ما بين النكبة وسيف القدس...... وعيٌ مقاومٌ متجدد

الساعة 09:36 م|20 مايو 2021

فلسطين اليوم | د. عبد الجواد العطار

      ﻭﺼﻑ فوزي ﺍلقاﻭﻗﺠﻲ ﻓﻲ ﻤﺫ كراته ﺤﺎلة ﺠﻴﺵ الإﻨﻘﺎﺫ عندما تسلم قيادته: "ﺒﺄﻨﻪ ﻻ ﻴﺸﺒﻪ ﺃﻱ ﺠﻴﺵ ﻓﻲ ﺍلعالم ﻓﻲ ﺘﺴﻠﻴﺤﻪ ﻭﺘﺠﻬﻴﺯﻩ ﻭﺘﻨﻅﻴﻤﻪ ﻭﻋﺩﺩﻩ،  وما كان يملكه من أسلحة وعدة مقارنة لما يملكه اليهود لا يساوي شيئاً"، رغم ذلك استطاع هذا الجيش أن يحقق انتصارات كبيرة على العصابات الصهيونية والدفاع عن الأراضي الفلسطينية من تغول العصابات الصهيونية، حتى أن كلوب باشا الانجليزي ﻗﺎﺌﺩ ﺍلقوات الأردنية ﻭﺍلقائد ﺍلعام للجيوش العربية ﺍلداخلة ﺇلى ﻓﻠﺴﻁﻴﻥ ﻴﻘﻭل: "لو ﺴﻤﺢ ﺍلعرب لقواتهم ﻓﻲ 15/5/1948م بإتمام ﺍلعمل ﻭﺍلمتابعة القتالية لنجحوا ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺠﺢ ﻓﻲ ﺍﺠﺘﻴﺎﺡ ﺍلدولة ﺍلصهيونية ﺍلجديدة".

كانت حرب 1948م دلالةً على مدى الضعف الذي وصل إليه العرب، فعصابات عسكرية صهيونية صغيرة استطاعت هزيمة الجيوش العربية، وكأن الحرب كانت مرسومة لحدود معروفة حددتها القوى العظمى، والدليل على ذلك عندما تقدمت الجيوش العربية نحو أراض غير مشمولة في قرار التقسيم للحدود العربية، تراجعت هذه الجيوش إلى الحدود التي رسمها قرار التقسيم. وكانت النتيجة سقوط أكثر من 78% من أراضي فلسطين في أيدي العصابات الصهيونية وتشريد أكثر من 80%من الشعب الفلسطيني وطرده من أرضه.

النكبة هنا ليست نكبة على المستوى العسكري والسياسي فقط، بل تعدت ذلك الى غرس ثقافة الهزيمة في الوعي الجمعي العربي، وأصبحت عقدة الجندي الصهيوني الذي لا يقهر هي الماثلة في الوعي العربي، ولذلك لا نستغرب مما أحدثته ثقافة الهزيمة التي كرست في العقل العربي وحتى الفلسطيني، الاستسلام لإدارة المحتل وعدم وجود أي مظهر من مظاهر مقاومة الاحتلال الإسرائيلي سوى من بعض المحاولات والتي كانت فلسطينية.

وجاءت النكسة عام 1967م لتعمق الجراح وليعيش الشعب الفلسطيني حياة الغربة والشتات والقتل والتشريد من جديد، وللتدلل على مدى  إفلاس الأنظمة العربية الحاكمة وعجزها عن تحرير فلسطين، للتترسخ حقيقة مفادها بأن تحقق النصر وحلم العودة لن يتحقق إلا بإعادة ثقافة النصر في الوعي الجمعي العربي والإسلامي.

