قدرة العرب الهائلة على صناعة الآلهة/ بقلم: وليد حلس

الساعة 10:36 ص|13 فبراير 2021

فلسطين اليوم

خاطب الله - عز وجل - الملائكة والأنبياء والمرسلين بأسمائهم ، والشواهد في القرآن الكريم كثيرة وأقوامهم كذلك الأمر ، فقال الله -تعالى- مخاطبا النبي - صلى الله عليه وسلم - :" يا أيها النبي " ، وقال - عز وجل - : " محمد رسول الله " ،  ومن آمن به خاطبه :" يا نبي الله ، ويا رسول الله " ، ومن لم يؤمن قال: " يا محمد " ، حتى وصل الحال بخير أمة اخرجت للناس ان تخاطب من هو أدنى منه مكانا وقدرا ، وأقل شأنا من الحكام والملوك ب( سيدي ، وجلالة ملك الملوك المعظم والمفدى حفظه الله ورعاه وادام الله ظل عرشه وسلطانه على الارض ) ، مع انه كان في صدر الاسلام يكنى بأمير المؤمنين وخليفة المسلمين فقط .

والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخاطب أصحابه بأسمائهم ، بلا تكليف ولا تكلف ، ليس تقليلا من شأنهم ، وهو القائل : ثلاث يصفِّين لك الود من أخيك ومنها : " أن تناديه بأحب الأسماء إليه " .

ومع تطور العصر كثرت الألقاب والمسميات ، وأصبح يقال : ( زعيم الأمة الأوحد ، وحامي الديار ، وسيادة صاحب المعالي - مع حضرة جنابه  لا يملك سيادة على بيته - ، وعطوفة صاحب السعادة - وهو في الحقيقة سبب رئيس في شقاء وتعاسة البلاد والعباد - ، وصاحب النيافة فضيلة وسماحة الشيخ الدكتور العلامة وحبر الأمة الفهّامة ، ...... إلخ ) ، وإن لم تنعته بهذه الألقاب والصفات اشتاط وتمعر وجهه غضبا ليس لانتهاك حرمة من حرمات الدين والوطن ؛ بل لنفسه التي لم يحسن تربيتها وتزكيتها حتى يفلح في الدارين ، وكلما زادت الالقاب والتزلف كلما قرب وأجزل بالعطايا والهدايا .

إن كثرة التبجيل بالإطراء في المدح للقادة والمسؤولين ليس من أبواب الاحترام والتقدير لهم ؛ بل هي مضرة وإساءة تجرنا نحو بداية الطامة الكبرى على طريق التأليه والتعظيم لمخلوق لا يملك ضرا ولا نفعا إلا بمشيئة الخالق ، وهي مدخل لجنون العظمة ، ومذلة وإهانة للمتسلقين والمتزلفين ، قال تعالى : "إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ"  ورحم الله الشاعر العربي المقهور على حال المسلمين بعد سقوط الأندلس حينما وصف الحال هناك ، قائلا:

مما يزهدني في أرض أندلس * أسماء معتمد فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها * كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

لم تجد هذه الألقاب والكنيات إلا في قواميسنا العربية فقط

لأنه على ما يبدو أن جنون العظمة والتأله وإطراء الذات ، والأنا ، وحب الجاه والسلطان متأصلة ومتجذرة في العقل والوجدان العربي وجيناته الوراثية ، بحكم بيئته وحياته البدائية ؛  حيث كانت صناعة الآلهة والأصنام وعبادتها في الجاهلية مصدر مهم من مصادر التجارة والارتزاق ، فكان أحدهم يصنع الآلهة من عجوة ، فإذا جاع آكلها واذا رأى ثعلبا يبول على صنمه يخاطبه فيقول : " بئس ربٌّ يبول الثعلبان عليه لو كنتَ ربا لمنعتَه من نفسك " ، وهو مدرك حقيقه ذلك ، حتى جاء الاسلام بكلمة التوحيد :" وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " ، ليحرره من عبادة الأصنام والعباد الى عبادة رب العباد ، ومن جور الاديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، هكذا اختصرها العربي البسيط ربعي بن عامر ؛ الذي دخل الإيمان قلبه وبكل ثقة وشموخ قالها  لملك ثاني أكبر قوة في العالم آنذاك رستم ملك الفرس .

ولقد حارب الإسلام أيضا عبودية الأشخاص لبعضهم البعض بعد تحريرهم من عبادة الاصنام ، حيث قال عمر - رضي الله عنه -: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ، ولقد أعزنا الله بالإسلام بعد ذل " وكان رضي الله عنه - يضرب بالدرة من يلحق بأُبي بن كعب وهو من كتاب الوحي ويقول لهم : " أنتم فتنه للمتبوع ومذلة للتابع " ، إلا أن هذا العقل لا زال إلى يومنا هذا مصرا على بقائه أسيرا لشهواته ورغباته ، ويرفض كل قوانين التحرر والخلاص من براثن العبودية والاستعباد!

كما قال الشهيد سيد قطب : " العربي يحب ويعشق حياة العبودية والاستعباد ، فإذا سقط السياط من يد جلاده ، أمسك بالسياط فبحث عن جلاد آخر!

