خنساء الأمة أمّ الشهداء وأيقونة أمهات المجاهدين

الساعة 10:35 ص|21 يونيو 2021

فلسطين اليوم

هي خنساء الأمة, الحاجة المجاهدة «أم رضوان الشيخ خليل» فاطمة الجزار, قدمت خمسة من أبنائها شهداء وسجلت نموذجاً فريداً للتضحية والعطاء والفداء, لتبرهن بدماء أبنائها أن دمائنا وأرواحنا وكل ما نملك يرخص في سبيل الله وفي سبيل تقديم الواجب الذي أخص الله به أهل فلسطين أهل الرباط والجهاد.

تمر علينا اليوم ذكرى رحيل «خنساء الأمة» الحاجة أم رضوان الشيخ خليل والتي عرفت بأم الشهداء وأيقونة أمهات المجاهدين، قدمت أبنائها شهداء وأبدت منذ بداية الطريق استعدادها لأن تكون مشروع شهادة وتفدي بروحها الأصيلة ثرى أرض فلسطين الحبيبة.

الميلاد والنشأة

ولدت فاطمة يوسف إبراهيم الجزار «أم رضوان الشيخ خليل» مطلع العام 1942م  لأسرة فلسطينية مجاهدة في قرية يبنا الواقعة في السهل الأوسط إلى الجنوب من مدينة يافا المحتلة.

ترعرعت أم رضوان وهي ترقب هيبة الأرض وجمال السماء وطيب الزرع وعذوبة الماء في تضاريس فلسطين، إلى أن جاءت غربان الموت وهاجمت عصابات الإرهاب الصهيوني القرى الآمنة وطردت سكانها من بيوتهم، فتحول المشهد رمادياً باهتاً خلافاً لتلك الصورة التي عايشتها الخنساء أم رضوان.

هجرت عائلتها من بلدتها الأصلية "يبنا" كباقي آلاف الأسر الفلسطينية عام 1948م، وانتقلت للعيش في قطاع غزة، لتحط الرحال والمقام في مخيم يبنا بمدينة رفح جنوب قطاع غزة.

أيقونة أمهات المجاهدين

تزوجت أم رضوان من السيد خليل الشيخ خليل وكان زواجها بهذا الرجل مرحلة تحول كبيرة في حياتها، حيث استطاعت أن تكوّن عائلة من 13 فرداً، 7 من الذكور و5 من الإناث، لتبدأ مع هذه العائلة ثاني فصول الحكاية التي تزاحمت فيها مشاهد التعب والشقاء، الحب والعناء، الجهاد والشهادة، فيض كبير من العشق لفلسطين وأرضها دفعها فيما بعد أن تقدم لائحة طويلة من التضحيات كانت كفيلة لأن تخلّد اسمها كأيقونة للمرأة الفلسطينية المعطاءة وأيقونة أمهات المجاهدين.

لم يلبث زوج أم رضوان طويلاً حتى توفاه الله، وترك من خلفه حملاً ثقيلاً على كاهلها أثقل من الجبال، فكانت نعم من حمل الأمانة ونعم من حافظ عليها ونعم من ردّها بحق، لتتكفل بتربية أبنائها على الأخلاق الحميدة وحب الوطن، وتجاوزت بعد فقد زوجها كل الصّعاب، وأكملت طريقها وحدها تكابد مشاق الحياة لتطعم صغارها وتوفّر لهم حياة كريمة، فالتجأت للعمل بمهنة الحياكة.

سنوات قليلة كبر الأبناء في عيون أمهم والوطن، وأصبحوا جزء من حياة المخيم "مخيم يبنا"، حملوا أمانيهم وجالوا في أزقة المخيم الفقير، يبحثون فيها عن سبيل يقودهم إلى الوطن السليب، وأصبحت عيونهم تدور في سماء الوطن الرحيبة، علّهم يعرفون طريقاً للقدس في زرقة السماء.

