دلالات وتبعات هروب الأسرى الستة من سجن "جلبوع" الإسرائيلي.. بقلم/ سعيد عكاشة 

الساعة 07:44 م|11 سبتمبر 2021

فلسطين اليوم | سعيد عكاشة

مثّلت عملية هروب ستة أسرى فلسطينيين من سجن إسرائيلي شديد الحراسة،والمعروف باسم "جلبوع" والواقع في شمال إسرائيل قرب بحيرة طبريا، في 6 سبتمبر الجاري (2021)، إخفاقاً أمنياً كبيراً للدولة العبرية عامة ولرئيس الوزراء نفتالي بينيت- الذي لم يمض سوى أقل من شهرين على تسلمه منصبه- خاصة. وما لم تتمكن أجهزة الأمن الإسرائيلية من إلقاء القبض على المعتقلين الفارين في غضون فترة قصيرة، فسيكون لهذا الحادث تبعات كبيرة سواء على المستوى السياسي أو الأمني في المستقبل المنظور.

ماذا تكشف عملية الهروب؟

بالنظر إلى المعلومات المتوافرة في المصادر الإسرائيلية، يمكن رصد أوجه القصور في المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي قادت لنجاح عملية الهروب، وذلك على النحو التالي:

أولاً، إن الأسرى الستة مصنفون على أنهم من العناصر شديدة الخطورة بما كان يرتب إجراءات مراقبة محكمة أكبر لعلاقاتهم داخل وخارج السجن، كما كان من الضروري- وفقاً لاتجاهات داخل إسرائيل- عدم وضعهم في زنزانة واحدة معاً لفترة  طويلة، بما يجعل من السهل عليهم العمل على حفر بضعة أمتار خلال عام كامل بالقرب من نظام الصرف الصحي واستخدامه في عملية الهروب، دون أن تتنبه إدارة السجن خلال هذا العام لما كان السجناء يدبرون له.

ثانياً، إن أحد الأسرى الستة هو زكريا الزبيدي الذي أثار الرأى العام الإسرائيلي عندما تم الكشف عام 2004 عن أن له علاقة مع محامية إسرائيلية تدعى تالي فخيمه، وتردد في حينها أن الزبيدي كان يحاول من خلال ذلك تحقيق اختراق أمني لصالح حركة فتح. ورغم تلقي الزبيدي عفواً من جانب السلطات الإسرائيلية، إلا أنها عادت لتضعه في قائمة المطلوبين أمنياً لشكها في استمرار نشاطه لصالح المقاومة الفلسطينية بشكل غير مباشر، وبالفعل تم اعتقاله وتوجيه أكثر من عشرين تهمة له عام 2019. وتطرح التقارير الصحفية الإسرائيلية تساؤلات عديدة أهمها: لماذا لم تدرك سلطات سجن "جلبوع" أن احتمال هروب شخص مثل الزبيدي لديه علاقات قديمة مع مواطنين إسرائيليين واحتمال تلقيه مساعدات من بعضهم، هو أمر وارد وكان ينبغي التحسب له، خاصة أن شهرة الزبيدي يمكن أن تجعل من هروبه بالذات بمثابة فضيحة أمنية كبيرة مقارنة بالأثر العادي الذي يخلفه هروب مساجين لا يحظون بمثل شهرته، حتى لو كانوا أكثر خطوره منه؟.

ثالثاً، أشارت المعلومات المنشورة في الصحف الإسرائيلية إلى أن الزبيدي لم يكن نزيلاً في نفس زنزانة المعتقلين الخمسة الآخرين، ولكنه طلب قبل يوم واحد فقط من تنفيذ عملية الهروب أن يتم نقله لهذه الزنزانة، وتساءلت التعليقات في الصحف الإسرائيلية عن أسباب عدم الانتباه لمثل هذا الطلب، خاصة أن الزبيدي ينتمي لفتح بينما أربعة أفراد من الستة ينتمون لحركة الجهاد الإسلامي، وسبق لثلاثة منهم أن دبروا لعملية هروب عام 2014 ولكنها اكتشفت قبل تنفيذها بوقت قليل!!.

