خبر في مكة المكرمة .. علي عقلة عرسان

الساعة 03:19 م|10 ابريل 2009

 

كنت في مكة المكرمة.. وأشكر الله تعالى على أنني كنت فيها، فمكة على الرغم من أنها في وادٍ غير ذي زرع، ولا أنهار ولا غابات فيها، وجبالها وتربتها متجهمة، فإنها منذ القدم تهوي إليها أفئدة الناس، وهي واحة قلوب وأرواح تمتد فيها البصيرة وتغني عن كل بصر.. فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. 

لم أفاجأ فيها بالسيل البشري الهائل المستمر التدفق على مدار الساعة ليلاً ونهاراً، فذاك شيء نعرفه ونتابعه منذ قرون من الزمن، ويزداد كثافة وقوة وتدفقاً يوماً بعد يوم وجيلا بعد جيل، لا سيما في مواسم الحج التي أخذ يتجاوز فيها عدد الحجاج سنوياً ثلاثة ملايين إنسان يؤدون مناسكهم في يوم واحد وبقعة واحدة من الأرض.. فمكة مذ أقام فيها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أول بيت وضع للناس في الأرض، وهي تزخر بجموع البشر الذين يتضرعون إلى الله من "مركز الأرض"، ويرجون منه ما لا يرجوه سواهم من العابرين بها.. لم أفاجأ بهذا المنحى من مناحي الحياة والحيوية المتنامية في المدينة المقدسة التي لا تهدأ ولا تنام، بل فوجئت بأن مكة المكرمة " ورشة" عمل هائلة لا تهدأ لا ليلاً ولا نهاراً، تزحف خطط العمران وآلات العمل وأيدي العمال فيها على الجبال والوديان والعشوائي من البناء والشوارع الضيقة والمسالك الصعبة، وعلى كل ما يضيِّق نفَسَ الرحاب الطاهرة ومتنفَّس الناس فيها، تراها اليوم في حركة تغيير وتطوير وتنمية وتوسِعة تفوق كل ما سمعناه وقرأناه عن حركات التغيير والتطوير والتوسعة فيها منذ قرون. والحركة التي أشير إليها بتقدير كبير لا تهدف فقط إلى التيسير على الناس في أداء مناسكهم وفي حِلِّهم وترحالهم وحركتهم وتنقلاتهم بين المشاعر المقدسة والمشاهد والمواقع والأماكن التي تزخر بالحياة والحيوية في كل وقت، أو تلك التي يقيمون فيها أو يقصدونها أو يصلون إليها ويغادرون منها إلى كل فج عميق.. بل ترمي أيضاً بقصديَّة واعية لأهدافها، إلى جعل المدينة آية حضارية فريدة في العالم كله فضلاً عن كونها عاصمة روحية لا مثيل لها فيه.. وهي جديرة بذلك كله. وهذا المسعى الطموح، والجهد الضخم، والتطلع المستقبلي العالي الاستشراف تقف وراءه عقول نيِّرة، وإرادات خيِّرة، وتطلعات نبيلة مسؤولة، ورجال نذروا أنفسهم لخدمة الدين والوطن والناس، والإبداع في مجالات يعود فيها الإبداع بالخير على الناس كافة، ويبقى شاهداً ودليلاً على القدرة التي تستمد نسَغَها وطاقتها من قدرة المبدع الأول، " بديع السماوات والأرض".

إنني في هذه الإشارة لا أقلل من شأن النظرة الاقتصادية والاستثمارية الكامنة وراء هذه المشاريع العملاقة، ولا أتحاشى الإشارة إليها بهدف صرف الأنظار عن المنفعة الخاصة وتركيز الانتباه على خدمة المقدس فقط، فذاك أوضح من أن يُخفى، وهو ليس مثلَبة ولا عيباً في حد ذاته، فأن تستثمر في بلدك وفيما ينفعك وينفع الناس من حولك، وأن تقيم صروحاً رائعة في دارك لا تزول أو تنتقل بزوالك وانتقالك، وأن تجعل مالك وقدراتك وطاقتك الخلاقة في خدمة بلدك وثقافتك ودينك والمؤمنين من حولك.. أمر أكثر من مشروع ومطلوب، بل هو مما يؤخذ على سياسات ومؤسسات وأشخاص أعطاهم الله وهيأ لهم أن يعملوا.. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون. وهو خير لك ألف مرة ومرة من أن تستثمر مالك في بلدان أجنبية تستهدفك وتستهدف بلدك ودينك وثقافتك وهويتك والمسلمين من حولك، وتبقيك، وأنت تستثمِر فيها وتساهم في تنميتها وخدمتها، تبقيك قلقاً على مالك ومقلقلاً في أعماق روحك، ومستنزَف الضمير والإرادة بأسئلة محيرة ولوم عميق يأتيك من داخلك قبل أن تنقله إليك حواسك، وتشعر أحياناً بأنك تخدم من لا يرحمك ولا يشكرك ولا يكنّ لك سوى البغضاء والعداوة والاحتقار.. وهو فوق ذلك يسرق أرباحك وأصول أموالك، ويلقيك ثمرة معصورة ممصوصة، أو قشرة موز يتزحلق بها العابرون في الطريق.

