بـيـــن حـلـفــيـن 

الساعة 01:20 م|12 يوليو 2021

فلسطين اليوم | الدكتور وليد القططي

"حلف أورشليم" الاستعماري وصل عبر "اتفاقيات أبراهام" إلى ذروته الاستراتيجية، من خلال تجسيد "إسرائيل الكُبرى"، في مفهومها الحضاري الشيطاني.

في أثناء الحملة الفرنسية على مصر والشام، أصدر قائد الحملة نابليون بونابرت، عام 1800م، بياناً دعا فيه يهود العالم إلى الهجرة إلى فلسطين لإقامة وطنهم القومي تحت الراية الفرنسية.

وبعد أكثر من قرنٍ، أصدر وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور، عام 1917م، بياناً عُرِف باسم "وعد بلفور"، تعهدت بريطانيا بموجبه إقامة وطن قومي ليهود العالم في فلسطين.

وبعد إعلان الحركة الصهيونية ولادةَ دولة "إسرائيل"، سارعت الولايات المتحدة الأميركية إلى الاعتراف بها في يوم الولادة نفسه، وتبعها الاتحاد السوفياتي بعد ثلاثة أيام. ووزَّعت الدولتان القائدتان للغرب، في شقّيه الرأسمالي والاشتراكي، الأدوار بينهما لإمداد "إسرائيل" بشريان الحياة، فأمدّتها الأولى بالمال والثانية بالرجال، وكل الغرب أمدّها بالسلاح والخبرات، فكانت الدولة الوليدة تتويجاً لحلفٍ استعماري جديد، بدوافع دينية ووظيفية واستراتيجية.

الدافع الديني للحلف الاستعماري يعود إلى ظهور البروتستانتية في القرن السادس عشر الميلادي، كحركة إصلاح ديني داخل الكنيسة الكاثوليكية. وكانت اليهودية جُزءاً من هذا الإصلاح. فعلى الرغم من عداء مارتن لوثر لليهود كمسيحي، فإنه وظّفهم في خدمة عقيدة الخلاص المسيحية، فاعترفت البروتستانتية بـ"العهد القديم" (التوراة)، وتبنّت الرواية المزوَّرة، في ما يتعلّق بـ"أحقّية" اليهود في أرض الميعاد (فلسطين)، وضرورة عودة اليهود إلى فلسطين، وسيطرتهم على القدس (أورشليم)، لبناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى، كشرطٍ مُسبّق لعودة المسيح المنتظَر، الذي سيقود "المؤمنين" في معركة "هار مجدون"، فيقتلُ الأشرار، ويُنصّر اليهود، ويحكم العالم ألفَ سنة سعيدة، يهيمنُ فيها المسيحيون على العالم. فكانت الصهيونية المسيحية تلك، هي التي أدّت إلى نشأة الصهيونية اليهودية، فتحالفتا معاً لإقامة "دولة إسرائيل"، وعاصمتها أورشليم، مركزاً ورمزاً لهذا الحلف الاستعماري بين الحضارة الغربية المسيحية والحركة الصهيونية اليهودية.

في مُقابل "حلف أورشليم"، المستند إلى أسطورة كاذبة، ووعد بشري باطل، يوجد "حلف القدس" المستند إلى نبوءة دينية صادقة، ووعد إلهي حقّ، أعطاه الله لمن يمتلك من الأمة الإسلامية شرطَي الإيمان والقوة "عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ"، بأنْ يُعطيهم شرف القضاء على العلوّ والإفساد الإسرائيليَّين في فلسطين، كما قال تعالى في "سُورة الإسراء": "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا".

والوعد الإلهي في القرآن الكريم تُعزّزه السُّنّة النبوية، التي أشارت، في أحاديث نبوية كثيرة، إلى وجود طائفة من المؤمنين المجاهدين في بيت المقدس (فلسطين)، وأكناف بيت المقدس (حول فلسطين)، يخوضون صراعاً مستمراً مع خُلاصة الشر ("حلف أورشليم")، وهم متمسكون بحقوقهم، ومُستمرون في جهادهم، وقاهرون عدوَّهم، لا يضرّهم مَن خالفهم وخذلهم من بني جِلدتهم، حتى يأتي أمر الله ونصره في وعد الآخرة وهم كذلك، حتى يتم إنهاء علو اليهود الصهاينة وإفسادهم في "دولتهم" وحلفهم.

الدافع الديني لحلف أورشليم كان غطاءً للدافع الوظيفي للحلف، وهو حاجة الغرب إلى الدولة الوظيفية في قلب الوطن العربي- الإسلامي، ومُلتقى قارات العالم القديم الثالث، ليكوّن دولة حاجزة بين جناحَي الأمتين العربية والإسلامية، ورأس حربة ضاربة للمشروع الاستعماري الغربي، وعاملاً مُعَوِّقاً أيَّ شكل من الوحدة والاستقلال والنهضة، في أُطرها الإسلامية والقومية والوطنية.

وكما وصف المفكر المصري عبد الوهاب المسيري الدولة اليهودية الوظيفية بأنها كانت نتيجة عقد صامت وتحالف ضمني بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، تقوم بموجبهما الحركة الصهيونية بتهجير يهود الغرب إلى فلسطين، بهدف إقامة الدولة اليهودية الوظيفية، الموالية للغرب والخادمة لمشروعه الاستعماري، في مقابل أن يتكفّل الغرب إقامة الدولة اليهودية، وضمان استمرار وجودها، والمحافظة على أمنها واستقرارها، وإمدادها بكل أسباب الحياة والرفاهة... وبذلك، يتمّ حل المشكلة اليهودية في الغرب، وإيجاد قاعدة متقدِّمة للمشروع الغربي في الشرق. وفي الوقت نفسه، تحقّق الحركة الصهيونية أهدافها، من خلال تجسيد حُلم العودة اليهودي إلى أرض الميعاد.

