البهتان المبين والتصفية المعنوية لمجتمعاتنا الإسلامية

الساعة 09:54 ص|25 سبتمبر 2021

فلسطين اليوم | وليد حلس

البهتان المبين والتصفية المعنوية لمجتمعاتنا الإسلامية

بقلم / وليد خالد حلس

نحو وعي إسلامي وفهم مقاصدي تاصيلي

لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)

أولا: تفسير الآية :

( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ) أي: الأمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة ، فيحبون أن تشتهر الفاحشة { فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: عذاب موجع للقلب والبدن ، وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم ، وجرأته على أعراضهم ، فإذا كان هذا الوعيد ، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة ، واستحلاء ذلك بالقلب ، فكيف بما هو أعظم من ذلك، كإظهاره ، ونقله ، والمجاهرة به ؟" وسواء كانت الفاحشة، صادرة أو غير صادرة.

وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم، كما صان دماءهم وأموالهم، وأمرهم بما يقتضي المصافاة، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه. { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فلذلك علمكم، وبين لكم ما تجهلونه.

ثم يواصل القرآن الكريم توجيهاته الحكيمة للمؤمنين ، فيهدد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا بالعذاب الأليم ، وينهى المؤمنين عن اتباع خطوات الشيطان ، قال تعالى : ( إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم . . . ) .

قال الإمام الرازى : " اعلم أنه - سبحانه - بعد أن بين ما على أهل الإفك ، وما على من سمع منهم ، وما ينبغى أن يتمسك به المؤمنون من آداب ، أتبعه بقوله : ( إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ . . . ) ، ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك فى هذا الذم ، كما شارك فيه من فعله ومن لم ينكره ، وليعلم أهل الإفك كما أن عليهم العقوبة فيما أظهروه ، فكذلك يستحقون العقوبة بما أسروه ، من محبة إشاعة الفاحشة فى المؤمنين .

ومعنى " تشيع " تنتشر وتكثر ، ومنه قولهم : شاع الحديث . إذا ظهر بين الناس .

والفاحشة : هى الصفة البالغة أقصى دركات القبح ، كالرمى بالزنا وما يشبه ذلك .

والمعنى : إن الذين يحبون أن تنتشر قالة السوء بين صفوف المؤمنين ، وفى شأنهم ، لكى يلحقوا الأذى بهم ، هؤلاء الذين يحبون ذلك .

" لهم " بسبب نواياهم السيئة " عذاب أليم فى الدنيا " كإقامة الحد عليهم ، وازدراء الأخيار لهم ، ولهم - أيضا - عذاب أليم " فى الآخرة " وهو أشد وأبقى من عذاب الدنيا .

" والله " تعالى وحده " يعلم " ما ظهر وما خفى من الأمور والأحوال " وأنتم " أيها الناس - " لا تعلمون " إلا ما كان ظاهرا منها ، فعاملوا الناس على حسب ظواهرهم ، واتركوا بواطنهم لخالقهم ؛ فهو - سبحانه - الذى يتولى محاسبتهم عليها .

فالآية الكريمة يؤخذ منها : أن العزم على ارتكاب القبيح ، منكر يعاقب عليه صاحبه ، وأن محبة الفجور وشيوع الفواحش فى صفوف المؤمنين ، ذنب عظيم يؤدى إلى العذاب الأليم فى الدنيا والآخرة ، لأن الله - تعالى - علق الوعيد الشديد فى الدارين على محبة انتشار الفاحشة فى الذين آمنوا .

وروى الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ، ولا تطلبوا عوراتهم ، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم ، طلب الله عورته ، حتى يفضحه في بيته ".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: (أَتَدْرُونَ ما الغِيبَةُ؟ قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ ، قالَ: ذِكْرُكَ أخاكَ بما يَكْرَهُ قيلَ أفَرَأَيْتَ إنْ كانَ في أخِي ما أقُولُ؟ قالَ: إنْ كانَ فيه ما تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فيه فقَدْ بَهَتَّهُ).

كما روي عن أنس بن مالك قائلا لأجيال ما بعد زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام : * إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالًا ، هي أدَقُّ في أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ ، إنْ كُنَّا لَنَعُدُّها علَى عَهْدِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مِنَ المُوبِقاتِ".*

ومن أدب هذه الآية أنه يتوجب على  المؤمن ألّا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه ، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء ، فكذلك يجب عليه ألّا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين .

