في غزة: المواطن محمد عمار يطلب إجازة من عمله.. فيدفع ثمنها غالياً

الساعة 10:40 ص|07 أكتوبر 2021

فلسطين اليوم

غزة/أمل خالد الوادية:

في حضرة الغياب الأبدي، الموت لا يوجع الموتى بل يقتل أحباب قلبهم ببطء شديد، فجرحهم لم يندمل بعد، وما زال فؤادهم يعتصر ألماً على فراقه، عاد الحزن يُخيم بيتهم من جديد، ويخطف الركن الأعظم له، فلم يعد هذه المرة حاملاً بيديه اللتين تكدح صباحاً ومساءً فطورهم الصباحي بعد رحلة صيد العصافير فجراً من أجل لقمة عيشهم، عاد للمرة الأولى والاخيرة محمولاً على الأكتاف..

محمد عمار.. نظروا له نظرة وداع لن تُنسى وقبلوه على جبينه الطاهر، واحتضنوه حضناً لم ينسيهم فاجعة استشهاده وصدمتهم الكبرى، ليُسرع به الشبان إلى مثواه الأخير، مرددين كلماتهم بصوتٍ خرق آذان كل الذين أحبوه وأحبهم "الله أكبر والشهيد حبيب الله"، تاركاً خلفه حياة وحلم لم يكتمل.

من يُواسي دمعات أم أنجبت فربت فتعبت ففوضت أمرها لله، و زفت شهيدين لأجل الوطن، ومن يداوي نزيف قلب زوجته المكلومة بعد أن فقدت اخوين اثنين لها؛ لتُفجع باستشهاد زوجها محمد عمار (41عاماً) صباح يوم الخميس 30/9/2021 على الحدود الشرقية لمخيم البريج وسط قطاع غزة، وهو يمارس هوايته بصيد العصافير التي ورثها عن والده منذ أن كان عمره عشر سنوات، حيث طلب إجازة من عمله ببلدية غزة، فراتبه الذي يتقاضاه لا يكفي لمتطلبات الحياة، لكن قناصة الجندي الاسرائيلي لا تفهم إلا لغة القتل والموت، لتغدر به دون سابق انذار، وتدمر أحلام أسرة فلسطينية تعيش حياتها بالبساطة والأمل بوجه الله.

حياة وردية تليها رحيل أبدي

لم يكن صباح يوم الخميس هيناً على قلب زوجته ليلى التي أصبح في أمانتها سبعة أبناء4 من الذكور، 3 اناث، حيث استيقظت من الصباح الباكر وكأنها تشعر أن أمر ما سيحدث، كان صباحاً غريباً جداً بدأت تشعر به حين غادر زوجها المنزل دون أن يوقظ أطفاله للمدرسة..

تقول لمراسلة "وكالة فلسطين اليوم الإخبارية":" استيقظت باكراً وأخذت هاتفي أتصفح عبر الانترنت، لأنتظر عودته من صيد العصافير آتياً لنا بالفطور كي نتناوله معاً ككل مرة، فهو يخرج يصلي الفجر بالمسجد ويذهب إلى الحدود الشرقية، لكن هذه المرة طالت عودته، ولم يأتِ بالوقت الذي يعود فيه دائماً، فشعرت أن هناك أمر ما حدث، فبعد ساعتين جاءوني بخبر إصابته، لكني عرفت أن الله اصطفاه شهيداً، لأن قلبه النقي يريد الآخرة، وهذه الدنيا فانية".

تنظر لقفص عصافيره وهم يزقزقون بأصواتهم التي تبعث بروحه كل أرجاء البيت، ليتحدث لسان حالها: "عصافيره لو أنهم يتكلمون ليتكلموا، كل أطفال الحارة بكت عليه، فسيرته طيبة بين كل الناس"..

لم تسعفها قوتها لتكمل الحديث تارةً يُخيم عليها الصمت المخيف، وتارةً أُخرى تحمد الله على قضاءه وقدره، لتقطع حديثنا ابنته البكر مرح وتقول: "كان بابا محبوب بشكل كبير وحنون علينا وبعطي وبسامح الجميع"، وكأن لسان حالهما يحن للقائه كثيراً، فتخرج هذه الكلمات من أفواههما؛ ليُشبعان فراغه الأبدي الطويل الذي كسر قلبيهما.