أخذت حركات التحرر الوطني الفلسطيني المبادرة بإحياء الوعي  الجمعي العربي بثقافة النصر وتحقيق النصر على دولة  الاحتلال، وبالفعل استطاعت أن تحدث تغيراً مهماً في ترسيخ واستعادة روح القتال لتحرير فلسطين، غير أن هذه الروح بدأت تخبوا شيئاً فشيئاً، لربما يرجع ذالك الى المؤامرة المستمرة على تصفية القضية الفلسطينية من قبل قوى الاستعمار، وأيضاً من قبل الأنظمة العربية التابعة لها والتي سعت لطمس هذه الروح بإعلانها مبادرات سلام مع الاحتلال الإسرائيلي، وأيضاً من الجانب الفلسطيني بدأت هذه المبادرات بإعلان النقاط العشرة عام 1974م من جانب منظمة التحرير الفلسطينية، والتي عبرت عن تغير واضح في فكر الحركات المقاومة، وقبولها بمبادرات للحل السلمي مع الاحتلال الإسرائيلي، أعقب ذلك عقد اتفاقية كامب ديفيد بين مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1979م، وبذلك خسرت القضية الفلسطينية الدولة المركزية المناصرة للقضية الفلسطينية، ومن ثم تم طرد القوات الفلسطينية من دول الجوار مع فلسطين، الأردن ثم لبنان عام 1982م.         

ومثلت الفترة ما بين عام 1982م حتى عام 1987م تراجع للعمل المقاوم ضد الاحتلال حتى جاءت الانتفاضة الأولى عام 1987م، حيث أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية من جديد، غير أنها استغلت لتمرير مشروع جديد لتصفية القضية الفلسطينية (اتفاق أوسلو 1994م) والذي كان يهدف لإقامة حكم ذاتي فلسطيني محدود على أراضي فلسطينية تمثل اقل بكثير مما نصت عليها القرارات الدولية 242و338، وما بين عامي 1994-2006م ورغم اتفاق أوسلو شهدت هذه الفترة انتعاشة واضحة للعمل المقاوم حيث العمليات الاستشهادية، وإشعال انتفاضة النفق عام 1997م، ثم انتفاضة الأقصى عام 2000م والتي استطاع فيها الفلسطينيون بكل قواهم السياسية إحداث إرباك داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية والسياسية للاحتلال الإسرائيلي.

كما وأحدث الانقسام الفلسطيني عام 2007م أثر كبير في تراجع القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي ، وأما على الصعيد المحلي استفراد الاحتلال الإسرائيلي بالفلسطينيين وذلك بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، وفي قطاع غزه بتشديد الحصار وشنه ثلاثة حروب متتالية ما بين عامي 2008م- 2014م، وفي هذه الحروب استطاعت المقاومة الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة، إلا أنها استطاعت مراكمة القوة ما بين عامي 2014م-2021م، حتى جاء الموعد مع معركة سيف القدس عام 2021م والتي أسست لمرحلة جديدة من تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. 

ففي معركة سيف القدس برزت معطيات جديدة شكلت علامة فارقة في الوعي الجمعي العربي والإسلامي، والتي كان لها الأثر الواضح في إعادة توجيه بوصلة هذا الوعي الى حقيقة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وتجسد هذا الوعي برفض فكرة وجود الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين وأن وجوده على هذه الأرض يشكل خطر على الوجود الفلسطيني ويتعدى ذلك الخطر ليشمل الأمة العربية والإسلامية، لذلك كان لمعركة سيف القدس معطيات جديدة فرضتها على المشهد الفلسطيني و العربي والإسلامي ومنها:

1-    الالتفاف غير المسبوق حول المقاومة الفلسطينية، وكأن الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية كانت متعطشة لمن يحمل لواء التحرير والدفاع عن القدس، ويستطيع تشكيل معادلة توازن رعب مع الاحتلال تمنعه من تدنيس المقدسات ومواصلة فرض سياسياته داخل مدينة القدس، فالاحتلال الإسرائيلي الذي يمارس سياساته التهويدية لمدينة القدس والتي من ضمنها صبغ القدس بصبغة يهودية، وذلك من خلال طرد المقدسيين من حي الشيخ جراح في مدينة القدس، وغيرها من الممارسات التي يمارسها ضد المقدسيين، في ظل وضع عربي يهرول للتطبيع، ومنظومة دولية تسانده وتدعمه في تحقيق أهدافه وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، برزت المقاومة الفلسطينية لتكسير هذه المعادلة؛ ولتجعل من القدس هدفها الأول وعنوانها الرئيس للمعركة مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث كان أول فعلها العسكري توجيهها ضربة صاروخية لمدينة القدس تحمل في طياتها رسالة مؤازرة وصمود وتحدي للمقدسيين وهذا ما رأيناه من مشاعر الفرح والسرور التي انطلقت من أهلنا في القدس، وفي الضفة الغربية، وفي الداخل المحتل، عند رؤيتهم صواريخ المقاومة تضرب الاحتلال الإسرائيلي في مدينه القدس، وأيضاً رسالة للاحتلال الإسرائيلي أن القدس خط احمر لا يمكن الصمت على هذه الممارسات، وسيكون الثمن مكلف للاحتلال، وسيكون رد المقاومة حاضر.

