بقلم : عبد الله الشاعر
أبا إبراهيم، أيها المجبول بجمرة جرح، هل جئت تروي عطش الأرض وتعلم الناس رفض الهبوط إلى مستوى الحجارة والطحالب...هل جئت تعيد قراءة الأقدار، ولم تكن قائد مصادفات، فلم تنخدع بزواج الإكراه بين البندقية وغصن الزيتون، ولم تقفز من سرج حصانك إلى حضن الزعامة بخفة بهلوان!!
من رحم الأمة جاء، وفي سبيل الله ظل يمضي.. يمنعه وعيه التاريخي ذبذبة المواقف، ويكره الكراسي التي تتحول مع الزمن إلى لافتة حمراء تصرخ بالثائر (قف)حين يكون في ذروة جهاده وتفانيه، فتقطع أنفاسه، وتبهت أفكاره، وتسكب الثلج على وقوده المشتعل، وتضطره إلى خيانة نفسه وذويه.
مفكر تطهّر قلبه من سواد الحقد، وتبرّى قلمه من حليب الكراهية العكر..تحرر الحرف على يديه من الولاء والطاعة، كما تحرر- كذلك – من رجس الشتيمة.
كلماته نحلة حبلى بألف قطرة سكّر.. تتقطّر ضوءا وعبيرا في وعينا، فيما غيره من الزعامات الكرتونية دمى تعلك خبز أوهامها... ها نحن نفتش عن الأبطال الذين ملأوا مخيلتنا- يوم كنا أطفالا- بالرؤى والأحلام فلا نرى إلا هياكل خشبية لها شكل الفرسان ولكنها لا تتحرك إلا بوساطة المسننات والنوابض.. فرسان عانقوا وسائدهم وناموا.. ناموا ورياح الغزاة تلطم نوافذهم دون هوادة، وحوافر التاريخ تنبش تراب بلادهم كما لم تنبشه من قبل.
كانت أفكاره لافتات تحدٍّ في وجه العصر، وفي وجه الجبناء الذين أدمنوا النوم تحت لحاف الخرافة والتقاليد.. لذا رأيناه يدفع الضريبة ويمشي على سطح من الكبريت الساخن، لكنه لم ينكسر.
لم تكن فلسطين لديه ورقة يانصيب، ولم يكن عشقها يحتاج لقرون من صلوات الاستخارة، أو زيارة بيوت المنجمين.
منذ البدء أدرك أن أخطر ما يقع فيه المفكر هو مهادنة الأشياء التي تحيط به، وان المفكر الذي لا يعرف قشعريرة الصدام مع الشر يتحول إلى (مفكر أليف) استؤصلت منه غدد الرفض والمعارضة.
لم يكن قائداً مصنوعاً من مادة الحلم والتمني، ولا موظفا عند حكومة يأكل من خيراتها ويشرب، وفي نهاية الصلاة يدعو لسلطانها بطول العمر.
كان يدرك أن كل كلمة لا تأخذ في هذه المرحلة شكل البندقية تسقط في سلة المهملات .. لذا لم يكن غريبا أن تحب صعود الجبال ويأكل حذاؤك من جبين الصخر.. تفتح النار على أوكار السحر والشعوذة والتنبلة والاتكال، فليس هناك أصنام غير قابلة للرجم، ولا مكان لحاكم تَعَوَّدَ أن ينام على سرير من قصائد المدح والثناء.
أبا إبراهيم، أتدري أن أحفاد عمرو بن كلثوم أصبحوا يحفظون الشعر العبري في مدارسهم.. وصاروا يعافون شرب الماء صرفا ويشربون – إذا شربوا- كدرا وطينا...خطباء إذا خطبوا تثاءب المنبر من خطاباتهم.. وكتّاب أكثر مقالاتهم تجلب الغثيان عن بعد أميال.
آهٍ ما اشد حنيننا إليك... وما أحوجنا إليك وأنت تعلمنا أن نور الإنسان لا يموت ما دام في شرايين قلبه قطرة دم وبريق إرادة.. وما أحوج المفكرين لحكمتك التي سطرتها بمداد دمك:( أن المفكر أول من يقاوم وآخر من ينكسر).
بعد كل هذا أي غرابة أن يرميك الطغاة وبعض الحاقدين بالحجارة وأي غرابة كذلك أن لا يغمرك بالورد والحب كل المستضعفين وعشاق الحرية؟!
في ذكرى صعودك نحو حتفك باسماً لا نملك إلا الحب فهل ترضيك كلماتٌ هنّ بعض الوفاء؟!!.