جمال زحالقة
جاء التصريح الغبي لرئيس الموساد الإسرائيلي ديفيد برنيع، بالتعهّد باسمه وباسم الموساد، بمنع إيران من الوصول إلى القدرة النووية، عشية سفره إلى الولايات المتحدة، في محاولة للتأثير في الموقف الأمريكي، بعد تعثّر مفاوضات فيينا بين الدول العظمى وإيران.
وتتالت كذلك تصريحات «حربجية» من القيادات الرسمية الإسرائيلية لتصب كلّها باتجاه التهديد والوعيد لإيران، إن هي مضت قدما بمشروع التسلّح النووي. وحتى في إسرائيل نفسها، ذهبت معظم التعليقات الصحافية والتقييمات المهنية إلى أن هذه تصريحات بلا مصداقية وبلا رصيد، ولا أحد في المجتمع الدولي يأخذها على محمل الجد، خاصة أن ما يسمى بالخيار العسكري الإسرائيلي لن يكون جاهزا قبل ثلاث سنوات على الأقل، وإذا جهز فعلا فسيكون بعد فوات الأوان، لأن إيران، وفق التقديرات الإسرائيلية الرسمية، قادرة على أن تصل العتبة النووية خلال أشهر قليلة.
قد يعتقد البعض أن رئيس الموساد، بحكم تعيينه في هذا المنصب الحسّاس، يتمتّع بالضرورة بذكاء خارق ودهاء استثنائي، وعليه فهو لن يقدم على تصريح بلا رصيد، وإن هو التزم بمنع إيران من الوصول إلى قدرة نووية عسكرية بالقول «هذا تعهّد منّي ومن الموساد» فهو حتما سيمنعها. لست هنا بمعرض تقييم قوّة وقدرات الموساد أو غيره، ولا أعرف ما هي القدرات الفعلية لرئيسه الجديد، وكيف سمح لنفسه أن يطلق تصريحات بهذه الصلافة وهذا الغباء، لكن أستطيع أن أجزم أن معظم القيادات الأمنية الإسرائيلية هي ذات قدرات متوسّطة لا أكثر، حتى إن المرء ليعجب كيف استطاع هؤلاء أن يهزمونا، لكن يجب الانتباه جيّدا إلى أن مصدر قوّة أجهزة الأمن في إسرائيل ليس المؤهّلات الفردية للقيادات، بل القدرات الجماعية للتنظيم العصري المنضبط. لا بدّ من التأكيد أيضا على أن هذا تصريح سياسي ولأهداف سياسية محدّدة وليس تعبيرا عن قدرات عسكرية وأمنية مخفية، وما كان رئيس الموساد ليقول ما قاله بلا موافقة (ربما بطلب) من رئيس الوزراء المسؤول المباشر والوحيد عنه.
تندرج تصريحات رئيس الموساد وتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، ورئيس الدولة العبرية، بوجي هرتسوغ، ضمن تكتيك «امسكوني» الذي تحاول إسرائيل من خلاله أن تقنع العالم بأنها قد تقدم على خطوات عسكرية وأمنية جنونية، أملا في أن يؤدّي هذا الاقتناع إلى مبادرات لقبول مطالب إسرائيلية لمنعها من القيام بمغامرات غير محسوبة وخطيرة. لكن في الواقع، لم تعد الولايات المتحدة والدول الأوروبية تصدّق هذا الكلام لأنّها تعرف جيّدا قدرات إسرائيل الفعلية، التي هي أقل بكثير من المطلوب لمواجهة عسكرية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. تحاول إسرائيل هذه الأيام استغلال ما تعتقد أنّه فرصة نادرة لثني الإدارة الأمريكية عن نيّـتها التوصّل إلى اتفاق مع إيران، حتى لو كان مرحليا ومحدودا. ويبدو أن العقلية السياسية الإسرائيلية ما زالت أسيرة لإرث الماضي، حيث استطاعت إسرائيل أن تؤثّر في القرار الأمريكي في قضايا كبرى مثل الحرب على العراق عام 2003، بادّعاء كاذب أنّها تمتلك أسلحة دمار شامل «فظيعة» ومثل إقناع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2018 بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، بنسج أوهام أن هذا الانسحاب وفرض عقوبات على إيران سيجبرها على الرضوخ للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية بشأن مشروعها النووي وقدراتها الصاروخية وسياساتها الإقليمية. مشكلة إسرائيل اليوم أن الإدارة الأمريكية لا تصغي لنصائحها في الشأن الإيراني، وحتى تعتبرها مصدر إزعاج، وتطلب منها أن تضبط التصريحات الرسمية والتسريبات غير الرسمية، والأهم من ذلك تطالبها بعدم مفاجأتها بعمليات تفجير واغتيال في إيران، طالما تجري مباحثات في فيينا، موضحةً أن مثل هذه العمليات قد تشوّش على المفاوضات، وهي تضر أكثر مما تنفع، وإيران ترد عليها بتسريع تخصيب اليورانيوم لا بوقفه.
