هل من صحوة فلسطينية أخيرة تجنب الشعب الفلسطيني ذات المصير للهنود الحمر؟

الساعة 10:06 ص|23 ديسمبر 2021

فلسطين اليوم

غانية ملحيس

أصاب الصديق عبد المجيد سويلم في تشخيص الواقع الفلسطيني الراهن والأخطر منذ النكبة الأولى بمقاله في صحيفة الأيام الفلسطينية بتاريخ 20/12/2020 المعنون "كيف ولماذا تغيّر دور الاستيطان والمستوطنين؟".

فجيش المستعمرة الصهيونية يمهد للعب ذات الدور الذي قام به جيش الانتداب البريطاني خلال فترة الإعداد لإنشاء دولة إسرائيل، بالإشراف المباشر على تغيير موازين القوى الجغرافي والديموغرافي والاقتصادي والأمني في الضفة الغربية لصالح المستوطنين الصهاينة، والذي قد يتسع لاستيعاب هجمات محسوبة من المستوطنين ضد الجيش والشرطة الإسرائيلية تظهره وكأنه تمرد، كما كانت تفعل العصابات الصهيونية مع جيش الانتداب. وقد تسمح إسرائيل بالتضحية ببعض عناصر جيشها وشرطتها لتسهيل تنفيذ مخططها الأكبر للتهيئة للحظة الحسم بادعاء التدخل للفصل في صراع أهلي بين المستوطنين الصهاينة والسكان الفلسطينيين وتكرار وقائع نكبة العام 1948، لاستكمال تنفيذ الحلقة الأخيرة من وعد بلفور، بتفريغ فلسطين من سكانها الأصليين.

يبدو أننا نحن الفلسطينيون لم نتعلم شيئا من تاريخنا المعاصر. فما يزال النظام السياسي الفلسطيني يشكو إسرائيل لرعاتها الأمريكيين والغربيين، كما كان يفعل أسلافه من القادة عندما كانوا يحتكمون لعدالة بريطانيا، التي كانت تتولى رسميا مهمة استبدال فلسطين بإسرائيل واستبدال شعبها العربي الفلسطيني بالغزاة المستوطنين الصهاينة. ونجحت بالتأسيس لذلك خلال ثلاثين عاما، وانسحبت عندما استكمل الصهاينة جاهزيتهم لإنشاء دولتهم فوق أنقاض الشعب الفلسطيني.

الفارق أن إسرائيل هذه المرة لن تنسحب كما فعلت بريطانيا، وإنما ستسمح للمستوطنين بقيادة المرحلة الأولى، بتمكينهم منبسط سيطرتهم على مساحات متزايدة من الضفة الغربية، لن تقتصر كما يعتقد البعض الفلسطيني الغافل على القدس الشرقية ومناطق ج، بل ستمتد تدريجيا إلى مناطق ا وب، بالتزامن مع استكمال عمليات إعادة التموضع الديمغرافي للأقليات العرقية والدينية والطائفية والمذهبية الجارية بتسارع لافت في المحيط العربي والإسلامي. ما يشرع وجودها كدولة يهودية خالصة عبر إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية والديموغرافية والسياسية لعموم المنطقة الممتدة، وإسناد القيادة الإقليمية للمركز الصهيوني باعتباره امتدادا للحضارة الغربية. / حدود الدول العرقية والدينية والطائفية والمذهبية التي سيتم استحداثها على أنقاض الدول القطرية القائمة، كما خطط لها وصمم خرائطها برنارد لويس لإنشاء "الشرق أوسط الجديد " بتكليف من بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس جيمي كارتر، وأقرها الكونغرس في جلسة سرية عام 1983، وباتت إطارا مرجعيا ملزما للإدارات الأمريكية الجمهورية والديموقراطية وللسياسة الغربية في عموم المنطقة العربية- الإسلامية الممتدة. والخطة معلنة رسميا ومضمنة في وثائق رسمية متاحة على الشبكة العنكبوتية بلغات عدة لمن يرغب في التحقق وتنص على: (تقسيم مصر والسودان وسوريا الى أربعة دول في كل منها، ولبنان إلى ثماني كانتونات. والعراق إلى ثلاث دول. ودمج دول الخليج واليمن بالجزيرة العربية وتقسيمها إلى ثلاث دول على أساس مذهبي. وتفكيك ليبيا والجزائر والمغرب لإنشاء كيانات جديدة على أسس عرقية، وتقسيم إيران وباكستان وأفغانستان إلى عشر كيانات عرقية، واقتطاع جزء من تركيا لضمه لدولة كردية تقام على أراض في العراق وسوريا وإيران وبعض الأراضي السوفيتية سابقا، وتحويل شرق الأردن إلى وطن بديل للفلسطينيين).

