البُعد الديمغرافي لثورة النطف
بقلم الأسير المجاهد/ المعتصم بالله
سجن النقب الصحراوي
أرض بلا شعب لشعب بلا أرض أكذوبة ابتدعها رواد الفكر الصهيوني في منتصف القرن التاسع عشر بهدف تفريغ الأرض من سكانها الأصليين المتجذرين فيها منذ أعماق التاريخ وإحلال شعب مكانهم لا يشبهون الأرض ولا التاريخ ليكونوا رأس حربة المشروع الاستعماري، وسخرّوا كل جهدهم وطاقاتهم لبلوغ هذا الهدف، وقد شكل العامل الديمغرافي منذ وضع حجر الأساس للمشروع الصهيوني إلى جانب الاستيطان ركيزة أساسية من ركائز هذا المشروع وجوهر وعُصارة الفكر الصهيوني، فالمعركة كانت منذ البداية معركة وجود، وعلى هذا الأساس قامت المنظمة الصهيونية العالمية بالتعاون مع الاستعمار البريطاني آنذاك بإنشاء جمعيات صهيونية في بعض الدول الغربية كجمعيات أحباء صهيون والأليانس وإيكا وغيرها، للإشراف على تنظيم الهجرة الصهيونية إلى فلسطين حيث بدأ تدفق الموجات الأولى للهجرة الصهيونية منذ عام 1882م، وفي عام 1897م انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا، وكان من أهم قراراته تشجيع الهجرة الصهيونية إلى فلسطين لقلب الميزان الديمغرافي لصالحهم، وقاموا بعدة خطوات من أجل ذلك بالتحايل على العثمانيين الذين كانوا يحكمون البلاد في ذلك الحين، والتسلل إلى فلسطين برًا وبحرًا، وقد استشعر الفلسطينيون مبكرًا بالخطر الصهيوني فبادروا بمقاومة موجات الهجرة المتصاعدة. وعلى أثر النكبة الفلسطينية عام 1948م التي ارتكبت فيها العصابات الصهيونية أفظع المجازر بحق الفلسطينيين وعملية التهجير القسري لعدد كبير منهم، عملت حكومة الاحتلال الوليدة قيصريًا على محاربة الزيادة الطبيعية للسكان الفلسطينية، وشرعنت قوانين عنصرية تشجع على الهجرة اليهودية من كافة أقطار العالم إلى فلسطين، وأخذ قادة الاحتلال منذ ذلك الحين يحذرون من الخطر الديمغرافي وتضيق الخناق على أهلنا في أراضينا المحتلة عام 1948م والقدس بشكل خاص، عبر سلسلة إجراءات ظالمة منها سياسة هدم المنازل ومصادرة الأراضي وعدم إصدار تراخيص للبناء، ومنع لم الشمل، والنفي والإبعاد وتجريم وسجن من يتزوج بثانية في تحدٍ سافر لدين الله، وعمليات التهجير القسري والصامت بدعوى محفزات اقتصادية، في المقابل جلبت دولة الكيان الصهيوني خليط من جنسيات وأعراف مختلفة من شتى أصقاع الدنيا يشكلون 50 لغة وقومية لإحلالهم مكان الفلسطينيين الذين تم طردهم، رافعين شعار من أجل أن يحيا الشعب اليهودي يجب أن يضمحلَّ الشعب الفلسطيني أو يفنى.
رغم كل هذه الحرب على سادة هذه البلاد وأصحابها الأصليين إلا أن الإحصاءات تشير برجحان كفة الميزان الديمغرافي في فلسطيني التاريخية لصالح العرب نتيجة النمو الطبيعي لأصحاب الأرض، مما شكل هاجسًا أساسيًا وقلقًا بالغًا لدي قادة الاحتلال ودوائره الأمنية التي عملت المستحيل لمنع تكاثر السكان العرب.
