"الكولوسيوم" الفلسطيني

الساعة 06:55 م|30 يونيو 2021

فلسطين اليوم | الدكتور وليد القططي

الكولوسيوم مسرح روماني يتوّسطه حلبة مُصارعة يُحيط بها مدرج كبير من جميع الجهات، موجود في مدينة روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية القديمة قبل الميلاد، كانتْ تُعقد فيه مباريات المصارعة حتى الموت بين العبيد غير الرومان؛ ولذلك سُميِّ الكولوسيوم حلبة الموت، والعبيد هم أسرى الحرب يُسخّرهم الرومان في شتى الأعمال، ومن بينها المصارعة المُميتة التي يدربونهم عليها ليزجوا بهم في مباريات مصارعة حتى الموت في مسرح الكولوسيوم، من أجل التسلية الدموية والمُتعة القاسية، وتنتهي كل مباراة مصارعة بقاتل ومقتول، والقاتل يصبح مقتولاً في مباراة لاحقة، وهكذا تستمر دورة موت لا نهائية بين العبيد الضحايا خدمة للسادة الجلادين، في لعبة موت أبدية يُوزّع فيها السادة الأدوار على العبيد، فيلعب بعضهم دور الضحية وبعضهم دور الجلاد.

الكولوسيوم الروماني انتقل إلى العالم بأشكال مختلفة بدون مسرح فيه حلبة ومدرج، فالأرض كلها تُصبح مسرح كبير يختلط فيه الممثلون بالجمهور، عندما يتحوّل فيه بعض الضحايا جلادين بالوكالة خدمة للسادة، وحين ينقلب فيه بعض المُستضعفين مُستكبرين بالإنابة تقرّباً للطغاة... وفي هذه الحالة يرتدي الضحية عباءة الجلاد، ويضربُ المُستضعفُ بسوط المُستكبرُ، ويقتلُ المُستذلُ ببندقية الطاغية... فإذا حدثَ ذلك فاعرفْ أنَّ المغلوبَ قد اقتدى بسلوك الغالب، واعلمْ أنَّ المقهورَ قد تماهى بصفات القاهر، وأدرِكْ أنَّ السجينَ قد حاكى دور السجان، وتأكدْ أنَّ المُعتدىَ عليه قد توّحد بشخصية المُعتدي، وتيقنْ أنّ المقتولَ قد تقمّص روح القاتل.

من أشكال الكولوسيوم الروماني القديم المُتجدد على المسرح العالمي الكبير أنَّ بعضَ الأفارقة في غرب أفريقيا كانوا يصيدون بني جلدتهم ويأسرونهم وقد يقتلونهم خدمة لأسيادهم تجار العبيد الأوروبيين المتوحشين؛ فيساهموا في تحويلهم إلى عبيد أذلاء بعد أن كانوا سادة أعزاء. وأنَّ بعضَ الفرنسيين ساعدوا الاحتلال الألماني النازي في احتلال بلادهم في الحرب العالمية الثانية، وأقاموا حكومة فيشي التابعة للاحتلال، التي عقدت اتفاقية مُهينة للشعب الفرنسي، وشاركت قواتها المُسلحة في قمع المقاومة الوطنية الفرنسية خدمة للغزاة الألمان. وأنَّ بعضَ الجزائريين الخونة قد تطوّعوا في الجيش الفرنسي الغازي لبلادهم، وشكلوا مجموعات عسكرية عُرفت باسم (كتائب الزواف)، فكانوا أشد شراسة ووحشية من الفرنسيين ضد شعبهم، فساعدوا الجيش الفرنسي في احتلال المدن الجزائرية، وقمع الثورة الجزائرية، واستمروا كذلك حتى انتصار الثورة وزوال الاحتلال.

الكولوسيوم الفلسطيني لا يختلف كثيراً عن النماذج الأفريقية والفرنسية والجزائرية، وإنْ كان أكثر غرابةً وأشد عجباً؛ ذلك بأنّه مُغلّفٌ بنظرية ثورية اندثرتْ، ومُغطّى بفلسفة وطنية درستْ، ومُستند إلى بقايا أطلال مشروع وطني بائد، ومُرتكز على آثار فلول ثوار انقرضوا... وقام على أساس وجود سلطة وطنية أُريد لها أنْ تكونَ جسراً يربط بين الثورة والدولة، فانهارَ الجسرُ دون الوصول إلى الدولة أو العودة إلى الثورة، فغرقتْ السلطةُ في بركةٍ آسنة من المصالح والامتيازات لأولي الأمر فيها، ثم تحوّلت إلى عجلٍ ذهبي يُقدَّسُ من دون التحرير، وبقرةٍ حلوب تُعظَّمُ من دون العودة، وصنمٍ حجري يُعبدُ من دون الاستقلال... فأفرزت السلطة نخبتها الحاكمة والمحكومة بإرادة الاحتلال، فارتدوا عباءته، وضربوا بسوطه، وقتلوا ببندقيته... فقاموا بدور الجلاد والمستكبر والطاغية دفاعاً عن سلطتهم وامتيازاتهم، ونسوا ثورتهم ووطنهم وشعبهم، بينما كُتبَ على بقية الشعب خارج النخبة الحاكمة وأعوانهم وأتباعهم أن يقوموا بدور الضحية، فكان هذا هو الكولوسيوم الفلسطيني.

أحد هؤلاء الضحايا في الكولوسيوم الفلسطيني هو الشهيد المظلوم نزار بنات، المقتول ظُلماً بغير حق على يد الجلادين من بني جلدتهم، في مسرحية حلبة الموت التي كتبها الطغاةُ المُحتلون، ووزعوا أدوارها على الشعب الفلسطيني، ليكون الصراع فيها ما بين الضحايا والجلادين، وهم جميعاً ضحايا الاحتلال، فالصراع الحقيقي هو صراع بين الضحايا بأقنعة مُزيفة بعضها بوجوه الضحايا وبعضها الآخر بوجوه الجلادين، ليكونوا جميعاً ضحايا سواء القاتل أم المقتول... فنزار بنات لم يحمل سوطاً أو سيفاً أو بندقية ضد السلطة، فقط حمل الكلمة ضد النخبة الحاكمة في السلطة على خلفية الانبطاح السياسي، والفساد الاقتصادي، والتنسيق الأمني، فدفع حياته ثمناً لكلمته فاستحق لقب (شهيد الكلمة).

الكلمة التي اُستشهد من أجلها نزار بنات هي الكلمة التي قال عنها شهيد آخر ذهب ضحية الكلمة عندما قال: "إنَّ كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا ما متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكُتبت لها الحياة"، فإذا كانت كلمات الشهيد نزار بنات في حياته سياطاً من حجرٍ تلسع ظهور الفاسدين، فإنها ستكون بعد مماته قضباناً من نارٍ تقصم ظهور الفاسدين، وإذا دُفن جسد نزار بنات في التراب، فإنّ كلماته ستظَّل كالروح تسري في الأحياء حتى تدفنَ الفاسدين في التراب.

كلمات دلالية