 يحكى أن أحد الملوك استدعى الشعراء إلى قصره ، فصادفهم شاعر فقير بيده جرة فارغة كان متوجهاً بها إلى النهر ليملأها ، فرافق الشعراء إلى القصر لعلمه إكرام الملك للشعراء والإغداق عليهم ، فلما رأى الملك الرجل وعلى كتفه الجرة وثيابه رثه ، سأله : من أنت؟ وما حاجتك؟

فأنشد الفقير:

لما رأيتُ القوم شدوا رحالهم … إلى بحرك الطَّامي أتيتُ بجرتي

فقال الملك: املؤوا جرته ذهباً وفضةً .. هذا موروثنا ، وفي ذلك من القصص الكثير الكثير ، قد يكون أشهرها عطايا بعض حكام الدولة الأموية والعباسية للمادحين لا للكادحين ، حتى كان يُعطى للأصمعي وابن أبي حفص (بكل بيت شعر مدح عشرة آلاف درهم).

لقد أوصلنا هذا الحال إلى أن يتزلف ويتسلق المحكومون للحكام بجعلهم آلهة متجبرة ومتسلطة على شعوبها ، بدلا من أن نكون بطانة خير نعينهم على أعباء الحكم ونساعدهم في تقويم الاعوجاج.

يقول أحد الكتاب : ذهبت لبلد أوروبي لحضور مؤتمر ، وأثناء جلوسنا في إحدى المقاهي، إذا برجل يلهو ويلعب بصخب ، فقلت من هذا ؟ وما به ؟ وما يعرفه إلا القليل من الناس ، قالوا : هذا الرئيس السابق ، انتهت ولايته وأصبح يمارس حياته الاعتيادية كمواطن ، فقلت :" سبحان الله !! عندنا الزعيم السابق إما في السجن ، أو في المنفي أو تحت الأرض!! بعد أكثر من نصف قرن من تأليهه بوضع صورة في كل بيت وحارة وشارع ، وعلى المفترقات وفي مكاتب ومؤسسات الدولة والوزارات والمدارس والجامعات ،  وتُصنع له التماثيل والمجسمات في الميادين حتى يصبح إلها يعبد من دون الله ، وتخرج الجماهير الساذجة المغفلة وتبح حناجرها وتهتف بأعلى أصواتها بحيات الزعيم الأوحد والقائد الملهم، حتى يصبح طاغية ودكتاتور بجهلنا !! وقد يكون ليس كذلك ، كم منا يعرف من الناس البسطاء والفقراء حالفهم النصيب وصنعتهم الظروف فأصبحوا من علية القوم ومن ولاة الأمر ، كيف تغير حالهم بتزلف ونفاق المحكومين والمرؤوسين لهم!

هناك فرق كبير بين الاحترام والتقدير ، وبين التقديس والتأليه ، وهذا يتم بممارسة التربية السليمة في نظم وضبط العلاقة بين الحاكم ورعيته ، الذي جاء بالأصل لخدمتهم والسهر على راحتهم لا بالعكس . أيلي أمرنا ويغفل عنا ؟!!

لقد تفنّنّا نحن العرب منذ أن حكمنا الملك العضوض في صناعة الحاكم أو القائد الإله ، وإن كان تراثنا الحقيقي ومنابع علمنا تشير إلى خلاف ذلك ، فهذا يقول لأبي بكر -رضي الله عنه- والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا )، وهذه تقول لعمر - رضي الله عنه - : (قال تعالى :" ولو آتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً ") فقال أصابت امرأة وأخطأ عمر.

وبهذا الفهم أصبحنا سادة الأمم وقامت حضارة الإسلام من طنجة غربا ، إلى جاكرتا شرقا ، ومن غانا جنوبا إلى فرغانا شمالا ، حتى أضعنا هذا المجد التليد بالنعرات الكاذبة والصراعات الطائفية والعرقية الطاحنة ، وبالركض وراء الشهوات وهوى النفوس الطافحة بالشر والأمراض.

يقول الكاتب جعفر الوردي:

( تبدأ مرحلة الإقناع والتضليل لمجيء الرجل المنقذ المراد صنعه إلها ، فيظهر الشبح المصنوع إلها ، وهو مثقل من هذا العبء ، ويطلب منهم أن يتكرموا بإعفائه لأنها مسؤولية كبيرة ، إلا أن الجماهير تأبى بكل قدرتها وقوتها إلا أنت إلا أنت ..، فيأتي لاعقو أحذية الآلهة الكاذبة الخاطئة من أدعياء العلم والدين ، فيجيشون كل الأحاديث والآيات والمنامات، ويلوون أعناقها لتنطبق على هدية السماء الخالدة ، كـعبارات الحاكم ظل الله في الأرض ، والخروج عليه كبيرة من الكبائر ولو أخذ مالك وجلد ظهرك )!! وطبعا حفظا للقوانين والأعراف الدولية لن يتقدم للألوهية بدون انتخاب وديمقراطية، فالآلهة لا تحب الظلم ، ولا تقترفه ، فيرشح نفسه ، والكل جازم بأنه هو الناجح والفائز ......) . انتهى.

 وهكذا يستمر مسلسل الاستغباء والاستحمار بتسويق الأوهام ، وبممارسة الكذب والخداع لدغدغة عواطف الشعوب البسيطة، وتضليل الجماهير المغلوبة على أمرها.

أرأيتم كيف نحن من نصنع هذه الآلهة الطاغوتية والزعامات الكرتونية والحكام والقادة والمسؤولين الفاسدين من اللصوص والمرتزقة ، وتزهق أرواحنا للدفاع عنهم وحمايتهم وحماية عروشهم وكروشهم من السقوط ؟؟!! وبعد ذلك نأتي ونقول فلتسقط أنظمة الحكم الظالمة والفاسدة ؛ والتي صنعناها او شاركنا في صناعتها بأيدينا ومن بين ظهرانينا من أبناء جلدتنا عبر الجهل تارة والحماقة والتخلف تارة أخرى .