2-    هبة الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام 1948م، والذي سعى الاحتلال الإسرائيلي لطمس هويته الفلسطينية، وحاول بكل الطرق خلال أكثر من ثلاثة وسبعون عاماً إذابته في المجتمع الإسرائيلي لكنه فشل في ذلك، وكان لفلسطيني الداخل المحتل السبق في المحافظة على الوعي الجمعي المقاوم والذي قدم فيه خيرة أبنائه شهداء، وخلد ذكرهم في  تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي في يوم الأرض بتاريخ 30/3/1976م، حيث شكل علامة فارقة في تاريخ شعبنا الفلسطيني وصراعه مع الاحتلال، فبعد رحلة الصمت التي استمرت ما يقرب من ثلاثون عاماً انتفض الفلسطينيون في الداخل المحتل وواجهوا جبروت هذا الاحتلال الذي سعى لمصادرة أراضيهم، وبالفعل من خلال الوعي الجمعي المقاوم للكل الفلسطيني في الداخل المحتل استطاعوا وأن يوقفوا المشاريع الإسرائيلية التي كانت تسعى لمصادرة أراضيهم.

اليوم ومن خلال معركة سيف القدس، وبعد ما يقرب من خمسة وأربعين عاماً من يوم الأرض، وثلاثة وسبعون عاماً من احتلال العصابات الصهيونية لفلسطين، خرج الفلسطينيون في الداخل المحتل في اللد وصفد وأم الفحم ويافا وحيفا ورهط وبئر السبع وفي كل القرى والمدن الفلسطينية يواجهون المحتل ويدافعون عن القدس، وكلهم ثقة بالمقاومة الفلسطينية التي هبت لنصرة قضية المسلمين الأولى القدس.

3-    وأما على الصعيد العربي والإسلامي شاهدنا الخروج الغير مسبوق من دول الجوار الفلسطيني، الأردن ولبنان، وكل الجماهير العربية والإسلامية، وحتى الكثير من المواقف الرسمية العربية والإسلامية، دعماً وتأييداً للمقاومة ودفاعها عن القدس، وما تقدمه المقاومة الفلسطينية من ثبات وإرادة في ضرب الاحتلال الصهيوني بالصواريخ وبكل ما تملكه من سلاح.

مشهد لم تعهده الجماهير العربية والإسلامية من قبل، فهذه المنطقة الصغيرة المحاصرة والمكلومة والمضطهدة قطاع غزة، استطاعت أن تراكم قوتها وتواجه المحتل رغم اختلال موازين القوه، فالاحتلال يمثل القوى الأولى في الشرق الأوسط بما يمتلكه من ترسانة كبيرة من الأسلحة المتقدمة، بينما المقاومة لا تمتلك غير الإرادة والصمود وبعض من الإمكانيات البسيطة من الأسلحة التي لا يمكن مقارنتها مع ترسانة الأسلحة الإسرائيلية.

كل ذلك غرس ثقافة جديدة للجماهير العربية والإسلامية (ثقافة الانتصار) على الاحتلال الإسرائيلي وبأننا نستطيع هزيمته، فالمقاومة الفلسطينية التي تدافع عن قضيه المسلمين الأولى القدس المحاصرة والمهددة بالتهويد، استطاعت أن تخلق توازن للقوة مع الاحتلال الإسرائيلي وجعلته يعيش في مأزق حقيقي، فكيف لو توحدت الجهود العربية والإسلامية في الدفاع عن القدس، بالتأكيد لن يصمد الاحتلال في تلك المواجهة.

وهذا بالفعل من أسمي الأهداف التي حققتها معركة سيف القدس باستعادة ثقافة الانتصار في الوعي الجمعي العربي والإسلامي، وثقتها بنفسها بأنها تستطيع المواجهة وتحقيق النصر.

