تواصل قوات الاحتلال "الإسرائيلي" فصول ملاحقة الأسرى والأسرى المحررين الفلسطينيين من سجونها، في القدس المحتلة، بمصادرة ممتلكاتهم، في مواصلة لحرب التصعيد المعلنة من الاحتلال على الوجود المقدسي، بهدف تجويع وإفقار قطاع كبير من العائلات المقدسية، التي يرزح أبناؤها في سجون الاحتلال.
وبعد أكثر من عام على قرار وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك، رئيس الحكومة "الإسرائيلية" الحالي نفتالي بينت، الذي يخول سلطات الاحتلال مصادرة أموال الأسرى وذويهم، تعود ملاحقة الأسرى والمحررين إلى الواجهة مجدداً تزامناً مع حملة اعتقالات نفذتها قوات الاحتلال قبل أيام، طاولت منازل عدة لأسرى ومحررين.
حرب استنزاف للأسرى الفلسطينيين
وعمدت قوات الاحتلال إلى تكسير محتويات تلك المنازل، وطالبت أصحابها بتسليمها مبالغ مالية زعمت أن عائلات الأسرى تلقتها من منظمات "إرهابية". ومن بين المنازل المستهدفة منزل الأسيرة شروق دويات، ومنزل الأسير المحرر أحمد الشاويش، ومنزل الأسير المحرر رامي الفاخوري. ويصف أهالي الأسرى، والمقدسيون عموماً، الحملة الجديدة بأنها تصعيد في الحرب المعلنة على الوجود المقدسي ومحاولة زعزعة أركانه.
وكان بينت قد اتخذ قراراً، في أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2020 حين كان وزيراً للأمن، يخوّل سلطات الاحتلال مصادرة أموال الأسرى وذويهم، بما فيها الأموال المودعة في الحسابات المصرفية، بحجة تلقيها من "جهات معادية"، في إشارة إلى رواتب الأسرى والمحررين التي تقدمها إليهم السلطة الفلسطينية، وحجزها لصالح خزينة الاحتلال.
ويصف الخبير في شؤون القدس والمسجد الأقصى جمال عمرو الإجراء الاحتلالي بأنه "سلوك مقيت يستهدف بالأساس صمود عائلات الأسرى والنيل منها، من خلال شنّ هذه الحرب الاقتصادية عليها، وتصوير أبنائها بأنهم إرهابيون". ويعتبر عمرو، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن هذا السلوك "مؤشر على أن الاحتلال أفلس تماماً، وفشل في القضاء على الروح الوطنية المتجددة للمقدسيين الرافضين احتلاله".
غير قانوني
من جهته، يؤكد رئيس لجنة الأسرى والمعتقلين المقدسيين أمجد أبو عصب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "ما جرى ولا يزال يجري لا مسوّغ قانونياً له، لكن الواضح أن الاحتلال يريد استنزاف أهالي الأسرى وزيادة معاناتهم، وتضييق سبل العيش أمامهم، وإرغامهم على مغادرة القدس، الأمر الذي لن يتحقق أبداً".
هذه الاقتحامات الجديدة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة على ما يبدو، بحسب المقدسيين، علماً أن سياسة الاحتلال هذه قد طاولت العشرات من عائلات الأسرى والأسرى المحررين المقدسيين.
ويوضح أبو عصب، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنه منذ بداية تطبيق قرار بينت وحتى اليوم، جرى استهداف 23 عائلة لأسرى ومحرّرين، وصودرت منهم أموال ومصاغات ذهبية، وتم تسليمهم إخطارات بدفع غرامات مالية طائلة.
وبالفعل، فقد اضطرت بعض هذه العائلات إلى دفع ما عليها من غرامات، بحسب رئيس لجنة الأسرى والمعتقلين المقدسيين، لأن عدم دفعها كان سيمنعها من متابعة حياتها.
استهداف الحسابات
ومن أشكال الاستهداف ما قامت به سلطات الاحتلال، قبل أكثر من عام، بحجز الحساب المصرفي للأسير المقدسي المحرر ناجي عودة ولوالديه، حيث صادرت مبالغ نقدية ومصاغاً ذهبياً لوالدته عقب اقتحام منزله في بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى.
وكان عودة واحداً من بين تسعة أسرى مقدسيين ومحررين احتجزت سلطات الاحتلال حساباتهم المصرفية وصادرت أموالهم، بحجة تلقيهم الأموال من "جهات معادية".
وتضم لائحة من شملهم القرار في حينه الأسرى: محمد حمد من شعفاط، وسام كستيرو من بيت حنينا، وأمير الفروخ من سلوان، وخليل جلوسي من الطور، وملك سلمان من بيت صفافا، والمحررين: مجدي العباسي، وباسل أبو تايه من سلوان، وإيهاب بكيرات من صور باهر.
وفي تفصيله توالي الأحداث منذ شروع الاحتلال بتنفيذ قراره، يروي الأسير المحرر إيهاب بكيرات من بلدة صور باهر، والذي شمله قرار بينت قبل عام، أن "جنود الاحتلال يعمدون إلى اقتحام بيوت الأسرى فجراً، ويروعون الآمنين، قبل أن يقوموا بمصادرة أي نوع من النقود يجدونه في طريقهم، بغض النظر عن مصدره وملكيته".
ويضيف بكيرات، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الأمر بلغ بجنود الاحتلال إلى حدّ سرقة حصالات الأطفال، ومصادرة السيارات، وإغلاق الحسابات المصرفية، ومنع بعض الأسرى من دخول المسجد الأقصى وأحياء القدس الشرقية، كما أنهم يحددون مسار بعض الأسرى لدى ذهابهم إلى الضفة الغربية أو الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وقد حرموا أسيراً من حقوق التأمين الصحي".