اشتعل فتيل انتفاضة الحجارة الأولى، وانفجر الشعب الفلسطيني بأكمله في وجه عدوه ومغتصب أرضه، لم يكن لأبناء الخنساء أم رضوان الشيخ خليل إلا الانصهار في تلك الملحمة البطولية التي سطرها الشعب الفلسطيني بدمائه، لم تطلب من أبنائها الركود يوماً، لم تخاف عليهم من مواجهة العدو، ولم تنهاهم عن الوقوف في ميدان المواجهة مع العدو، بل كانت تدفعهم للجهاد والمقاومة، وتساندهم وتشاركهم النزول إلى الشارع ومقارعة الأعداء وجهاً لوجه في شوارع المخيم، وتمارس دورها في إحياء فريضة الجهاد.

حاضنة المجاهدين

ومع تسارع الأحداث لانتفاضة الحجارة الأولى، كانت قبضة الاحتلال تشتد وتزيد من خناقها على شعبنا، وخاصة الشباب الفاعلين والمؤثرين، فكان اعتقال نجليها شرف وأشرف، وبعد ثمانية عشر شهراً من الاعتقال أفرج عنهم لتبدأ رحلة مقارعة الاحتلال بشكل أوسع، لتفتح بيتها لأبنائها ورفاق دربهم في الجهاد والمقاومة، ورغم الملاحقة المستمرة من قوات الاحتلال لأبنائها إلا أنها حثتهم على المقاومة والصمود، لينتقل شرف وأشرف للمطاردة والملاحقة، وتشتد الحملة عليهم وعيون العملاء والأعداء تترصدهم ويصبح بيت أم رضوان محط التفتيش والتعذيب والقهر اليومي لجنود الاحتلال، لم تيأس أم رضوان أو يتسلل لقلبها الخوف بل زاد ذلك من يقينها من مقارعة الاحتلال وتقديم أبنائها الشهداء فداء لله وللوطن، كما قدمت قبل سنوات من اندلاع انتفاضة الحجارة شقيقها خضر الذي كان من أبرز المطاردين والمطلوبين لقوات الاحتلال، حيث كان يعمل في جيش التحرير الفلسطيني، وقد أذاق قوات الاحتلال الويلات وقتل منهم العديد، وطورد سنوات حتى تم اغتياله أوائل الثمانينات.

وما هي إلا فترة بسيطة حتى انتقل شرف وأشرف للعيش خارج فلسطين على إثر الملاحقة المكثفة من قوات الاحتلال، ومضت الحاجة أم رضوان على طريق العزة والكرامة في أولى خطوات التضحية بفراق أحبتها ومهجة قلبها شرف وأشرف في المنفى قسراً، لم تجزع ولم تطلب الرحمة من الاحتلال، ولم تتراجع قيد أنملة، بل أكملت المشوار تدعي لأبنائها بالتوفيق والسداد والإثخان في العدو، ومع اشتداد الهجمة الصهيونية اضطر الأخوة للسفر إلى الخارج، كما كان يفعل المطاردين لتخفيف الضغط عن عائلتهم من الاقتحامات والمداهمات المنزلية شبه اليومي، ثم يسوق القدر ابنها محمد ذو السادسة عشر للمطاردة إثر نشاطه في الانتفاضة الأولى وملاحقة العملاء وجنود الاحتلال.

وتبدأ أم رضوان المشوار الصعب ثلاثة من أبنائها مطاردين ومطلوبين لقوات الاحتلال الصهيوني في الدول العربية، وقلبها معهم يدعو لهم ولسانها يحثهم على الصبر وعدم التراجع والثأر للثكلى والإثخان في العدو، وهي التي شاهدت جرائم الاحتلال في الهجرة والنكبة ومشهد القتل اليومي.

