جواد الحمد
(مدير مركز دراسات الشرق الأوسط ـــ عمان)
عملية التحوّل في التطبيع مع إسرائيل كظاهرة جديدة تشكّل هذه العملية بحد ذاتها ظاهرة مستجدة على المشهد السياسي في المنطقة، ورغم التسريب المستمر منذ سنوات عن علاقات سرية ولقاءات ومشاركات علنية لقيادات ورياضيين وفنانين إسرائيليين في هذه الدول، غير أن العملية المتكاملة قد بدأت بإعلان المبادئ في واشنطن بين كل من الإمارات وإسرائيل برعاية أميركية في 13 آب (أغسطس) 2020 وبتوقيعه بينهما، مع انضمام البحرين كذلك يوم الثلاثاء 15 أيلول (سبتمبر).
ولذلك، من المهم فهم ومناقشة دوافع هذه الأطراف التي أعلنتها والتي لم تعلنها وفق رؤية هذا التحليل.
الدوافع العربية
أعلنت كل من الإمارات والبحرين والسودان عن جزء من دوافعها التي تقف خلف هذا التسارع والحماسة بتوقيع اتفاقات وتنفيذ عمليات التطبيع غير المسبوق من أي دولة عربية، حتى التي وقّعت معاهدات سلام مثل مصر والأردن مع إسرائيل، ناهيك عن أنه لا يشابه أي تطبيع لاستئناف علاقات عربية - عربية قُطعت سابقاً حسب التاريخ السياسي العربي، وكما قال أحدهم: من المفهوم الانتقال من حالة الحرب مع أي عدو (إن وجدت) إلى حالة السلام، لكن ليس من المفهوم الانتقال من حالة العداء الديني والسياسي والمقاطعة إلى حالة العشق والحب.
ومن أهمّ ما أعلنته هذه الدول:
- رغبتها في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وتعزيز موقعها وتنافسيتها فيها.
- مواجهة التحديات الإستراتيجية، وحماية المصالح الوطنية.
- المساهمة في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، بما يحقق السلام الدائم.
- تحقيق السلام الشامل في منطقة الشرق الأوسط، وتحقيق تطلعات شعوبها
بالأمن والاستقرار والازدهار والنماء بمختلف دياناتهم.
- فتح المجال لإعفاء السودان من ديونها التي تبلغ 60 مليار دولار، والمساعدة على استعادة السودان حصانته السيادية، وفتح المجال لإدماجه في المجتمع الدولي، والاستفادة من الاستثمارات الإقليمية والدولية والتكنولوجية، والمساعدة في بناء المؤسسات الوطنية.
ويعتقد هذا التحليل أن ثمّة عوامل ودوافع أخرى كانت تقف وراء هذه الحماسة والاندفاع غير المسبوق ولا الموزون في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وأهمها:
- الاستجابة للضغوط الأميركية والخوف من غضبة إدارة الرئيس ترمب التي تحتاج إلى إنجازات سياسية في الحملة الانتخابية.
- الرغبة في تأكيد تناسق سياسات هذه الحكومات مع السياسة الأميركية بخصوص العلاقة مع إسرائيل، وأنها لا تقف في الخط المعادي لها.
- السعي لتوفير غطاء أميركي إسرائيلي لحماية حكومات الخليج مما يقال عنه الخطر الإيراني باعتباره خطراً مشتركاً عليها وعلى إسرائيل.
- استثمار التحالف الإقليمي مع إسرائيل لمواجهة تنامي القوة والنفوذ التركيين في المنطقة.
- تطوير دور هذه الدول في المنطقة في ظلّ تنامي دور قوى إقليمية وعربية أخرى صاعدة ربما تزاحمها المكانة، فأرادت أن تضمن الدعم الأميركي لها على حساب الآخرين.
- السعي للتماهي مع المصالح الاقتصادية للنخبة الحاكمة ومجتمع رجال الأعمال الإسرائيلي والأميركي.
