلي في صياغة مستقبل المشروع الصهيوني. ومن المعروف أن هذا اليسار الذي اتسم بسمات خاصة فرضتها طبيعة المشروع الصهيوني نفسه ولعب الدور الأكثر حسماً في تأسيس دولة إسرائيل التي راح يتعهدها بالرعاية إلى أن أصبحت تمتلك كل المقومات التي تؤهلها لرسم سياسة خارجية مستقلة ومتحدية في كثير من الأحيان، كان يتبنى سياسة براغماتية تتحرك في إطار ما هو ممكن، وليس ما هو مرغوب، ما سهل من مهمة القوى الدولية والإقليمية الحليفة لإسرائيل، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، في رسم سياسة مرنة سمحت لها بتقديم أكبر دعم ممكن لإسرائيل مع تجنب الدخول في مواجهة مع الدول العربية في الوقت نفسه. لكن ما أن بدأ المشروع الصهيوني ينتقل من مرحلة بناء دولة "قابلة للحياة" إلى مرحلة بناء دولة إسرائيل الكبرى على كامل الأرض "التوراتية" حتى بدأ عقد اليسار الإسرائيلي ينفرط ويتآكل تاركاً الساحة ليمين بدا أكثر قدرة وتأهيلاً على استكمال بقية أهداف المشروع الصهيوني. وهكذا راحت موازين القوى على الساحة الإسرائيلية تميل تدريجيا لصالح اليمين إلى أن تمكن اليمين المتطرف من احتلال موقع القلب وبدأ تراجع اليسار وانسحابه نحو الهامش والأطراف، وهو ما كشفت عنه الانتخابات الأخيرة بوضوح تام. بل إن حزب العمل نفسه بدأ يتغير من الداخل، خصوصاً بعد أن آلت قيادته إلى جناح يميني لم يتردد في المشاركة في حكومة يقودها نتانياهو ويشغل فيها ليبرمان منصب وزير الخارجية!

وفي تقديري أنه سيكون من الصعب جدا على حكومة كهذه تبني سياسة قابلة للتجاوب معها من جانب إدارة أميركية يقودها باراك أوباما. فحكومة نتانياهو - ليبرمان تضع تصفية المشروع النووي الإيراني و "حزب الله" و "حماس" على رأس أولوياتها، وليس لديها ما تقدمه لمحمود عباس غير "سلام اقتصادي" لا معنى له، وتتبنى رسميّاً "استراتيجية شد الأطراف" التي تستهدف إثارة الفتن الطائفية وشغل الدول العربية الرئيسية بصراعات داخلية تحول دون انخراطها في الصراع العربي - الإسرائيلي..الخ. ولأن سياسة كهذه تبدو متناقضة بالمطلق مع سياسة أميركية جديدة تسعى للانسحاب من العراق والانفتاح على سورية وإيران والتحالف مع تركيا والاستمرار في اعتماد حل الدولتين كأساس لتسوية القضية الفلسطينية، فسوف يكون من الصعب جداً التوصل إلى توافق أو حلول وسط من أي نوع. ولأنه ليس من المتصور في الوقت نفسه أن يسعى نتانياهو للدخول في صدام مباشر وسريع مع إدارة أوباما، فمن المتوقع أن يسعى أولا لاحتوائها بوسائل كثيرة معروفة لا مجال للخوض في تفاصيلها هنا.

في سياق كهذا لم يعد السؤال يدور حول ما إذا كانت السياسة الأميركية تجاه إسرائيل ستتغير، لأن هذا التغيير بات حتميا في تقديري، وإنما حول متى وكيف؟ صحيح أن أوباما لا يريد، وبالقطع لن يسعى، للدخول في صدام مبكر مع إسرائيل، لأن أمامه أزمة اقتصادية عالمية بالغة الخطورة عليه أن يواجهها، وعشرات الآلاف من قوات وعد بسحبها من العراق ويريد أن يفي بوعده، ووضع صعب في كل من أفغانستان وباكستان يريد أن يجد له مخرجاً. ولأن علاج كل هذه القضايا يستوجب قدراً من الهدوء والاستقرار في البيئة الدولية المحيطة يصعب أن يتحقق ما لم يتم ترجيح كفة الوسائل الديبلوماسية على الوسائل العسكرية، فليس أمام أوباما من خيار آخر سوى بناء شبكة تحالفات دولية جديدة لا تتمحور بالضرورة حول المصالح الإسرائيلية. لذا لن يدور الصدام المتوقع بين نتانياهو وأوباما في البداية حول قضايا تتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي مباشرة وإنما سيدور حول قضايا أخرى ذات صلة بالتغيير الذي وعد به أوباما ناخبيه، لكنها تصب في النهاية في صالح انفتاح أميركي على إيران وسورية وربما "حزب الله" و "حماس"، وهو ما لا تريده إسرائيل قط.

تبدو الفرصة إذن متاحة أمام العالم العربي، على الصعيد النظري على الأقل، لبناء علاقات عربية - أميركية من نوع مختلف يسمح بتعميق التناقضات بين الولايات المتحدة وإسرائيل وقادر على توليد آليات دولية فعالة للضغط على إسرائيل. غير أن القدرة على انتهاز هذه الفرصة مرهونة بتوافر شروط كثيرة، لا تبدو متاحة على أرض الواقع، منها: 1- إعادة ترتيب البيت الفلسطيني وفق رؤية وطنية موحدة لإدارة الصراع مع إسرائيل، 2- التوصل إلى مصالحة عربية حقيقية تضمن البدء في ترتيب البيت العربي وإعادة بناء مؤسسات العمل العربي المشترك على أسس تكاملية جديدة 3- بناء شبكة من التحالفات مع دول الجنوب، من خلال جهد تنسيقي أكبر داخل منظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الإفريقي وغيرها من المنظمات الإقليمية، يسهم في إصلاح الأمم المتحدة.

غير أن الطموح شيء بينما الواقع شيء آخر. فنتانياهو يبدو واثقا من قدرته على العمل بحرية على جبهتين: الجبهة الأميركية، لإجهاض ديناميكية التغيير التي أوصلت أوباما إلى البيت الأبيض أو حتى التآمر لاغتياله إن لزم الأمر، والجبهة الإقليمية: لإشعال حرائق جديدة في فلسطين والسودان ولبنان وغيرها بما يحول دون التئام الشمل الفلسطيني والعربي والتحامه بدول الجنوب.

لذا تبدو الكرة في الملعبين الأميركي والعربي بأكثر مما هي في الملعب الإسرائيلي، أو يمكن القول، بعبارة أخرى، إن مواجهة التطرف الإسرائيلي في المرحلة المقبلة ستتوقف في نهاية المطاف على عاملين: قدرة أوباما على الوفاء بالتغيير الذي وعد به شعبه الأميركي، وقدرة الجامعة العربية على استكمال المصالحة التي وعدت بها شعوبها العربية. أما العجز في قدرة أي من هذين الطرفين فسيصب مباشرة في صالح اليمين المتطرف الإسرائيلي، أي في اتجاه مزيد من القتل والدمار في المنطقة، وهو الاحتمال الأرجح للأسف.