" هو كان كل حياتي مش شايفة بعنيا أخد عنيا وكل حياتي".. بهذه الكلمات التي حبست أنفاسها وخنقت أحبالها الصوتية تكمل حديثها.. لتصف كيف كانت حياتها بظل وجوده وكيف رحل كل شيء عنها بلمح البصر، لم تتمالك دموعها حتى انهمرت بالبكاء، فلا شيء يعوض وجوده بجانبهم..

تضيف:" زوجي كان يقويني ويساندني وعشنا ببيتنا الصغير على الحلوة والمُرة فكان يحكيلي إنتي يا ليلى عمرك ما حتكبري".

تسترجع ذكرياتهما سوياً وهما يركضان خلف بعضهما البعض بين ثنايا عشهما الصغير، لترتسم على وجهها ضحكة ممزوجة بالوجع والحسرة على فقدانه، وتتماسك دموعها، وحشرجة صوتها، وتبدأ تلملم شتاتها، لتختم حديثها بقولها:" استشهاده علمني الكثير من الأشياء، أولها أن أسامح جميع الناس وألا أحقد على أحد، فرحيله أكد لي الدنيا صغيرة وضيقة جداً لا تسوى شيء، الحمدلله ربنا اصطفاه حتى نكون بالجنة معاً".

الكابوس المؤلم

قلب الأم يشعر وإحساسها لا يخيب أبداً، تقول أم الشهيد:" استيقظت الساعة السادسة صباحاً يوم الخميس وكنت قد رأيت كابوساً مزعجاً، فرأيت ابني مؤمن يجهز نفسه ليذهب لاصطياد العصافير، لأساله على أخيه محمد (الشهيد) لأقنعهم ألا يذهبوا هذه المرة، ليخبرني أنه غادر من الفجر ليصيد العصافير، فرويت له ما رأيت بالحلم من شدة خوفي، ليطمئنني بكلماته "يما وكليها لربنا" ويلحق أخيه محمد".

تضيف:"ذهبت لسوق الخميس المعروف بمخيمنا البريج، لتأكل النار قلبي طوال الطريق وكل همي أن أعود للبيت بأسرع وقت، لأني شعرت أن هناك حدثٌ جللَ أصاب بيتي، لأجد جميع الجيران والاحباب يقفون على باب منزلي، وهنا كانت الفاجعة فاخبروني بأن محمد أُصيب، لأنكر كلامهم وأخبرهم أنه شهيد ويكون محمد الشهيد الثاني لي بعد فقدان أيمن".

الوداع الأخير

وكأن السماء تعرف من تختار لتستقبله بجوارها، فأقسى ما يمر به المرء أن يُلقي نظرة الوداع الأخيرة على من يحب، دون أن يستوعب بعدَ فاجعة رحيله وفراقه الأبدي، تصف أمه لحظة وداعها له:" والله اخذوه مني بالعافية، والله يما ريحتك بتجنن، حضنته كتير والرصاصة جاية برقبته وكلها دم، ريحته كالمسك وكأنهم معطرينه".

يختبر الله صبرها بأغلى ما تملك، فبعد أن فقدت ابنها وشهيدها الأول بالانتفاضة الاولى خيم الحزن على وجهها لتعيش الفقد مرةً أخرى بوفاة زوجها، وينفطر قلبها من جديد باستشهاد فلذة كبدها محمد، وتختم حديثها لمراسلة وكالة فلسطين بدعائها على قتلة أبنائها:" حسبي الله ونعم الوكيل".

ومازال الاحتلال الإسرائيلي يمارس جرائمه البشعة بحق كل الفلسطينين سواء بغزة أو بالضفة وأراضي 48، حيث ارتكب الكثير من المجازر أهمها مجزرة صبرا وشاتيلا، مجزرة دير ياسين.

وجدير بالذكر، أن قطاع غزة يعاني من أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة، حيث تجاوزت نسبة الفقر فيه أكثر من 65 %، بسبب استمرار الحصار الخانق الذي تفرضه "إسرائيل" على القطاع، فيما تشدد من الخناق بعد معركة سيف القدس، لذا يحاول المواطنون البحث عن أي مصدر للرزق.

كلمات دلالية