الاختلاف الأخطر في النكبة الفلسطينية الوشيكة المرتقبة - إن لم يتم المسارعة فلسطينيا بتفاديها – يكمن في أن النظام الفصائلي الفلسطيني بات عبئا ثقيلا على مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية ووجوده في كامل فلسطين الانتدابية. فالفصائل والنخب الفلسطينية ما يزالون يتنافسون على القيادة والنفوذ رغم الانحسار المتواصل في الأرض التي يتصارعون على حكمها. وما تزال القبائل والعشائر والحمائل والعائلات تتقاتل فيما بينها وتأخذ القانون بيدها وكأنها دول مستقلة، وتتغافل عن أخطار المتأهبين المتربصين بالفرص للانقضاض عليهم جميعا.

وأن الشعب الفلسطيني الآن قد جرى اختراقه بقوى أمنية منظمة ومؤهلة ومسلحة من أبنائه تمولهم أمريكا الملتزمة بمتابعة تنفيذ صفقة القرن - والتي لا يمل القادة الفلسطينيون جميعا من ترديد شعارات رفضها - فيما حلقاتها التنفيذية تتسارع على الأرض تحت أنظارهم. بل وتجتهد حكومة بنيت - لابيد في مد يد العون لإلزام الدول المانحة بمواصلة تمويل طرفي النظام السياسي الفلسطيني القائم.

الملتزم في الضفة الغربية بعقيدة دايتون، التي ترتكز على تنسيق أمني أحادي الجانب لحماية أمن الغزاة، وملاحقة من يستهدفهم من أبناء الشعب الفلسطيني، والتواري عن الأنظار عندما يتعرض أهلهم لاعتداءات الغزاة المستوطنين تحت حماية جيش المستعمرة الصهيونية. وترك أطفالهم ونسائهم وشيوخهم يواجهون المعتدون فرادى وعزلا في مواجهة المستوطنين والجيش الصهيوني، الذين يستبيحون بغارات يومية أراضيهم ومقدساتهم وبيوتهم وأشجار زيتونهم ومحاصيلهم ومواشيهم.

والملتزم في قطاع غزة بعقيدة "التفاهمات مع إسرائيل" التي ترتكز على هدنة طويلة الأمد لقاء تسهيلات اقتصادية ووعود بإعادة الإعمار، الذي يرهن مستقبل أهل القطاع ببنى ومرافق اقتصادية وخدمية تنشأ خارج حدوده.

وكلتا العقيدتين ترتكزان على مبدأ وحيد " سلم تسلم ".

للتذكير فقط، فقد كان عدد الغزاة الصهاينة عند قيام إسرائيل عام 1948 يساوي أو يقل عن عدد المستوطنين الحالي في الضفة الغربية التي تشكل جزءا من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، والتي يفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية الموعودة. وأن هذا العدد الكبير والمتنامي من المستوطنين الصهاينة ما كان يمكن أن يتطور بهذا التسارع لولا اتفاقات أوسلو التي أجلت ملف الاستيطان لمفاوضات المرحلة النهائية. ونزعت في الآن ذاته الشرعية عن مقاومة الاحتلال، دون حتى التفريق بين حدود دولة إسرائيل التي اعترفت مقدما بشرعية وجودها فيما سبق أن احتلته عام 1948، وبين الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 والتي تعترف بها الشرعية الدولية بها كأراض فلسطينية محتلة، وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره عليها.