وتماشيًا مع هذه السياسة الاستعمارية لم يسلم الأسرى الفلسطينيين من هذه الحرب، فلم يتم السماح لهم بإجازة للزواج وإنجاب الأطفال وفقًا للقانون الدولي الإنساني كونهم أسرى حرب، وأسوةً بالأسرى الجنائيين عندهم، في محاولة لقتل روح الحياة للأسير الفلسطيني وأهله؛ ولأنهم يخشون من أن يحمل هذا الطفل الفلسطيني جينات والده النضالية، في الوقت الذي تسمح فيه لإيغال عمير قاتل رئيس وزرائهم الهالك رابين بالزواج والإنجاب من دون معيقات أو حواجز تذكر.
وفي ظل ارتفاع عدد الشهداء في صفوف الأسرى نتيجة سياسية الإهمال الطبي المتعمد وعمليات القمع الهمجية كما حدث مع الشهيد محمد ساطي الأشقر في عام 2007م، بالإضافة إلى وفاة بعض أبناء الأسرى في حوادث مختلفة مما ضاعف من ألم آبائهم في غياهب السجون، بحث الأسرى عن طريقة إبداعية لتحقيق أحلامهم بمن يخلفهم ويرثهم، في إطار صراع الأدمغة التي يخوضونها مع السجان، فاجترحوا شكلًا نضاليًا جديدًا متمثل بثورة النطف بعد سنوات طويلة من الدراسة المستفيضة لأبعاد هذه الخطوة الثورية من جميع الجوانب، آخذين بعين الإعتبار الضوابط الشرعية والإجراءات الأمنية المحكّمة والسرية التامة لتحرير النطف دون علم السجان، وبغطاء شرعي وإعلامي وسياسي وإجتماعي، وقد أذهلت هذه الخطّوة الثورية العدو وأصابته بالصدمة والجنون، فشرع بإصدار عقوبات ضد الأسرى الذين حرروا النطف وذويهم كالعزل الإنفرادي والنقل التعسفي، ومنع الزيارات لفترات طويلة، وضاعف من التفتيشات لذوي الأسرى أثناء الزيارات في البحث عن النطف المحررة التي تجاوزت المئة بما يشكل كتيبة كاملة من المناضلين الجدد والذين أضيفوا للقنبلة الديمغرافية الفلسطينية، وعندما عجز عن ذلك انتدب وكلاء عنه يدّعون بأنهم فنانون لا يعرفون بواقع الأسرى لإنتاج فيلم "أميرة"، وهو من وحي الكذب وبصمات الاحتلال واضحة عليه كوضوح الشمس في رابعة النهار بهدف الطعن بأنساب الأسرى، وتزييف الرواية الفلسطينية، وتيئيس الأسرى حتى يستسلموا للاحتلال ويوقفوا مسيرتهم النضالية في إنجاب "سفراء حرية جدد" يكونوا بمثابة الأمل لهم ولذويهم، فأصيب بالهستيريا وفقد صوابه حين شاهد الهبة الجماهيرية في فلسطين والشعوب العربية الحرة التي صدَّت هذا العدوان الغاشم على الأسرى وذويهم.
وهذا ليس غريبًا على هذه الشعوب الحرةّ أن تنتصر للحق وللذين يدافعون عن الوجود الفلسطيني وكرامة وعزة ورفعة هذه الأمة، فالعملية النضالية متكاملة بين الأسير الذي أفنى زهرة شبابه في غياهب سجون الاحتلال ويواجه العدو في الجبهة الأمامية المتقدمة، وبين الإعلاميين والمثقفين والمعلمين والسياسيين وأئمة المساجد والأطباء والفنانين الوطنيين وكل قطاعات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الذين هم الدرع الحصين للأسرى الفلسطينيين، والمدافعين عن ديمومة الثورة الفلسطينية بأشكالها المختلفة، والقادرين على مواجهة الرواية الصهيونية الزائفة برواية فلسطينية حقيقية، وتوعية الناس بكل وسيلة ممكنة بأهمية الخطوة النضالية التي يخوضها الأسرى في الحرب الوجودية مع الكيان الصهيوني.