4-    في المقابل أحدثت معركة سيف القدس شرخاً كبيراً في وعي المواطن الإسرائيلي وأرجعته الى المربع الأول بأنه محتل سرق الأرض، وبأن لا وجود له على أرض فلسطين، ويبحث له عن دوله تستقبله للعيش فيها، هذا ما أحدثته بالفعل المقاومة الفلسطينية في الوعي الصهيوني والذي شكل صدمة نفسية كبيرة للجمهور الصهيوني وإصابته بحالة من اليأس والخوف على مستقبل وجوده على هذه الأرض، إضافة لعدم ثقته بقيادته السياسية، واهتزاز ثقته بالمؤسسة العسكرية والتي كانت تمثل له درع الأمان لوجوده على أرض فلسطين، أضف إلى ذلك دخول فلسطينيو الداخل زخم المواجهة للدفاع عن القدس، مما أحدث لهم رعباً آخر وخوفهم على أنفسهم من أن يقتلوا على يد فلسطينيي الداخل، كوابيس مرعبة يعيشها الصهاينة ليلاً ونهاراً.

كما أن معركة سيف القدس أعادت فكره الهجرة المعاكسة للإسرائيليين وهذا ما تخشاه الحكومة الإسرائيلية، فالاستيطان وجلب اليهود إلى فلسطين هو من الأهداف الرئيسية للمنظمة الصهيونية والتي سخرت كل طاقاتها وإمكاناتها لتسهيل هجره اليهود من كل إنحاء العالم الى فلسطين، بالتأكيد هذا هدف كبير حققته معركة سيف القدس بإحداث شرخ واضح في الوعي الصهيوني بأنهم مجرد محتلون سيرحلون عن هذه الأرض.

5-    وأما على الصعيد الدولي فهذه المعركة أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية من جديد،  فعلى الصعيد الجماهيري خرجت الجماهير في معظم الدول الأجنبية معبرة عن سخطها للإجرام الذي تمارسه سلطات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، ودعت إلى حمايته من التغول الصهيوني، ومنحه حقوقه التي نصت عليها الشرعية الدولية، وأما على صعيد المؤسسات الرسمية فقد دعت الكثير من الدول الأجنبية لوقف العدوان على الشعب الفلسطيني وطرد المقدسيين من بيوتهم، ورغم التأييد المطلق للولايات المتحدة الأمريكية للاحتلال الإسرائيلي، ألا أنها دعت لوقف القتال، مع عدم ممارستها الضغط على دولة الاحتلال لوقف العدوان.

ختاماً معركة سيف القدس أعادت ثقافة المقاومة للوعي الجمعي العربي والإسلامي، وأصبحت هي الموجه الحقيقي لتحرير فلسطين، وهذا ما تحدث عنه الكثير من الكتاب الإسرائيليين بأن المقاومة الفلسطينية هي التي تقود اليوم الدول العربية والإسلامية وتوجهها للدفاع عن القدس، وهذا ما دفع وزير خارجية المملكة العربية السعودية بالدعوة إلى وقف القتال؛ لأن هذه المعركة تقوي الإرهاب حسب زعمه، وبالتالي هناك ثقافتان ثقافة الهزيمة والتي تريد أن ترسخها الكثير من الدول التي تهرول للتطبيع مع دولة الاحتلال وتحمي وجوده في المنطقة، وبين ثقافة المقاوم التي أحدثت النشوة بالانتصار في الوعي الجمعي العربي والإسلامي، وستسود هذه الثقافة التي أرجعت العربي والمسلم إلى مكانته الحقيقية في ريادة وقيادة الحضارات الإنسانية على مدار التاريخ والانتصار على -كل قوى الظلم والاستعمار، يقول المفكر سيد قطب: " والله إن النصر فوق الرؤوس ينتظر كلمة كن فيكون، فلا تشغلوا أنفسكم بموعد النصر، انشغلوا بموقعكم بين الحق والباطل"، ومقولة الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي: " نحن نذهب للقتال كما نذهب إلى الصلاة"، التي رسخت ثقافة القتال، فالقتال عبادة نتقرب بها إلى الله دفاعاً عن قلب الأمة النابض فلسطين ودرة تاجها القدس.  

كلمات دلالية