خبر عائلة أبو هربيد في غزة .. الاحتلال أحال منزلهم إلى ركام وسكانه إلى أشلاء

الساعة 08:27 ص|14 مارس 2009

ناهد تروي قصة أسرة تعيش بين أحزان الموت وآمال الحياة

عائلة أبو هربيد في غزة .. الاحتلال أحال منزلهم إلى ركام وسكانه إلى أشلاء

 

فلسطين اليوم - غزة

كل شيء في المنزل ليس على ما يرام، كأن عجلة الحياة تسمّرت عقب رحيل محمود وسقوط أخوته جرحى بشظايا الصواريخ الإسرائيلية.

 

الآن أصبح إحساس ناهد بما حولها كمن "حوّل الدفق إلى قطرات" كل شيء مختصر بلا معنى، شقيقها شهيد و إخوتها مبتوري الأطراف وأمها مكتومة في حزنها وأبوها خارج الوطن حتى منزل الأسرة خرّ صريعا من قصف الطائرات.

 

كان محمود واحدا من بين مئات الشهداء الذين سقطوا في أول أيام الحرب على غزة،  بالنسبة له ولزملائه كان يوما عاديا ولكن بالنسبة لمن شاهد أشلائهم تتطاير بعد ساعات أدرك أنها البداية الصعبة.

 

بخطوات رتيبة ذهب محمود أبو هربيد (28 عاما) إلى عمله صباح السبت 27 كانون أول (ديسمبر) 2008 في أحد المقار الأمنية بغزة ألقى التحية على زوجته التي ارتبط بها عقب استشهاد زميله الذي كان قد تزوج منها، وقبّل أبناءه الستة وأوصد الباب.

 

دارت بينه وبين زملائه في العمل أحاديث عادية، تحدثوا عن تقسيم المناوبة وقضايا العمل، ثم تطرقوا للحصار شغل الناس الشاغل في غزة.

 

في الخارج كان الناس على حالهم يتطلعون إلى فك الحصار وتأمين حياتهم، منهم من ذهب إلى عمله وفتح متجره، ومنهم من مشى في الشارع في يوم عادي من أيام الحصار.

 

بعد الحادية عشر صباحا قصفت أكثر من 60 طائرة إسرائيلية عشرات المقار الأمنية في القطاع، و في أقل من دقيقة تحول حلم الشباب والوطن إلى لحم متفحم ودماء متدفقة.

 

خفق قلب أم محمود مع صوت الانفجارات مجهولة المصدر، كما تساءل الأب عن هذا الصوت المرعب، أما ابنتهم ناهد فكانت تخمن ماهية تلك الأصوات و الانفجارات، وبسبب صعوبة التعرف على هوية مئات الشهداء، تسلل الخبر إلى أسرة محمود تأكيدا لاستشهاده.

 

الآن باستطاعة شريط العمر أن يمر بهدوء، قفز إلى ذهن والدته يوم الجمعة قبل يوم من الغارات، تقول انتظرته في ذلك اليوم، كما اعتادت نهاية كل أسبوع لتناول طعام الغذاء برفقة عائلته مضيفة "انتظرته كثيرا لكنه لم يأتي لزيارتي، شيئا غريبا كان يوسوس لي أن ابني حدث له شيء، فقمت بالاتصال على هاتفه النقال فلم تكن هناك إجابة، قلب الأم دليلها شعرت بغصة كبيرة في قلبي، وبعد أكثر من ساعة ونصف من محاولاتي قام بالرد، كانت المرة الأخيرة التي أتحدث فيها إليه قبل استشهاده بيوم".

 

وتتابع "شعرت باشتياق كبير إليه، واشتقت أكثر إلى مداعبته لي، استمرت مكالمتي معه عشر دقائق واعتذر لي انه لن يأتي إلى زيارتي بسبب سوء الأحوال الجوية والبرد القارص، وأنه يخاف على أطفاله أن يصابوا بأي مرض".

 

تحادث الأم نفسها قائلة "هل حقاً لن تعود ثانية يا محمود؟!"، ومنذ رحيله دأبت الأم تردد عبارات الصبر والسلوان وهي تبكي بحرقة وألم "إنا لله و إنا إليه راجعون" . تسلي نفسها كثيرا وتقول "لقد تعب كثيرا في حياته وحان الوقت كي يستريح من عناء المطاردة" كانت رحلته طويلة ومهامه شاقة، رغم عمره الذي لم يتجاوز 28 عاما، الآن آن له أن يمد قدميه ويلصق ظهره بالأرض ويغمض عينيه وينام في رحمه الله".