إذا كان الدافع الوظيفي الاستعماري لـ"حلف أورشليم" يهدف إلى تبادل المصالح الاستعمارية بين المشروعين الاستعماريين الغربي والصهيوني، فإنَّ الدافع الوظيفي التحرُّري لـ"حلف القدس" يهدف إلى تحقيق المصالح العُليا للأمتين العربية والإسلامية، ومحورها التقدم نحو الوحدة والاستقلال والنهضة. وهذه المصالح لا تتحقَّق إلاَّ بمقاومة المشروع الاستعماري الغربي، سواء كان الهيمنة الأميركية على بلاد العرب والمسلمين، أو الكيان الصهيوني في فلسطين. ولا نجاح لأيّ مشروع، سواء أكان وحدة إسلامية- عربية-إقليمية، أَم استقلالاً سياسياً، أَمْ نهضة اقتصادية، في ظل وجود الهيمنة الأميركية والكيان الصهيوني كرأس حربة للاستعمار في المنطقة. فـ"حلف القدس" يُحقّق للأمة وظائفَ تُنجز مصالحها العُليا، المرتكزة على أُسس الوحدة والاستقلال والنهضة، والمُعتمدة على توجيه بَوصلة الأمة نحو القدس المحتلة لتحريرها من الاحتلال، ونحو الكيان الصهيوني لإزالته من الوجود.

الدافع الوظيفي لـ"حلف أورشليم" قام على القوة العسكرية الإسرائيلية، المدعومة غربياً. وبعد "حرب أكتوبر" عام 1973م، التي كادت "إسرائيل" تنهار في أثنائها لولا تدخُّلُ الغرب، وخصوصاً أميركا، أدرك الحلف الاستعماري بعدها استحالة بقاء مركزه في العمق العربي- الإسلامي من دون شرعنة وجوده في محيطه البشري. فكانت، بناءً على ذلك، اتفاقيات السلام: "كامب ديفيد"، "أوسلو"، "وادي عربة". ولحقتها بعد زمنٍ اتفاقيات التطبيع، وكانت آخرَها "اتفاقياتُ أبراهام"، وباكورتها بين الكيان والإمارات، وهي تتجاوز مفهوم السلام الذي يعني إنهاء حالة الحرب، ومفهوم التطبيع الذي يعني إقامة علاقة تعايش طبيعية، لتصل إلى مفهوم التحالف الاستراتيجي بين "إسرائيل" والأنظمة الحاكمة، على أساس المصالح المشتركة والعدو المشترك (إيران ومحور المقاومة)، والتعايش السلمي من دون استرداد الحقوق، والسلام في مُقابل السلام من دون الأرض، وتبنّي الرواية الإسرائيلية للصراع بدلاً من الرواية الفلسطينية، والدعوة إلى "الإسلام الأميركي" المُهادِن بديلاً من الإسلام الثوري المقاوم.

"حلف أورشليم" الاستعماري وصل عبر "اتفاقيات أبراهام" إلى ذروته الاستراتيجية، من خلال تجسيد "إسرائيل الكُبرى"، في مفهومها الحضاري الشيطاني. ويقفُ على النقيض منه حلف حضاري إنساني، هو "حلف القدس" التحرُّري، والهادف إلى تدمير مشروع "إسرائيل الكبرى" كخلاصة للشرّ في العالم، والمرتكز على مفهوم المقاومة، في كلّ صورها الثقافية والسياسية والعسكرية، وتجسيدها نظرياً وعملياً، والمُتحرّكة في مسارين متوازيين، هما: مقاومة الهيمنة الأميركية وإنهاؤها في المنطقة، كآخر أشكال المشروع الاستعماري الغربي، ومقاومة الكيان الصهيوني وإزالته من المنطقة، كمركز للمشروع الاستعماري الغربي وآخر أشكاله. والعلاقة بين هذين الهدفين تكاملية تبادلية، فتحقيق إنجاز في أحدهما يؤدي إلى تحقيق إنجاز في الآخر. وحتى تحقيق هاتين الغايتين، فإنَّ أمام الحلف التحرري مهمَّتين، هما: إبقاء الكيان الصهيوني كياناً غير شرعي ومعزول وغير مستقر من جهة، ومواصلة استنزاف الاستعمار الأميركي وسحب الأرض من تحت قدميه، لتقليص أماكن نفوذه من جهة أخرى. وحقق الحلف إنجازاتٍ مهمّة في كلا الاتجاهين.

أخيراً، بالمقارنة بين الحلفين، يُمكن القول، بيقين تامّ، إنَّ "حلف القدس" لديه من قوة الحق ما يضمن استمرار تقدمه حتى إنجاز هدفه، المتمثّل بالقضاء على المشروع الاستعماري الغربي، وتحرير القدس وفلسطين، وطرد الأميركيين والغرب. وقوة الحق تستند إلى وحدة مستضعَفي العالم الأحرار، ووحدة الأمة الإسلامية، ووحدة القومية العربية، ووحدة صف المقاومين، ووحدة بَوصلة الجهاد نحو القدس.

رحم الله المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، عندما استشرف، في رؤيته المنهجية، حتميةَ تقدُّم "حلف القدس" قبل أكثر من أربعين عاماً، عندما تحدّث عن المجموعات الجهادية، وهي "تأتي من تخوم بيت المقدس تبدع مسيرتها وتكبر فوق هذا المحور المقدس- القدس طهران - الذي سيميّز الطيّب من الخبيث، ويرسم ملامح الصعود الإسلامي العظيم"

كلمات دلالية