تراهن إسرائيل على فشل مفاوضات فيينا، وتعوّل على ما تصفه بالتعنّت الإيراني، وعلى أنّه كفيل بإقناع الولايات المتحدة وأوروبا بأن إمكانية العودة إلى اتفاق 2015 باتت معدومة. على هذا الأساس سافر رئيس الموساد ديفيد برنيع، وبعده وزير الأمن بيني غانتس، لاستغلال فرصة الانتكاسة التفاوضية، للعمل على إقناع الأمريكيين بالكف عن محاولات الاحتواء، وبوقف أي اتصال مع إيران وتبنّي استراتيجية تعتمد القوّة والمواجهة والضغط والعقوبات والعزل. ويعتقد من يعتقد في إسرائيل أن الأمريكيين لا يصغون لإسرائيل طالما هناك مفاوضات جارية، وأمل بالتوصّل إلى اتفاق، حتى لو عارضته إسرائيل، لكن إذا فقدت الولايات المتحدة الأمل فستكون أكثر استعدادا، في ظل يأس الاتفاق، للإصغاء للموقف الإسرائيلي.
خلال زيارة واشنطن، يحاول المسؤولون الإسرائيليون إقناع الإدارة الأمريكية بالعدول عن طرح صفقة «أقل مقابل أقل» أي التزام إيران بجزء من الاتفاق النووي، مقابل إلغاء جزء من العقوبات، إذ تعتبرها تراجعا «خطيرا» عن الموقف الأمريكي الأول، الذي عبر عنه وزير الخارجية انتوني بلينكن، بالسعي إلى اتفاق نووي جديد يكون «أوسع وأطول وأقوى» وتخشى أن تؤدي إلى ضخ المليارات لخزينة إيران وإلى تقوية دورها الإقليمي. لا حدود لصلف إسرائيل، فهي تطالب بفرض عقوبات على إيران، بادعاء أنّها تخرق اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية، في حين أنها هي نفسها لا تلتزم بها وترفض حتى التوقيع عليها. المشكلة أن إسرائيل هي «فرفور ذنبه مغفور» ولا أحد يحاسبها على امتلاكها سلاحا نوويا يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة، إذ هي تعتقد أن ترسانتها الذرية تحميها من ردود الفعل على عدوانها المتواصل وتمنحها «حرية الحركة». وأكثر ما تخشاه إسرائيل ليس القنبلة النووية الإيرانية كتهديد عسكري فعلي عليها، بل هي مذعورة من إمكانية حصول توازن استراتيجي، قد يكبّلها وقد يمنح «حرية الحركة» لغيرها أيضا. لا بدّ عربيا من طرح السؤال: أيّهما أخطر، إسرائيل المدجّجة بالسلاح النووي الفعلي؟ أم إيران، التي من الممكن، وليس من المؤكّد، أن تحصل عليه مستقبلا؟ وهل من المنطقي، من وجهة النظر العربية، السكوت على سلاح نووي ملموس بيد من هو معادٍ للعرب والعروبة، والكلام فقط عن سلاح نووي إيراني ممكن؟ أكثر ما يقلق هو قلّة الحيلة العربية، والمراهنة على حماية إسرائيل والتطبيع معها والوقوف معها ضد إيران. أليس هذا لعبا بالنار؟ هذا الموقف العربي هو تعريض الأمن القومي العربي للخطر، بالوقوف مع إسرائيل والتحالف معها ضد إيران والدخول، والمقامرة بصدام وفق الأجندة الإسرائيلية.
المثير أن الكثير من المراقبين في إسرائيل لا يعوّلون على إمكانية تغيير الموقف الأمريكي ويدعون إلى بناء قوّة إقليمية مع ما يسمّونه «الدول العربية السنّية المعتدلة» آملين أن يخرج ذلك إسرائيل من عزلتها الدولية في الشأن الإيراني. وتنظر إسرائيل بقلق إلى الاتصالات الأخيرة بين دول عربية وكل من إيران وتركيا. وقد علمتنا التجربة أن علينا أن نتفحّص جيّدا ما يقلق إسرائيل، فهو عادة ما يكون فرصة لنا كعرب. وبالفعل يجب ويمكن التوصّل إلى تفاهم ثلاثي عربي تركي إيراني لقلب المعادلة ومواجهة النووي الإسرائيلي ووضعه في المركز، والاتفاق على خطوات فعلية لحل الأزمات الخانقة في المنطقة. وفي نهاية المطاف لا يحق للعرب أن يطالبوا إيران بوقف مشروعها النووي وأن يواصلوا سكوتهم على أسلحة الدمار الشامل، النووي وغير النووي، التي تمتلكها إسرائيل وتهدد أمن المنطقة فعليا وليس نظريا فحسب.