رابعاً، الارتباك الشديد الذي وقعت فيه سلطات السجن عندما بررت تمكن المساجين من الهروب بأنه ناتج عن قيام الشركة التي شيدت سجن "جلبوع" بنشر تصميمات مباني السجن على موقعها على شبكة الإنترنت، الأمر الذي مكن الفارين من معرفة نقاط الضعف التي يمكن اختراقها، وهو ما يثير سخرية الصحافة الإسرائيلية ليس فقط من سلطات السجن، بل من المنظومة الأمنية بأكملها بما في ذلك أجهزة الموساد والشاباك والمخابرات العسكرية (أمان). فوفقاً للتقارير الإسرائيلية، كيف لم تكتشف هذه الأجهزة أن تصميمات مباني السجن منشورة على الملأ، ومن قبل ذلك لماذا تنشر أى شركة تصميمات المباني التي تقوم بتنفيذها في عصر لا يترك الإرهاب هدفاً سواء أكان مبنى مدنياً أو عسكرياً ليكون في دائرة اهتماماته؟. الأكثر من ذلك، أن بعض التحقيقات الصحفية الإسرائيلية أشارت إلى فيلم فلسطيني أذيع عام 2014 في تلفزيون حماس وتدور وقائعه حول هروب ستة أسرى فلسطينيين من سجون إسرائيل عبر أنفاق الصرف الصحي!!، واللافت أن تاريخ عرض الفيلم كان في نفس العام الذي شهد محاولة فاشلة لهروب أسرى فلسطينيين من سجن "جلبوع"، وكأن الفيلم قد استوحى موضوعه من هذه العملية!!.

خامساً، على العكس مما تروجه إسرائيل عن قدرتها الفائقة على التعامل مع الحوادث الطارئة في أسرع وقت ممكن، بما يشير إلى الجهوزية الكبيرة لأجهزتها الأمنية، فإن التقارير الصحفية أشارت إلى أن سلطات السجن لم تعرف شيئاً عن  العملية إلا بعد وقوعها وهروب المساجين بأكثر من ساعة، والأكثر من ذلك أنها لم تكتشف العملية بنفسها ولكن من خلال بلاغ قدمه أحد المواطنين الذي ارتاب في أشخاص كانوا قريبين من مبنى السجن ويحاولون الابتعاد عن الطريق العمومي الذي يحيط به بشكل يثير الشكوك. كانت هذه الساعة كافية لهروب المساجين. وحسب التقارير، فإن الفتحات التي كانت خارج السجن والتي خرج منها الهاربون كانت قريبة للغاية من أبراج الحراسة ومن أسوار السجن المزودة بكاميرات ومعدات إلكترونية متطورة لتأمينه من مثل هذه المحاولات، ومن هنا طرحت تساؤلات حول كيفية نجاح الفارين في الوصول إلى الفتحة الخارجية، وإذا كانوا يتلقون دعماً من أطراف خارج السجن فكيف لم تكتشف أجهزة الأمن المتعددة هذه الصلات بين المسجونين ومن عاونهم على الهرب من الخارج؟

 سادساً، ازداد ارتباك السلطات الأمنية الإسرائيلية بعد الإعلان عن الحادث. ففي الوقت الذي قالت أنها تعمل على احتمال عدم خروج الفارين من المنطقة، وأنه يمكن لهم القيام بما أسمته "عملية تخريبية" قد يكونوا قد خططوا لها أثناء عملهم على حفر النفق الذين هربوا عبره، فإنقائد منطقة لواء الشمال في الشرطة الإسرائيلية قال أنه لا توجد إرشادات أمنية لسكان المنطقة بعد الحادث، لكنه حثهم على توخي مزيد من الحذر، وهذا يعني أن الشرطة كانت تتعامل واقعياً مع احتمال أكثر ترجيحاً، وهو أن الأسرى فروا إلى خارج المنطقة بالفعل، وهو الاحتمال الأقرب، لأنهم لم يكونوا ليغامروا بالبقاء داخل المنطقة مع علمهم بأن عمليات التمشيط ستبدأ فور الكشف عن الحادث، ولم يكن الحديث عن احتمال بقاءهم داخل المنطقة إلا للتخفيف من حالة الفشل التي سقطت فيها الأجهزة الأمنية والإيحاء بأن احتمال القبض عليهم سريعاً هو أمر ممكن على خلاف الحقيقة.