وللتذكير، أيضا، فقد كان المستوطنون الصهاينة في الضفة الغربية مرتبكون ومذعورون عند دخول اتفاق أوسلو حيز التنفيذ العملي. إذ كانوا يعتقدون بأن انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967 ممكن. وكان مشهد إعلانات بيع أثاثهم يملأ جوانب الطرقات المحيطة بالمستوطنات تحسبا للانسحاب الإسرائيلي في إطار التسوية السياسية. غير أن مشهد العمليات الانتحارية التي قامت بها المعارضة الفلسطينية في العمق الإسرائيلي في تل أبيب والقدس الغربية بعيد دخول اتفاق أوسلو حيز التنفيذ، الذي ترافق مع الغياب الكامل لهذه العمليات عن المستعمرات الاستيطانية المقامة في الأراضي المحتلة عام 1967. بالتوازي مع قيام إسرائيل بتحصينها عسكريا، وبتقديم الامتيازات والحوافز الاقتصادية والإعفاءات الضريبية ودعم قطاعات الإسكان والتعليم، جعلتها الأكثر أمنًا وجاذبية ليهود إسرائيل، ما عكس اتجاه حركة الاستيطان وتكثيف الزحف الاستيطاني إليها.

وفاقم الوضع سوءا، غياب الوعي الفلسطيني أثناء انتفاضة الأقصى وضياع البوصلة وانفصال العمليات العسكرية للمقاومة عن هدف إنهاء الاحتلال الناشئ عام 1967، وتركيزها على العمق الإسرائيلي عوضا عن الأراضي المستهدف إنهاء احتلالها. واستخدام العمليات المسلحة كوسيلة للضغط التفاوضي عوضا عن إحداث تغيير جدي في موازين القوى على الأرض يؤسس لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام.

وأسهم في تعميق هذا الخلل، أيضا، عدم الالتفات فلسطينيا إلى التداعيات الخطيرة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وشن لحرب الأمريكية والدولية على الإرهاب، وجمود السياسات الفلسطينية إزاء التغيرات الجوهرية التي تلت ذلك في البيئة الدولية والإقليمية. ما مكن إسرائيل وحلفائها الغربيين من ربط النضال الفلسطيني المشروع ضد الاحتلال بالإرهاب. ومهد لانقلاب إسرائيل الأحادي على عملية التسوية السياسية وإلزام الفلسطينيين أحاديا بضوابطها وشروطها. وسمح لشارون بإعادة اجتياح مناطق الحكم الذاتي بعد يومين فقط من إطلاق القمة العربية في بيروت لمبادرة السلام العربية، والإبقاء على السلطة لأغراض وظيفية يستدعيها تكريس الاحتلال بأقل التكاليف السياسية والأمنية، ومحاصرة عرفات وقصف مقره والتمهيد لإزاحته وتغييبه كليا عن المشهد الفلسطيني باغتياله، واستبدال القيادة الفلسطينية المتمردة بسلاسة لافتة بأخرى مطواعة.

وأدى تساوق القيادة الفلسطينية الجديدة لاحقا مع خطة شارون للانسحاب الأحادي من قطاع غزة، واستدراجها بعد ذلك لإجراء انتخابات تشريعية تنخرط فيها حماس - وفقا لشروط اتفاق أوسلو الذي عارضته وسعت إلى إفشاله منذ اللحظة الأولى- وأسفر عن انخراط كامل النظام الفصائلي الفلسطيني الموالي والمعارض في اللعبة السياسية التي تتحكم إسرائيل بقواعدها وسقوفها وأهدافها وأهمها: التأسيس لانقسام النظام السياسي الفلسطيني عموديا لإخراج قطاع غزة وفصله جغرافيا وديموغرافيا عن الضفة الغربية. ومحاصرته سياسيا واقتصاديا وعسكريا وشن حروب تدميرية عليه، وتحييد سكان الضفة الغربية وإشراك السلطة فيها في إحكام الحصار عليه لتعميق الانقسام وتكريسه. ثم الاستفراد بها عبر تكثيف الزحف الاستيطاني وتقطيع أوصال الضفة الغربية بالمستعمرات الاستيطانية لمنع تواصلها السكاني والإسكاني. ما أدى في النهاية إلى إخضاع طرفي النظام السياسي الفلسطيني، فباتا يتنافسان على استرضاء العدو الوجودي لإدامة وجودهما.