      إن هذا النوع من الأداء المتميز، في هذه المواقع المتميزة، وفق رؤى ومناهج وخطط وبرامج عمل طموحة، وفي هذه الأوقات والظروف التي يشكو فيها العالم كله من أزمة اقتصادية مستفحلة تتباعد حلولها.. يستحق زيادة في التقدير والاهتمام.. ليكون ذلك حافزاً على مزيد من المشاريع الخيرة والأعمال الكبيرة، تستثمر فيها أموال العرب والمسلمين في بلدانهم، وتفتح الآفاق أمام عودة العقول والأموال المهاجر لكي تبني وتستثمر في أرضنا وبلداننا وتعيد الثقة والأمل لأجيالنا.

لقد خسرت بلداننا العربية والإسلامية، وخسر أثرياؤنا وأصحاب الاستثمارات والأرصدة الكبيرة من أبناء أمتنا، الكثير الكثير من المال في الأزمة الاقتصادية التي تكتسح العالم، بعد أن تفجرت في الولايات المتحدة الأميركية وانتشرت أمواجها من هناك في كل اتجاه. مئات المليارات من الدولارات لعرب ومسلمين ذابت أو تبخرت في غمضة عين، وذهبت فروعاً وأصولاً. ولو أن تلك الأموال وظِّفت في استثمارات رابحة أو خاسرة في بلداننا العربية ولإسلامية لبقي لنا شيء منها على الأقل نقف على أطلاله ويبقى عظة لمن يتعظ.. ولكن غياب كل شيء وتغييبه في جوف الحوت، ونهب تلك المئات من المليارات بطرفة عين وطرق ملتوية في بلدان اعتادت على نهب العالم.. يجعل أصحاب المال المنهوب على مشارف ما يشبه اللوثة بعد المأساة من جهة، ويجعل أبناء أمتنا الذين يشعرون بأنهم أحق بها من سواهم من جهة أخرى، ويلقى على كل ذي عقل وانتماء أصيل لأرضه وعقيدته وأمته مسؤولية كبيرة، ويفتح باب الأسئلة ولا نقول المساءلة في كل مجال وعلى كل لسان: لماذا لا نبني جسور الثقة بين أصحاب الأموال والعقول والإبداع من جهة وبين أوطانهم ومواطنيهم ودولهم من جهة أخرى، بتأسيس أرضية تشريعية وقانونية سليمة وقوية، وبنية خلقية وروحية واجتماعية وإدارية راسخة تتماشى مع عقيدتنا ومصلحتنا، لكي يستثمروا في أوطانهم، ولكي يكون هناك أمل وأفق وطموح يتنفس وينمو في بلداننا وبين شرائح مجتمعنا، حيث يُبنى أرسخ بناء وأقواه، ويؤسس لنهضة شاملة في كل مجال من مجالات الحياة؟ من المؤكد أن ذلك ليس مستحيلاً، وعلى الرغم من وجود صعوبات فهو ليس مستعصياً على الحل، ومن المؤكد أن التعاون في مجالاته يرتد بالخير على الأجيال العربية الصاعدة وعلى المستثمرين والمسلمين كافة.

لقد لفت انتباهي بقوة ما يجري في مكة المكرمة من إعمار وإعادة إعمار ومشاريع عملاقة في المواصلات الواعدة، والبناء المنظم العملاق، والخدمات المتنوعة، والاتصالات.. إلخ، برؤية حضارية، وتأسيس لمعطى نهضوي شامل، يتداخل فيه الاستثمار المالي في المقدس مع مصلحة المستثمِر والبلد والمسلمين، وينعكس بصورة إيجابية، ملموسة النتائج، على كل من له صلة مباشرة أو غير مباشرة بتلك المشاريع الاجتماعية والعمرانية والحضارية، وعلى كل من له صلة بمكة المكرمة ومكانتها الروحية، وبالمقدس، والاجتماعي، والثقافي، والروحي، والاقتصادي المادي.. وكل منا له تلك الصلة القريبة أو البعيدة بذلك كله.

فتحية لكل من يستثمر ماله وطاقته وإبداعه في وطنه ويبني تربة ثقافية واجتماعية قوية ونظيفة وسليمة، ولكل من يفكر بالناس وبالمصالح العامة بشمولية ورؤية حضارية وهو يخطط ويبني ويستثمر.. و لكل أولئك المجهولين الذين يعملون بأيديهم وربما يضحون بأرواحهم ويطويهم الصمت والنسيان، وهم يحولون الأفكار والرؤى والمشاريع إلى صروح حضارية مجسَّدة.. لكي توفر خدمة لائقة للإنسان في وطننا لعربي وتقوم حضارية تليق بنا وبتاريخنا، ونستعيد ما كان لنا وما يستحق أن يُذكَر ويستعاد حضوره مما كان لنا، وما ساهمنا به في حياة الأمم وتاريخ الحضارة، ونعود مشاركين في الحضارة المعاصرة وبناة لها.

وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.

جدة في 10/4/2009