ولهذا ذيل هذا الأدب الجليل بقوله تعالى : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } أي يعلم ما في ذلك من المفاسد فيعظكم ؛ لتجتنبوا ، وأنتم لا تعلمون أي تحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر ، وهذا كقوله تعالى : { وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم }.

فإذا وجدنا أن الشارع الحكيم حذر وتوعد بالعذاب والهلاك في الدنيا والآخرة لمجرد حب النفوس المريضة لإشاعة الفواحش في المؤمنين ، فكيف إذا أصبح هذا الحب سلوكا وممارسة لتلك النفوس الرديئة؟!

ان المتبصر لزمن الرعيل الأول الذي خلع عباءة الجاهلية على عتبة الإسلام ، ووحد مصدر التلقي ، وتلقى الأحكام الشرعية للتنفيذ والتطبيق ، ليس للتمتع الثقافي ولا لمجاراة العلماء أو مداراة السفهاء ، هذا الرعيل لن يتكرر على شكل مجتمع إلا إذا تحققت وتوفرت تلك المواصفات ، وربما تتكرر على شكل حالات فردية فقط ، كان هذا المجتمع الذي خرج لتوه من الجاهلية العمياء ودخل رحمة الإسلام أشد حرصا على الالتزام الكامل بالتعاليم السمحة للدين الجديد الذي أخرجهم من عبادة العباد الي عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، وكانوا أشد حرصا أيضا على حماية أعراض الخلق وعدم النهش في لحوم البشر والتلذذ عليها .

يقول أحد المفكرين والدعاة المعاصرين :

*إن الدعوة إلي الالتزام بمكارم الأخلاق ركيزة من ركائز الدين في كل رسالة من رسالات السماء ، حتي تجتمع خصال الخير في عباد الله ، فيعينهم ذلك علي مقاومة إغواءات الشيطان ،

ولا بد للإنسان من إدراك أن الشيطان وأعوانه له بالمرصاد ، يحاولون إخراجه من دائرة الإيمان إلي الكفر ، ومن دائرة التوحيد إلي الشرك ، ومن دائرة الاستقامة على منهج الله إلي إغراءات الخروج عليه .

ووسيلة شياطين الإنس والجن في إفساد المجتمعات الإنسانية هي تحريك الشهوات ؛ لأن النفس بالشهوات آمرة ، وعن الرشد زاجرة ، وإذا لم يتحكم فيها صاحبها أردته موارد التهلكة ، وأفسدت حياته وحياة من حوله إفسادا كبيرا .

كما إن الفساد في المجتمعات الإنسانية يبدأ عادة بفساد الاعتقاد ، وإذا فسدت العقيدة فسدت العبادة ، ويتبع ذلك فساد كل من الأخلاق والمعاملات ، وفي ظل هذا الفساد ينتشر الخداع والكذب ، وخراب الذمم ، ونقض كل من العقود والعهود والمواثيق ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وتطفيف الكيل والميزان ، والغش في العمل والصنعة ، وانتشار النهب والسلب والسرقات ، وشيوع الاستبداد والظلم ، وتفشي الفواحش والفتن ، والاعتداء علي الأعراض ، وما ينتج عنه من اختلاط الأنساب ، وتفكيك الأسر ، وقطع الأرحام ، وانتشار الأمراض والأسقام والبلايا والمصائب ، ونزع البركة ، وتقويض المجتمعات ، وانتزاع الإيمان من القلوب ، والعزوف عن الزواج ، وقلة النسل ، وانتشار البطالة ، ونزول غضب الله وعقابه .......)

ولذلك كله فإن الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال تحذر كل من تسول له نفسه إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا بالقول أو بالفعل ، وتتهدده بعذاب أليم في الدنيا والآخرة، إلا أن يتوب عن جريمته فيقبل الله توبته. ولقد ختمت الآية الكريمة بقول الحق- تبارك وتعالي-:  "والله يعلم وأنتم لا تعلمون". وهذا الحكم الإلهي يعتبر وجها من أوجه الإعجاز التشريعي في كتاب الله ، لما فيه من حفظ للمجتمعات المؤمنة من شيوع الفواحش فيها ، والله يقول الحق ويهدي إلي سواء السبيل .

الله واياكم من قالة السوء وجعلنا وإياكم حماة وحراسا لهذا الدين ، وسدا منيعا في الذود عن حياض وأعراض إخوانكم الموحدين من الذئاب المفترسة .

كلمات دلالية