- التخلّص من مسؤوليتها تجاه دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته ضد الاحتلال محليّاً وإقليميّاً وعربيّاً ودوليّاً، وكذلك على صعيد الدعمين المالي أو السياسي. الدوافع الإسرائيلية
- التخلص من عقدة العامل الفلسطيني في صناعة السلام مع العرب وإنهاء المبادرة العربية وعزل الشق الفلسطيني في العلاقات العربية مع إسرائيل. كسر العزلة التي تعاني منها إسرائيل في المنطقة، والتي لم تسهم اتفاقات السلام مع كل من مصر والأردن بالتخفيف منها.
- الانتقال من علاقات السلام مقابل الأرض إلى علاقات السلام مقابل السلام، أو من السلام السياسي بثمنه اللازم إلى السلام الاقتصادي والسياحي الذي يدرّ على إسرائيل منافع ومكاسب، ويهمّش الفلسطينيين ومطالبهم.
- إضعاف الدعم لأي تحرك فلسطيني عسكري أو شعبي أو سياسي أو قانوني ضدّ الاحتلال الإسرائيلي من قبل الشعب الفلسطيني، بالتحييد التامّ لعدد من الدول العربية.
- استخدام علاقات إسرائيل بهذه الدول للضغط على الفلسطينيين وإفقادهم الأمل بتحقيق أهدافهم وطموحهم، والتحوّل نحو القبول بالأمر الواقع الإسرائيلي، بما فيه ضمّ القدس للسيادة الإسرائيلية وإعلانها عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل.
- تعزيز تحالفات إسرائيل ضدّ إيران وسياساتها الطامحة في الإقليم، بوصفها عدوّاً مشتركاً لها ولهذه الدول حسب تقديرها.
- اختراق العالم العربي وموقفه الموحد من مفهوم السلام الشامل، واعتبار هذا التطبيع مدخلاً جديداً لاختراق آسيا وأفريقيا والعالم الإسلامي بما يحقق محاصرة القضية الفلسطينية وإفقادها أهميتها العربية والدولية.
- إنقاذ الاقتصاد الإسرائيلي من الأزمات التي يمر بها عبر الاستثمارات الخليجية في إسرائيل من جهة، واستثمارات إسرائيل في السودان ومن ثم أفريقيا من جهة أخرى.
- استثمار توجهات اليمين الأميركي الحاكم في عهد ترمب لصالح اليمين الإسرائيلي الحاكم في إسرائيل قبل تحوّل الأوضاع في الانتخابات الأميركية. استخدام السودان كبوابة عبور آمن إلى القارة الأفريقية التي تقاوم النفوذ الإسرائيلي فيها.
الدوافع الأميركية
- دعم الحظوظ الانتخابية للرئيس ترمب في الانتخابات الأميركية 2020.
- خدمة نظريات وأيديولوجيات اليمين المسيحي الصهيوني في الولايات المتحدة بحقّ إسرائيل الطبيعي في الوجود، وبعدم اعتبار الحقوق الفلسطينية في أي جزء من الأرض.
- عزل الموقف الفلسطيني والضغط عليه ليستسلم للمفاوضات وفق «صفقة القرن» التي أعلن عنها الرئيس ترمب.
- دعم الإستراتيجية الأميركية لعزل إيران والضغط عليها بتشكيل تحالفات إقليمية في محيطها الحيوي، كما بين دول خليجية وإسرائيل مثلاً.
- إنهاء الحالتين الإسلامية والقومية في بنية السياسة السودانية الممانعة نسبياً، وبناء ثقافة المصالح الخاصة الشخصية ومصالح النخبة الحاكمة والطبقية لتتساوق مع السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، واستثمار ثروات السودان الطبيعية من قبل الشركات الأميركية والإسرائيلية.
أهم ملامح ظاهرة التطبيع وإشكالاتها
لهذه العملية التطبيعية المندفعة بحماسة ملامح أساسية أهمها أنها تمتّ بعيداً عن الموقف العربي الموحد وبمخالفة لقرارات جامعة الدول العربية والقمم العربية السابقة، وأنها تُرسم من قبل فريق أميركي متصهين لمصلحة إسرائيل بالكامل، وأنها تتسارع في التنفيذ لبنودها المختلفة بطريقة دراماتيكية تمثل انهياراً لناطحات سحاب وتبعثرها في الهواء، وأنها تتم بعيداً عن أي اعتبار للحقوق الفلسطينية أو الموقف الفلسطيني، بل إنها لم تتناول المصالح والحقوق الفلسطينية إلا بكلمات غير ذات معنى.