 

وتذكر الأم أن ابنها تمنى الشهادة فنالها، "فهو كبقية الشهداء رفع رأس العائلة في السماء - تحبس دموعها - وتردد هذا أمر الله وقدرنا، عاش شريفاً ومات شريفاً" .

 

ولم يكن خبر استشهاد محمود بالنسبة لشقيقته ناهد شيئا عاديا لقد فتشت عن قدراتها للتماسك أمام جثمانه المسجى ولكنها فشلت، فانفجرت باكية في وداعه، "محمود شقيقي قتل غدرا وهو يرتدي بزة الواجب مع مئات الزملاء الأبرياء".

 

تقول ناهد (24 عاما) أنها حزنت حزن الدهر على رحيل شقيقها مضيفة "هو الأب لستة أولاد وزوج لأرملة شهيد من قبله تزوجها تضحية وانتماء لعشق الشهادة، فعله سنة الكثيرين من شباب فلسطين الذين يتزوجون من نساء الشهداء كمكافأة وعرفان لهن على صبرهن وتضحيتهن وهذا الشباب النبيل في دمه يجري عشق لا حدود له بلقاء الله عز وجل وعلى ذكر الشهادة".

 

إلا أن رحيل محمود، لم يكن نهاية الأحزان لعائلة أبوهربيد، فبعد عشرة أيام من الحرب والقصف حضرت ضيفة ثقيلة للمكان يسمونها في قطاع غزة باسم "الزنانة" وهي طائرة بدون طيار، أطلقت صواريخها تجاه منزل عائلة أبوهربيد في بيت حانون شمال قطاع غزة.

 

والآن مرة أخرى سيتكرر الحزن والمصاب ولكن بصورة أوسع فقد سقطت الصواريخ على باب المنزل فدمرته وقتلت ابن عم ناهد، محمد (21 عاما)، وجرحت والده أكرم (45 عاما)، وبترت سيقان شقيقيها إياد (33 عاما)، ورافع (27 عاما)، أما شقيقها الأصغر إيهاب (14 عاما) فقد نهشت بطنه الطري وغارت شظايا الصاروخ داخله، للتحول أجسادهم إلى خليط من الأشلاء والدماء والركام.

 

مشهد صنعته الحرب القاسية على غزة، لم تصمد ناهد واقفة، لحم أشقاءها في ساحة الدار، وصراخهم يعلوا ولا مغيث لهم من طائرات الموت.

 

كان صراخهم يعلو وأصوات القصف تعلو في أماكن أخرى فتختصر حكايات لأبرياء وأطفال مثلهم  فالانفجارات تصهر البيوت وتحرق الأشجار وعمال الإسعاف في مهمة مستحيلة.

 

استرجعت ناهد من زجاج غرفتها صورة محمود الذي استشهد قبل أيام ، شعرت بالصدمة من المشهد الدموي سقطت في غيبوبة موحشة، فاقت منها بماء بارد رشه والدها على وجهها حيث طالبها أهل البيت بالصبر، و إسعاف من سقطوا.

 

اتسعت بقعة الدم في المكان، تخطي الجميع حزنهم وعضوا على  قلوبهم لإنقاذ المصابين، لحظات من الصمت تخللها نظرة وداع،  كان الكل يجاهد للصمود .

 

توزعت الأشلاء في المكان، هنا أصبع لقدم و هذه نصف ساق محروقة بينما انشغل أحد المسعفين بجمع الأشلاء في كيس بلاستيكي وهو يبكي.

 

أما إيهاب  فلم تعرفه ناهد ولا أمها من سواد لحمه، ألقى رجل الإسعاف عليه بطانية مبللة وحمله إلى سيارة الإسعاف، أما شقيقه الثالث فقد كان بعيدا نسبيا عن القصف، حيث أتته شظية فكسرت ساقه اليمنى ورمته بجوار الآخرين، استمر القصف،صاروخان سقطا بجوار أربعة شبان قتل أحدهم وأصاب ثلاثة.

 

حفظت ناهد اللحظة الأولى لاستشهاد محمود، رمت كل حزنها عليه، وعندما أتت لتبكي على إخوتها الثلاثة وعمها وابنه، فقدت مفاتيح الدمع فجفت العين.