أما على المستوى الشخصي، فإن بكيرات لم يتمكن مثلاً من تحصيل مستحقات (مساعدات) وباء كورونا التي هي باسمه، والحصول على الاسترداد الضريبي السنوي، علماً أن أي مستحق أو منحة لا يحصّلان إلا بوجود حساب مصرفي.
في الماضي، وخلال مقابلاتهم مع عناصر الاستخبارات الإسرائيلية، كان تهديد الأسير المحرر إيهاب بكيرات وزملائه الأسرى الذين تم استهدافهم، يقوم على أنه "إذا تلقيتم أموالاً من حركة حماس فستندمون، أما إذا تلقيتموها من السلطة الفلسطينية، فمسموح".
لكن "على الرغم من هذا التمييز"، بحسب بكيرات، فإن الاستهداف "يجرى اليوم على أساس تلقي أموال من السلطة الفلسطينية للقيام بأعمال إرهابية خطيرة"، إذ نسي الاحتلال كل العلاقة السياسية بينه وبين السلطة، حيث يجرى تصنيفها وتصويرها وكأنها جهة تدعم الإرهاب.
ويضيف الأسير المحرر: "هذا يذكرني بعملية هدم البيوت في واد الحمص (امتداد لبلدة صور باهر جنوبي القدس) عندما قرأنا قرار المحكمة العليا الإسرائيلية، حيث قالت: في شأن الأمن، لا يوجد تفريق بين مناطق أ، ب، وج (تقسيم أراضي الضفة المحتلة وفقاً لأوسلو)".
وبحسب بكيرات، فإنه كان تلقى قبل ما يقارب السنتين، أي قبل تفشي جائحة كورونا بشهر تقريباً، قراراً موقّعاً من بينت، تم بموجبه مصادرة سيارة والده، وإغلاق حساب مصرفي له، وطالبوه بدفع 62 ألف شيكل (نحو 19 ألف دولار)، مع وضع اسمه على الحواجز للفحص الدقيق، بعد اقتحام وتفتيش منزله.
ويعتبر بكيرات أن السياسة الإسرائيلية واضحة وشبه ثابتة، وهي بعث رسالة للسلطة الفلسطينية مفادها أنه "إن لم تعتقلي الناشطين، فسوف نعتقلهم نحن ونصفيهم، وإذا لم توقفي رواتبهم فنحن سنوقفها بطريقتنا باستهدافهم وأهاليهم ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم والتضييق عليهم كحلقة أضعف، من خلال مصادرة أموال الضرائب والمقاصة وخصم الرواتب التي دفعت من مستحقات السلطة".
معضلة رواتب الأسرى والجرحى والشهداء
في المحصلة، فإن استهداف الأسرى وأهاليهم كحلقة أضعف مرتبط بحسب بكيرات بمعضلة رواتب الأسرى والجرحى والشهداء، التي تشكل منجلاً في فم السلطة لا تقدر على ابتلاعه ولا على لفظه: فمرة ستدفع ثمن وصفها بداعمة الإرهاب، ومرة ستُتهم بالخضوع لإسرائيل وباللاوطنية إن هي أوقفت الرواتب، مع اتهامها باستهداف أهم شرائح الشعب الفلسطيني والتنكر لتضحياتهم التي جاءت أصلاً بالسلطة.
ويعتبر بكيرات أن السلطة قامت بالبحث عن مخارج لهذه المعضلة من أجل الهروب من تلك الاتهامات. ومن هذه المخارج: إيقاف رواتب عشرات الأسرى والجرحى والشهداء، وتمرير خصمها من قبل إسرائيل من مستحقات السلطة الفلسطينية، وتقبله كأمر واقع، مع الهجوم عليه فقط إعلامياً.
أما القول إن هذه الرواتب تصرف بناء على قرار المجلس التشريعي الفلسطيني، فيوضح بكيرات أن إلغاءها سيتم فقط بناء على قرار جديد من المجلس التشريعي المعطل في الوقت الحالي.
وتواصل إسرائيل اقتطاعات شهرية من أموال العائدات الضريبية (المقاصة) تفوق 100 مليون شيكل (نحو 32 مليون دولار)، وفق ما أكدته وزارة المالية الفلسطينية قبل نحو شهر، وهو ما اضطر السلطة الفلسطينية، نتيجة الضائقة المالية، إلى دفع 75 في المائة من رواتب موظفيها مطلع شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي.
ومنذ أكثر من عامين، تقوم إسرائيل باقتطاع هذا المبلغ الشهري من أموال الضرائب التي تجبيها من البضائع التي تمر عبر موانئها إلى المناطق الفلسطينية، بزعم أن السلطة تدفع هذا المبلغ لأسر الشهداء والأسرى والجرحى كإعانات. وقد جددت حكومة بينت هذا القرار، الذي كانت اتخذته سابقتها برئاسة بنيامين نتنياهو.
وبحسب "اتفاق باريس الاقتصادي" (البروتوكول الاقتصادي الملحق باتفاقية أوسلو – 1994)، تقوم إسرائيل بتحصيل أموال الضرائب هذه، على أن تحولها إلى خزينة السلطة الفلسطينية.
وعلاوة على ذلك، تشتكي السلطة الفلسطينية من عدم حصولها على أموال الدعم الخارجية، سواء من الدول الغربية أو العربية، منذ العام الماضي، على الرغم من وعود أوروبية باستئناف الدعم المقدم إليها، وعلى الرغم من إعلان عودة الاجتماعات الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية والولايات المتحدة الأميركية قبل أيام.