تداعيات محتملة

كما ذكرنا من قبل، سيكون لهذا الحادث تبعات أمنية وسياسية كبيرة إذا لم تتمكن السلطات الإسرائيلية في غضون الأيام القليلة القادمة من القبض على المعتقلين الفارين. فعلى المستوى الأمني، ستكون هناك عملية إبعاد أو إقصاء للعديد من القيادات الأمنية والاستخباراتية حتى لو تم إلقاء القبض عليهم سريعاً. فالحادث أثار ردود فعل قوية في الشارع الإسرائيلي، وليس هناك من وسيلة لتهدئة غضب الرأى العام سوى الإطاحة بعدد من المسئولين. ويزداد الأمر سوءاً في حالة عدم التمكن من القبض على الفارين، حيث إنه من المنطقي أن تتناسب مدة الاختفاء طردياً مع فرصة إلقاء القبض عليهم، بمعنى أنه كلما طالت فترة الفشل في إعادة إلقاء القبض عليهم، كلما ارتفعت فرصهم في الإفلات من يد السلطات الإسرائيلية إلى الأبد، وهو ما حدث مع الجندي جلعاد شاليط الذي تم أسره بواسطة حركة حماس عام 2006، وكانت فرصة العثور عليه في أعقاب الحادث كبيرة ولكن مع فشل الاستخبارات الإسرائيلية في التوصل إلى مكان احتجازه تضاءلت فرص تحريره تدريجياً حتى تم ذلك عبر تبادل الأسرى مع حماس عام 2011. وإذا ما عجز الأمن الإسرائيلي عن القبض على الفارين الستة في أقرب فرصة، فإن التصفيات داخل الأجهزة الأمنية ستتواصل بقوة وتطيح بقيادات كبيرة في هذه الأجهزة.

أما على المستوى السياسي، فستكون التبعات أكبر، وذلك لأسباب عديدة منها:

1- لن تكون الحكومة الهشة التي يرأسها نفتالي بينيت حالياً قادرة على تبرير إخفاقها في أول اختبار حقيقي تتعرض له، وسيجد بينيت ووزير دفاعه بيني غانتس أنهما في موقف حرج، خاصة وأن استطلاعات الرأى الأخيرة قبل الحادث كانت تشير إلى تدني ثقة الناخبين في كفاءتهما لتولي المنصبين، حتى إن بينيت لم يحصل سوى على تأييد 12% من المستطلع آرائهم حين تم سؤالهم عن مدى جدارته بتولي رئاسة الحكومة، مقابل 40% رأوا أن زعيم المعارضة رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو هو الأجدر بتولي المنصب. وإذا ما استمر عجز الأمن الإسرائيلي عن القبض على الأسرى الستة ومع اقتراب موعد التصويت على الميزانية في الكنيست، فقد تنهار حكومة بينيت سريعاً، لتدخل إسرائيل في دوامة انتخابات جديدة بعد أن عانت على مدى أكثر من عامين قبل تشكيل حكومة بينيت من غياب حكومة منتخبة.

2- لن يهدر نتنياهو الفرصة ليس لدعم عودته لمنصب رئيس الحكومة في أى انتخابات محتملة فحسب، بل لتذكير الناخب الإسرائيلي بما كان يحذر منه وهو وصول حكومة تفتقر للخبرات الأمنية إلى سدة السلطة، وسيطالب الجمهور الإسرائيلي بمنح أصواته لليمين الحقيقي وليس المزيف (كما يتهم بينيت وغيره من اليمين المتحالف معه) لتكون هناك حكومة قوية يمكنها منع تكرار هذا الحادث مستقبلاً، وربما سيضغط نتنياهو دعائياً لترسيخ فكرة أن أسباب إخفاق الأمن الإسرائيلي في التعامل مع حادث هروب الأسرى يعود إلى تردد الناخب الإسرائيلي في دعم اليمين الحقيقي، وهو الأمر الذي تسبب- وفقاً له- في أن تعيش الدولة العبرية في ظل حكومات تصريف أعمال لما يزيد عن عامين، بشكل أحدث نوعاً من التراخي في مؤسسات الدولة، وقاد إلى التقصير الذي تسبب في هروب أسرى مصنفين على أنهم في غاية الخطورة على أمن الدولة العبرية.

3- إذا ما طالت فترة هروب الأسرى، سيتيقن الأمن الإسرائيلي أنهم تمكنوا من الاختفاء إما في مناطق السلطة الفلسطينية، أو أن بعضهم (على الأقل) قد تمكن من الفرار إلى الأردن (كما تشير بعض التقارير الإسرائيلية)، وهو ما سيرتب توتراً محتملاً في علاقة إسرائيل بكل منهما، ولن تُقدِّر الحكومة الإسرائيلية عواقب مطالبة الدولتين بالتعاون معها في هذا الملف، فالرأى العام الفلسطيني والعربي أظهرا ابتهاجاً بالفشل الإسرائيلي، ولن يتسامحا مع أى خطوة في هذا السياق، ومن ثم فإن الأزمة الموجودة أصلاً في العلاقات بين الأطراف الثلاثة على خلفية التعنت الإسرائيلي في التعامل مع القضية الفلسطينية، هذه الازمة ستكون مرشحة للتفاقم في القريب العاجل.