خلاصة التجربة الفلسطينية لخوض الصراع مع العدو الصهيوني على امتداد أكثر من قرن تظهر:

أن الحركة الاستعمارية الصهيونية الغربية الصنع، التي تمتلك رؤية واضحة ومشروعا استعماريا واضحا لأهداف واستراتيجيات طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى، وخططا تنفيذية متسقة ومتكاملة يتتابع تنفيذها، حتى وإن افتقرت عند إطلاق مشروعها إلى المقومات التاريخية والجغرافية والديموغرافية، وافتقدت إلى المشروعية السياسية والقانونية والأخلاقية، وكانت معاكسة لاتجاه تطور حركة التاريخ الإنساني. امتلكت القدرة على حرف مسار التاريخ وتطويعه، بتوفير موجبات تحقق مشروعها الاستعماري بالتزامن مع أفول عصر الاستعمار، عبر التخطيط لتغيير الوقائع القائمة وتحويلها إلى حقائق راسخة ما مكنها من بلوغ أهدافها الاستعمارية الاستيطانية المخططة بالسرعة القصوى والكلفة الدنيا. أولا بإنشاء إسرائيل فوق 78% من أرض فلسطين، والتوسع بعد أقل من عقدين في كامل حدودها الانتدابية، وفي أراضي الدول العربية المجاورة،

أن الحركة الوطنية الفلسطينية عجزت رغم امتلاكها التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا. ورغم عدالة القضية الفلسطينية ومشروعيتها السياسية والقانونية والأخلاقية. وبالرغم من الاستعداد العالي للأجيال الفلسطينية المتتابعة للتضحية في ميدان الاستشهاد. لم تتمكن من تجنب الهزائم المتلاحقة لافتقارها إلى رؤية فكرية، ومشروع نهضوي تحرري إنساني نقيض للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، وأهداف واضحة توجه النضال التحرري الفلسطيني، وتصوغ في ضوئها استراتيجياتها للمدى القصير والمتوسط والبعيد، وتترجمها في خطط وبرامج تنفيذية لمواجهة الغزاة، عبر توفير موجبات النصر، بتحقيق إنجازات صغيرة تثبت الشعب الفلسطيني في أرض وطنه، وتدعم صموده المقاوم، وتعزز مناعته تتابع وتتراكم مفاعيلها فتؤسس بثبات لبلوغ النصر.

واليوم يقف الشعب الفلسطيني على مفترق طرق، ويرتهن وجوده في فلسطين وعموم مستقبله كشعب بمقدرته على استعادة زمام المبادرة ومواجهة تغول المستوطنين وردعهم.

فلا يعقل أن تفوق قدرة الشعب الفلسطيني الأعزل أثناء انتفاضة الحجارة على إجبار المستوطنين الصهاينة على التراجع والانكفاء، فيما اليوم يمتلك شرطة وقوى أمنية وأسلحة - لا يقتصر اقتناؤها عليهم، ونرى زخمها في المسيرات والاستعراضات والاحتفالات - ولا يقوى مع ذلك على مواجهة اعتداءات فتية العصابات الصهيونية.

فيما نجح أبطال نفق الحرية بإذلال الجيش الذي لا يقهر، فواصل تعقبهم على مدى عدة أيام وليال متصلة.

وتمكن أبطال أسرى عبر خوض معركة الأمعاء الخالية ببسالة، من إجبار العدو على إطلاق سراحهم.

ونجح صبيين فلسطينيين وحدهما بمعاقبة المستوطنين في مستعمرة حومش والانسحاب سالمين من ساحة المعركة.

ولنا أن نتخيل ماذا يمكن أن توفر القيادة الوطنية المؤهلة، والبيئة الشعبية الحاضنة لآلاف الفتية الفلسطينيين الجاهزين للتضحية بالنفس دفاعا عن ذويهم وأراضيهم ومقدساتهم وأحيائهم وبيوتهم ومصادر رزقهم للجم المستوطنين وإجبارهم على التواري والانسحاب للعمق الإسرائيلي.

فالشعوب الحية تنتصر عندما تتخذ قرارا بالنصر، وتعمل على توفير موجبات بلوغه مهما طال الزمن وعظمت التضحيات. والشعب الفلسطيني الذي تواصل أجياله المتتابعة النضال لبلوغ الحرية ليس أقل بأسا من الشعوب التي تحررت قبله، ولا يشكل استثناء، ولا يجب أن يكون.