ليلة مرعبة في مستشفى "الدرة" بمدينة غزة!

الساعة 11:48 ص|27 ديسمبر 2020

فلسطين اليوم

لم يمنع القصف وجود وليدٍ بدأ حياته منذ 52 يومًا؛ وطفلة لم يزد عمرها على أحد عشر شهرًا ستموت حتمًا إن انقطع عنها الأكسجين ثانية واحدة فقط، ورضيعة تعاني تشنجات حادة يؤثر الارتجاج على دماغها، يرقدون في حالة خطرة بمستشفى الشهيد "محمد الدرة" للأطفال في مدينة غزة، كل ذلك لم تفهمه طائرات الاحتلال الحربية وهي تلقي ما في بطونها من قذائف وصواريخ على بعد مسافة قريبة من المشفى الذي اهتزت جدرانه وكأنها تحركت من مكانها، وتساقط زجاج نوافذه على أسرَّة المرضى الذين عاشوا لحظات "مرعبة" تجددت معها ذكرياتهم مع حروبٍ شنها الاحتلال على غزة سابقًا.

 زجاج باب صالة الاستقبال في المشفى متهشم ومتناثر على الأرض، الممرضون والأطباء وعمال النظافة في المشفى يحاولون إزالة زجاج النوافذ المتطاير من أرضية الممرات الداخلية بين الأقسام، المرضى بعضهم غادر، وبعضٌ (من أصحاب الحالات الخطرة) بقي مرغمًا ترافقه مخاوفه ومشاهد القصف تتكرر في داخله، في غرفة العناية المركزة يواصل الأطباء -ومنهم د. مصعب فروانة- الاطمئنان على صحة ثلاثة أطفال لا يعون ما جرى، لكن أرواحهم كانت على أهبة الاستعداد لمغادرة أجسادهم، لو حدث أي خلل بأجهزة التنفس، نتيجة بشاعة القصف الذي لم يرعوِ رغم وجود مشفى بالمكان القريب المستهدف.

ضعف بلا أي اعتبار يقف الطبيب فروانة أمام الطفل الرضيع محمد الذي لم يزد عمره على اثنين وخمسين يومًا، يتأبط رزمة أوراق طبية، يحاول تخفيف أنات وجع طفل تحتاج أن تقرب أذنك من فمه كي تتلصص على صوته الخافت، لكن ضعفه هذا ليس له أي اعتبار عند طائرات الاحتلال، يشرح الطبيب حالته وهو يقف قبالة سرير الطفل الممدد داخل حضانة وموصول بأجهزة تنفس تغطي كل وجهه، ومحاليل تمتد بيده الصغيرة: "لدينا عدة أطفال بعضهم موصول بجهاز تنفس صناعي، وبعضٌ آخر بأجهزة الأكسجين، الطفل محمد وصل إلى المشفى منذ عشرين يومًا، يعاني التهابات بالدم وتسممًا وسيولة مرتفعة وبعض المشاكل الوراثية، نتيجة القصف قطع بعض الأكسجين عنه، بسبب قوة الصواريخ واندفاع الهواء، فابتعدت أجهزة وصل الأكسجين عنه (الماسك)".

"هو دون قصف أي خلل قد يحدث بالأكسجين يهدد حياته لخطورة حالته"، يسير بضع خطوات إلى الأمام، يتوقف أمام طفلة تعبر أجهزة التنفس بداخل فمها، ممددة معصوبة العينين لا يتحرك منها سوى أنفاسها؛ هي على الحال ذاته منذ ستة أشهر، بينما يفتح ملفها الطبي قال وهو على الهيئة ذاتها: "الطفلة ريتال (11 شهرًا) لا تستطيع أخذ النفس وحدها إلا من طريق جهاز التنفس والعناية المكثفة، وإن ارتفع الأكسجين وتوقف الجهاز بسبب القصف فستموت حتمًا".

يشير نحو السرير الثالث، قائلًا: "اسم الطفلة حنان (سنة وثلاثة أشهر) تعاني تشنجات متكررة، لكن –يا للأسف– دخلت المشفى قبل القصف بساعة، والذين يعانون تشنجات أي مؤثرات خارجية مثل القصف تضاعف حالتهم وقد تؤثر على دماغهم". الأطباء والممرضون الذين كانوا لحظة القصف الساعة الواحدة والنصف فجر أمس السبت، أعادهم المشهد إلى الحروب العدوانية السابقة، ينقل فروانة الذي حضر للمشفى صباحًا ما رواه له زملاء الفريق المسائي: "تذكروا العدوان الإسرائيلي سنة 2014م، إذ قصف مستشفى "الدرة"، وعاشوا لحظات من الخوف والرعب، المشهد مخيف جدًّا، بعضهم قال لي: شعرت وكأن الجدران تحركت من مكانها، أو أن زلزالًا ضرب المنطقة".