لتستقبل الخنساء أم رضوان الخبر الأول فكان استشهاد أشرف أعز أبنائها على قلبها، الذي ارتقى إلى العلا شهيداً في اشتباكٍ مسلح مع قوات الاحتلال بتاريخ 1-7-1991م، في عملية «بليدة» بالاشتراك مع المقاومة الإسلامية في لبنان، كان الفقد الأول الأكثر ألماً على قلبها.

وعلى الرغم من ذلك تلقت الخنساء أم رضوان نبأ استشهاد ابنها أشرف برضى عظيم، واستقبلت المهنئين والوافدين إليها لتهنئتها باستشهاد ابنها، وعلى إثر حادثة استشهاد أشرف لوحق إخوانه واحداً تلو الأخر وأوذوا وعذبوا وسجنوا.

لم تلبث الخنساء طويلاً، حتى كانت على موعد آخر مع استشهاد الابن الثاني شرف الذي ارتقى خلال اشتباكٍ مسلح في وسط البحر بالقرب من مخيم «نهر البارد» شمال لبنان، حيث كانت عمليته ضمن عمليات التصدي لقوات الإنزال البحري الصهيوني على لبنان بتاريخ 6-8-1992م، وأثبتت الخنساء بأنها نعم الأم الصابرة التي تتلقى أقدار ربها خيرها وشرها برضى دون سخط أو جزع.

صبرت الخنساء أم رضوان على فقدان أبنائها الشهداء شرف وأشرف على طريق الحرية وتحرير فلسطين، لتنقل لمأساة جديدة وامتحان جديد في الصبر والبلاء، فكان القدر هذه المرة مع اعتقال ابنها محمد خمس سنوات في السجون المصرية متنقلة بين السجون المصرية للسؤال عنه، حيث بقيت سنوات تسأل عنه ولا إجابة ولا تأكيدات رسمية بأنه على قيد الحياة، ليبقى قلبها معلق بحبيبها وابنها الغالي محمد، وبقي السؤال الشاغل لها هل هو حي أم معتقل، ولم يراودها الشك يوماً بأنها بكل سهولة لن تلتقي بمحمد مرة أخرى، ليصل إليها الخبر الأكيد بأن محمد معتقل في سجن طرة، لتزوره من بعدها، ويفرج عن محمد بعد أن قضى خمس سنوات في السجون المصرية.

العطاء من جديد

وتشتعل انتفاضة الأقصى الثانية، ويبدأ محمد مشواره الجهادي وكان أول من قارع الاحتلال وبدأ بإطلاق الرصاص والقذائف تجاه جنود الاحتلال ومغتصبات العدو الصهيوني، ليصاب محمد في مهمة جهادية تؤدي إلى بتر قدمه وإصابة في يديه، وتقطع أشلاء محمد أمام ناظر عيني والدته الخنساء أم رضوان وما ضعفت ولا تراجعت، وبكل صبر وقوة قالت له: يا محمد سبقتك أعضاؤك للجنة ، وأكمل درب أخوتك شرف وأشرف.

ومضت السنين ونذر الخنساء لم يكتمل بعد، وشاءت أقدار الله في الثالث من شهر رمضان الموافق 17-10-2004م، أن يكون الشهيد المهندس محمود الشيخ خليل  ثالث إخوانه الشهداء، ليكمل بدمه الزكي استحقاق نذر أمه لله، بعد أن استهدف منزل العائلة من قبل طائرات الغدر الصهيونية بصاروخ واحد، ليرتقي محمود شهيداً، ويكتب لأخيه الشهيد القائد الكبير محمد الشيخ خليل النجاة آنذاك، ووقفت أمام كاميرات الصحافة تردد "الحمد لله رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون، سلم ع إخوانك يا محمود وإن شاء الله سبقتني على الجنة".

بعد استشهاد المهندس محمود الشيخ خليل ظن الكثير أن الحاجة أم رضوان قد أكملت حق الله عليها وأوفت بنذرها لربها، وأن عهدها بأعراس الشهادة قد توقف بعد أن قدمت ثلاثة من أبنائها في سبيل الله تعالى لكن ما كانت تخبئه الأقدار أكبر وأعظم.