ولها كذلك مجموعة من الإشكالات، وأهمها انقسام الموقف العربي، وعزل الموقف الفلسطيني وإضعافه، وإفقاد القضية الفلسطينية الدعمَ الخليجي السياسي والإعلامي التقليدي، وإحداث شرخ سياسي جديد بين دول مجلس التعاون الخليجي، وأنها تخدم طرفاً واحداً أساساً وهو إسرائيل، فيما تقدّم وعوداً مغلّفة بمكاسب اقتصادية وسياسية وأمنية للأطراف الأخرى، وأنها تسمح بتشكيل تواجد أمني وعسكري واقتصادي خطير في خاصرة العالم العربي وفي محيطه الحيوي أفريقياً، كما توتّر علاقات العرب مع كل من إيران وتركيا بالتحالف ضدّهما مع إسرائيل، وتوفر لإسرائيل منصة تجسسية على شواطئ الخليج في مواجهة إيران.
التداعيات على الأمن العربي والقضية الفلسطينية
تخلق عملية التطبيع الجارية مع إسرائيل مجموعة من الإشكالات للأمن العربي وللعلاقات العربية- العربية وللقضية الفلسطينية في وقت واحد على الصعيد الأمني والاقتصادي والدبلوماسي والسياسي والقانوني والثقافي والفكري، كما أنها تقضي تماماً على المبادرة العربية للسلام. ومن أهم هذه التداعيات على الأمن العربي:
على الصعيد السياسي: يتوقع أن تؤدي إلى مزيد من التعنت الإسرائيلي تجاه شروط التسوية، وأن تساعد على مزيد من تحييد القضية الفلسطينية كمحدد للعلاقات العربية - الإسرائيلية، وأن تدفع النظام العربي إلى مزيد من الانقسامات والانهيارات بصورة أكبر مما هي عليه الآن. إضافة إلى تنامي إشكالية تحديد العدو أو الصديق أو الخصم والمنافس في الخلافات العربية سياسيّاً وفكريّاً وثقافيّاً، وفقدان دول الثقل السياسي العربي لمركزها وثقلها السياسي ودورها الإستراتيجي (العراق، سوريا، مصر، السعودية...)، وحلول دول أخرى متحالفة مع اليمين الإسرائيلي واليمين الأميركي مكانها، وكذلك إفقاد الجانب الفلسطيني القدرة على التأثير في مواقف دول العالم بسبب افتقاره للأدوات والمصالح التي يمكن تقديمها، فيما كانت العلاقة مع العرب والدول الإسلامية مكسباً لأي دولة تتبنى الموقف العربي التصويتي وتعترف بالدولة الفلسطينية.
على الصعيد الأمني والعسكري: تؤشر التحولات الجارية بشكل واضح إلى أن دولاً عربية أصبحت ترى في إيران، وليس إسرائيل، الخطر الأكبر على أمنها الوطني، ومن ثَمّ باتت مستعدة للتحالف العسكري مع إسرائيل، ما يشكّل انقلاباً كاملاً للمعادلات العسكرية والأمنية والإستراتيجية في المنطقة، خاصة أن إيران ستجد في هذه الخطوة استفزازاً كبيراً لها، ما يفتح المجال لزيادة التوتر بين إيران والدول العربية.
على الصعيد الاقتصادي: يتوقع أن تكون للتحولات الجارية تداعيات على النظام الاقتصادي العربي ككل، وعلى الاقتصاد الخليجي بصفة خاصة، لأن قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على اختراق بنى وهياكل اقتصاد الدول المطبّعة أكبر بكثير من قدرة اقتصاد هذه الدول على اختراق بنى وهياكل الاقتصاد الإسرائيلي، ولأنّ تنامي العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل وهذه الدول يمكن أن يشكّل عقبة أو يضع المزيد من العراقيل أمام عملية التكامل الاقتصادي في العالم العربي.