صاروخ إسرائيلي ارتجت معه جدران المشفى أفزع إيناس أبو جبة بعدما اقتحم صوته حرمة المشفى، وابتلعت الجدران صوت بكاء طفلها بلال (عام ونصف) الذي أيقظه صوت القصف في الضربة الثانية والثالثة والرابعة، فتحت النافذة لترى الأجواء مغبرة والدخان يملأ الأجواء.  في الطابق الثاني بمستشفى الدرة تحاول إيناس إلهاء طفلها وجعله ينسى المشهد السابق، هذه السيدة التي تسكن شرق حي الشجاعية وعاشت لحظات مؤلمة في العدوان الإسرائيلي في 2014م في كل مرة تعيش على وقع خوف مختلف؛ فوقع "الصدمات متفرقات يكون أكبر أحيانًا من وقعها مرة واحدة"، أما وقع الصدمة الأخيرة فما زال جاثمًا على ملامح طفلها.

من نافذة المشفى إلى عدوان الاحتلال "بقيت بغرفتي ولم أخرج مدة ساعتين أحاول تهدئة طفلي المرتعب، سقط طلاء الجدران على السرير، وشعرت كأن قلبي سقط أرضًا وارتد إلي، فنظرت تجاه ابني وحضنته بين ذراعي، أما المشفى فكان يعيش حالة إرباك، في اللحظات الأولى الجميع كان خائفًا: مرضى، وممرضون، وأطباء"، مرت لحظات أخرى حتى رن هاتفها، تكمل وهي تجلس على كرسي تتسابق المشاهد في صوتها: "اتصل زوجي خائفًا بعدما سمع عن قصف بقرب المشفى، لكني طمأنته أنني بخير، رغم أني كنت داخل غرفة مظلمة بعدما حدث انقطاع للتيار الكهربائي لحظات"، قالتها بضحكة ممزوجة بمرارة المشهد طارت بها إلى موقف آخر: "حينما فتحت النافذة على صوت الصاروخ، تذكرت يوم أن فتحت نافذة منزلنا ورأيت الصواريخ تتساقط في الحرب العدوانية".

عبر السماعة الخارجية، لهاتف إحدى الممرضات، أدلت الحكيمة آمنة طلال عبيد شهادتها، بصوت ممتلئ بكل معاني التعب والخوف في آن واحد: "كنت أقف بجانب النافذة أجهز العلاج للمرضى، قبل أن يحدث القصف ويتطاير الزجاج بقربي، وحمدت الله أني نجوت ولم يسقط الزجاج علي".

"حدثت ضجة وصراخ من الأمهات والأطفال المرضى، الذين جاؤوا إلي وتجمعنا بغرفة واحدة لنطمئن"، بعد ما حدث عادت الحكيمة لمنزلها تحمل معها مشهدًا لن تنساه.

القصف الذي زار مسامع المرضى شتت نعاس أم أحمد علوان، فقامت فزعة تتعالى من حولها صرخات الأمهات الأخريات، "شعرت وكأنَّ عروقي تجمدت، حملت طفلي عمر (10 سنوات) على ثقل وزنه، لأن سريره أسفل النافذة وخرجت من الغرفة، شعرت وكأن المشفى يميل شمالًا ويمينًا"، هذه السيدة الأربعينية لم تذق طعمًا للنوم منذ القصف، لا يزال الإجهاد يترك بصمته على عينيها الخضراوين كلون منديلها، وهي تحرك المشهد الذي عاشته مرة أخرى: "كل أم حملت طفلها وخرجت تركض به".

على سرير المشفى يتمدد عمر بين أوجاعه، التي زادها وجع القصف، بصوت تملؤه براءة لم يرحمها الاحتلال ووجه مصفر من شدة الإعياء يقول بعفوية طفولية: "خفت كتير لما صحيت من النوم، فرحت على حضن ماما، وحملتني وطلعت برا".

مدير المشفى د. ماجد حمادة الذي كان يعاين الأضرار ويتفقد المرضى يقول: "إن زجاج أقسام حساسة -منها العناية المركزة- طالها التحطم، تضم مرضى تصنف حالتهم حرجة ويحتاجون لأجهزة تنفس صناعي وتنظيم العلاج بدقة، وهم يرقدون ما بين الحياة والموت، فأي انقطاع للتيار الكهرباء يعني فقدان أحد المرضى، وكان ذلك سيحدث من شدة القصف، وكذلك الأقسام التي كسر زجاج نوافذها، فلو سقط على طفل للحقت أضرار بالغة به، فضلًا عن حالة الهلع والفزع الشديدين، التي أخرجت الناس من النوم والسكون، إذ ارتجت مدينة غزة كلها".

 بحسب إفادة مدير المشفى : كان بالمشفى قرابة  15-20 طفلًا مريضًا وأمهاتهم والطواقم الطبية، يضيف: "نعمل بحالة طوارئ، ونحاول ألا نطيل مكوث الأطفال منعًا لانتقال العدوى، فيتلقى الطفل العلاج ويغادر باستثناء الذين يحتاجون إلى علاج وريدي".

المصدر: صحيفة فلسطين 

كلمات دلالية