وكانت الخنساء أمام قدر جديد وعرس شهادة آخر برحيل ابنها الرابع، الشهيد القائد الكبير محمد الشيخ خليل الذي كان قد تعرض لأربع محاولات اغتيال باءت كلها بالفشل، وفي مساء يوم الأحد 25-9-2005م، تمكنت طائرات الاستطلاع الصهيونية من اغتيال القائد محمد الشيخ خليل بعد أن قصفت سيارته أثناء سيرها على الطريق الساحلي لمنطقة تل الهوا جنوب مدينة غزة، ما أدى إلى استشهاده ومرافقه القائد نصر برهوم، ووقفت من جديد أمام جثمان ابنها محمد تردد "الحمد لله رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون، سلم ع إخوانك يا محمد وإن شاء الله سبقتني على الجنة".

تجاوزت الأقدار كل حسابات البشر، وشقت طريقها إلى قلب الخنساء الصابرة سيدة نساء عصرها وزمانها، التي لم تضعف أمام سيل الابتلاءات، وضلت واقفة راسخة كالجبل الأشم، ثمة أحد منا لم يكن يعلم أن القدر لا زال مشرعاً أبوابه لشهيد خامس من بيت الشهادة والشهداء، ولكنه مدّ يده هذه المرة إلى الشهيد القائد أحمد الشيخ خليل مهندس الصواريخ التي ألهبت قلب الكيان وأثخنت فيه الجراح، ليرتقي هو أيضاً ويؤثر اللحاق بأخوته في عملية اغتيال صهيونية استهدفته برفقة عدد من المجاهدين برفح في تاريخ 29-10-2011م، ووقفت أمام جثمان ابنها أحمد تردد "الحمد لله رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون، سلم ع إخوانك يا أحمد وإن شاء الله سبقتني على الجنة، والله لو عندي 100 ابن لأقدمهم في سبيل الله".

وكما كانت تودع أبنائها الخمسة، وبقلب الجدة الحنونة وقفت أم رضوان أمام جثث أحفادها وتقول "الحمد لله، استشهدوا رجال وعلى درب أخوالكم".

نعم هذه هي خنساء الأمة التي قدمت خمسة من أبنائها شهداء شرف وأشرف ومحمود ومحمد وأحمد وثلاثة من أحفادها خالد ورائد الغنام والشهيد حسن أبو زيد  وزوج ابنتها الشهيد خالد عواجة قرابين على مذبح الإسلام وفلسطين.

مرضها وارتقائها

ومع تقدم الحاجة أم رضوان الشيخ خليل في السن، كانت عرضة للإصابة بأمراض الكبر، وكان جسدها بالكاد يستجيب للعلاجات والأدوية، في الشهور الأخيرة قبل وفاتها وارتقائها إلى بارئها كانت كسيرة نتيجة لوقوع مفاجئ أدى إلى التهاب في أحد مفاصلها، ضلت حبيسة لهذا الكسر الذي لم يستجب للعلاجات في مشافي القطاع، ما استدعى إلى تحويلها للعلاج في مصر، ولم يظهر عليها هناك أي استجابة للعلاج، فتقرر تحويلها للعلاج في بيروت، لكن قدر الله كان أسبق، وارتقت روحها الطاهرة عشية تجهيز إجراءات سفرها إلى لبنان.

غفت عين خنساء الأمة أم رضوان بعد (75 عاماً) من التعب والنصب، رحلت وخلفت في قلب كل من أحبها غصة لا يمكن أن تنمحي مهما مرت اللحظات وانقضت السنوات.. فسلاماً أم الرجال .. سلاماً .. وهنيئاً لك هذا العروج المبارك للقاء الأبناء والصحب والأحبة في الفردوس الأعلى إن شاء الله.

كلمات دلالية