على الصعيد الثقافي والفكري والأيديولوجي: يمكن للتحولات الجارية أن تؤثر تأثيراً سلبيّاً كبيراً على النسق العَقَائدي للنظام العربي، وقد تضرب فكرة العروبة في الصميم وتؤدي إلى تهميشها، خاصة مع ما هيّأته عملية التطبيع هذه من بيئة للترويج الإعلامي لأفكار تناقض الأفكار العروبية التي سادت في المنطقة لأكثر من سبعين عاماً، خصوصاً فيما يتعلق باعتبار القضية الفلسطينية (ي إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين) قضية عربية مركزية تحظى بالأولوية في السياسة العربية، ناهيك عن مخاطر التحول الثقافي والفكري تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية، بما في ذلك التحول بمفهوم العدو والحليف لدى البعض، لتنتقل إسرائيل المحتلة إلى دولة صديقة وحليفة، وإيران من دولة جارة إلى عدو أساسي.
تكرار تجارب سابقة فاشلة في تحقيق الأمن وحلّ القضية الفلسطينية خلال 42 عاماً على صعيد تاريخ ومكونات الصراع وتجارب حلّه بالتسوية السياسية والتطبيع مع إسرائيل، فقد مرت الدول العربية بعدّة مراحل في هذه المحاولة، وأهمها:
مفاوضات كامب ديفيد والتوصل إلى معاهدة سلام منفردة بين مصر وإسرائيل عام 1978، التي فشلت حتى في إعادة السيادة الكاملة لمصر على سيناء، ناهيك عن تخطّيها القضية الفلسطينية. ورغم القيام بعملية تطبيع كانت أحكم من الجارية اليوم، غير أن الجانب الإسرائيلي أمعن في تهديد الأمن العربي وانتهاك الحقوق الفلسطينية ورفض الانصياع لنداء السلام والتسوية حتى هذه اللحظة، ولم تجنِ مصر من ذلك شيئاً، لا تقدماً اقتصاديّاً ولا دوراً سياسيّاً إقليميّاً أفضل من السابق.
مفاوضات السلام في مؤتمر مدريد عام 1991، ثم المفاوضات الثنائية الأردنية والفلسطينية واللبنانية والسورية مع إسرائيل، إلى جانب مفاوضات متعددة دولية حول اللاجئين والمياه والعلاقات الإقليمية والأمن الإقليمي، ورغم كل هذه الإغراءات التي أكسبت إسرائيل وضعاً سياسيّاً ودبلوماسيّاً أفضل، غير أنها ضغطت لفتح مسار تفاوض فلسطيني- إسرائيلي سرّي أفضى إلى ما يعرف باتفاق أوسلو عام 1993، وتم فيه تعليق جميع الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني من الدولة والعودة والحدود والمياه والقدس.. إلخ، وفي الوقت نفسه، زادت إسرائيل من الاستيطان والانتهاكات والسيطرة على القدس والمقدسات والاغتيالات والاعتقالات العشوائية التعسفية وهدم البيوت، ورفضت بدء المفاوضات النهائية المقررة عام 1999، وفي عام 2002، قام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتدمير مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية التي نشأت بناء على هذا الاتفاق، وحتى اليوم، لم تعقد أي مفاوضات جدّية لإنهاء الاحتلال (بعد مرور 27 عاماً)، وليس هذا فحسب، بل إن إسرائيل لم تطبّق أكثر من 13% مما ينبغي أن تقوم به رغم قيام الجانب الفلسطيني بتطبيق أكثر من 87% من المطلوب منه في هذا الاتفاق.
مفاوضات السلام الأردنية - الإسرائيلية التي أفضت إلى معاهدة وادي عربة للسلام عام 1994، والتي تم توقيعها بسرعة غير متزنة واحتجاجاً على توقيع الفلسطينيين اتفاق أوسلو عام 1993، ورغم ذلك، استمرت إسرائيل في تجاهل الدور الأردني في الأماكن المقدسة وانتهاكه، واستمرت في المماطلة في التوصل إلى حلّ نهائي لاحتلال فلسطين، كما قامت بعدّة اختراقات أمنية وعسكرية ضدّ الأردن، ولم تسمح للأردن بممارسة الاستيراد والتصدير مع الضفة الغربية إلا بشروط معقدة وبأرقام متواضعة جدّاً، كما أنها لم تترك فرصة إلا وهدّدت فيها بأن شرق نهر الأردن، أي الأردن، جزء من وعد بلفور لإسرائيل بأشكال مختلفة، وهي تحاول التهديد بالإخلال بالأمن الأردني بأشكال لا نهاية لها.
إذاً، تشير هذه التجربة بدقة وبمئات الأمثلة، ولمدة 42 عاماً، إلى فشل قدرة العلاقات العربية الجديدة لهذه الدول أن تنهض باقتصادها أو بدورها في المنطقة أو بالمحافظة على أمنها ضدّ إيران أو تركيا أو غيرهما، ناهيك عن أنها لن تقدّم للقضية الفلسطينية أي مكاسب، بل ستجعلها تخسر البُعد الأخلاقي والقيمي الذي انتهكته هذه الدول بخصوص حشد الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة لتأييد الحق الفلسطيني وإدانة اعتداء إسرائيل على القدس والأراضي المحتلة وعلى الشعب الفلسطيني، مع الأخذ بالاعتبار أن الوزن الجيوسياسي والجيوإستراتيجي لهذه الدول أقل بكثير من كل من الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية في معيارية المصالح الإسرائيلية والأميركية والدور الدولي والإقليمي المستمر، لأن المال ليس كافياً أبداً كمعيار في هذا المضمار كما يعرف الخبراء، ولننظر إلى تجربة كل من إيران والعراق (تحت حكم صدام حسين)، الغنيّتين بالنفط أكثر من هذه الدول.
الاستنتاج
خلاصة هذا التحليل أن هذه الظاهرة المستجدّة في عملية التطبيع بين دول عربية وإسرائيل تجري منبتّة عن السياق الطبيعي للصراع وعن المسارين التاريخي والإستراتيجي المؤسسين بالدماء والتضحيات العربية والفلسطينية، وتأتي معاكسة لتنامي رفض وعزل إسرائيل إقليميّاً ودوليّاً، ولتنامي الأخطار الإستراتيجية على إسرائيل من المقاومة الفلسطينية ومن تنامي نفوذ كل من تركيا وإيران والمجموعة الإسلامية عموماً، ولذلك، فهي تتم في ظل ضعف الرؤية التي تقف خلف الحماسة لهذه العملية من الأطراف العربية، وتحاول تهميش الجانب الفلسطيني في العلاقات العربية- الإسرائيلية وإفقاد القضية الفلسطينية الورقةَ العربية، وتعطي فرصة أكبر لسيادة الرؤية الإسرائيلية القائمة على مبدأ «السلام مقابل السلام» بدل أساس المبادرة العربية والمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية القائمة على مبدأ «الأرض مقابل السلام»، ما يجعلها مدخلاً لتصفية القضية جذرياً، ولإلغاء المبادرة العربية، وبالتالي إفقاد العرب أي رؤية سياسية متفق عليها، وإغلاق الأفق السياسي لحلّ القضية أمام الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يسمح للشعب الفلسطيني بفتح خياراته المتعددة للتعامل مع متغيرات هذه الظاهرة التي تستهدفه أساساً، والاستعداد لتحمل أثمان هذه الخيارات ونتائجها لتحقيق حقوقه المشروعة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولته المستقلة على أرضه وعودة اللاجئين، خاصة أن تسخين الاشتباك الفلسطيني مع إسرائيل كان سبباً تاريخيّاً لمنع نجاح عمليات التطبيع حتى في ظل اتفاقات السلام مع الأردن ومصر، ما يعطي الشعب الفلسطيني بمختلف قواه السياسية والاجتماعية خياراً إستراتيجياً متاحاً وممكناً وفاعلاً.
وكما يطرح الإستراتيجيون، فإن حركة التطبيع الجارية اليوم ليست حركة تاريخية إستراتيجية، بل هي حركة اعتراضية قوية لمنع التاريخ من أن يسير باتجاهاته الطبيعية التي سطّرتها صفحاته خلال العقود الماضية، حيث إن إسرائيل، ورغم ما تملك من قوة ونفوذ واتفاقات سلام، بقيت وستبقى تعيش في عقلية «الغيتو» والرعب وعدم الثقة بالأمان بالمستقبل وبالمحيط الإستراتيجي.