تطبيع ابتذال التاريخ قبل استغفال العقول

الساعة 10:58 ص|20 سبتمبر 2020

فلسطين اليوم

 بقلم : صبحي حديدي

أيّ دبلوماسي أمريكي سابق يمكن أن يتحمس لاتفاقيات التطبيع، بين دولة الاحتلال وكلّ من الإمارات والبحرين، أكثر من دنيس روس؛ المستشار السابق للرئيس الأمريكي باراك أوباما، والمساعد لوزيرة الخارجية هيلاري كلنتون، وقبلها زوجها الرئيس بيل كلنتون، ووزيرة خارجيته مادلين ألبرايت، ألخ…؟ “الاتفاقية بين إسرائيل والإمارات خطوة أساس للسلام وتبعث برسالة حاسمة إلى الفلسطينيين”، هكذا يقول عنوان مقالته في صحيفة “واشنطن بوست”. السلام عنده يتمثل في أنّ “التعاون الأمني يمكن إقراره علانية ولا يتوجب له أن يعيش في الظلال. والشركات الإسرائيلية سوف تكون قادرة على العمل بشكل مفتوح في الإمارات، وسيتاح للإسرائيليين الطيران مباشرة إلى الإمارات مستخدمين جوازات سفرهم”.

الرسالة إلى الفلسطينيين، حسب روس، هي التالية: “التركيز على مظالمهم، وعلى سرديتهم، وتمسكهم بعدم إطلاق أو تقديم مقترحات مضادة للمفاوضات سوف يواصل إضعاف موقفهم”؛ ويتوجب على القادة الفلسطينيين الانتباه إلى أنه “إذا اتخذ الإسرائيليون خطوات إيجابية ولم يقابلها الفلسطينيون بالمثل، فإنّ القادة العرب يمكن أن يتابعوا مع ذلك تحركات التطبيع”. ولا يكترث روس بإشارة الحدّ الأدنى إلى أنّ آخر “خطوة إيجابية” أقدمت عليها دولة الاحتلال كانت تجميد العمل بقرار ضمّ مستوطنات وأراض فلسطينية محتلة في الضفة الغربية والغور، وليس الانسحاب من شبر واحد كان تحت الاحتلال.

ليس هذا هو التفصيل الوحيد الذي يؤكد استهتار روس بالمنطق السليم على نحو أقرب إلى إهانة العقول وليس استغفالها فقط، إذْ يساجل بأنّ دافع الإمارات من وراء اتفاقية التطبيع هو إنقاذ حلّ الدولتين، عن طريق وقف عمليات ضمّ الأراضي؛ كأنّ دولة الاحتلال، ممثلة برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وافقت فعلاً على وقف الضمّ، وليس تجميد العمل به مؤقتاً. لا يقلّ انحطاطاً في ابتذال التاريخ اعتراف روس بأنّ الضمّ كان سيتكفل بإنهاء حلّ الدولتين (الذي آمن به شخصياً على الدوام، في الظاهر على الأقلّ)؛ وإغفاله حقيقة أنّ تجميد الضمّ، بوصفه “خطوة إيجابية” إسرائيلية، لن يقدّم أو يؤخّر في شيء صيغة حلّ الدولتين التي باتت أقرب إلى خرافة، منها إلى صيغة تفاوض.

نموذج روس تكرر مراراً في الإدارات الأمريكية المختلفة، جمهورية كانت أم ديمقراطية، مع مستويات متباينة من الابتذال المتأصل تارة عند هذا من المستشارين، أو الحنكة الخبيثة تارة أخرى عند ذاك. ويصعب في هذا المضمار عدم اقتباس الحكاية الشهيرة التي رواها الصحافي الإسرائيلي دافيد ماكوفسكي، كبير معلقي “جيروزاليم بوست”، وجرت ذات ليلة في بيت السفير الأمريكي لدى الاحتلال، عشية وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية الخليل، أواخر 1996. كان آرون ميللر، مساعد دنيس روس ويده اليمنى، قد استأذن فريق العمل لأداء الصلاة اليهودية المعروفة باسم Kaddish، على روح والدته التي توفيت مؤخراً في كليفلاند. وأبى روس إلا أن يشارك زميله في الصلاة، فانضمّ إليهما السفير مارتن إنديك، والمستشار القانوني لفريق العمل الأمريكي جوناثان شوارتز، وكان طبيعياً أن يكون الخامس إسحق موردخاي، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، الذي كان موجوداً لأغراض استكمال الاتفاق!

 

ولا عجب، استطراداً، أنّ آخر مؤلفات روس (بالاشتراك مع ماكوفسكي، دون سواه، لسخرية الأقدارّ)، كتاب بعنوان “تشدّدوا وتشجعوا: قادة إسرائيل الأهمّ وكيف صاغوا مصيرها”؛ ولا غرابة، كذلك، أنّ تكون فقرة العنوان الأولى مستمدة من التوراة، سفر التثنية، على لسان موسى مخاطباً “جميع إسرائيل”. “المتشددون” و”الشجعان” في الكتاب هم دافيد بن غوريون، مناحيم بيغن، إسحق رابين، وأرييل شارون؛ ولا حاجة للمرء إلى تصفّح أية سيرة لأيّ من هؤلاء حتى إذا كُتبت بقلم إسرائيلي، كي يقف على مساهمات هؤلاء في “الخطوات الإيجابية” تجاه “السلام” الذي يتغنى به روس.

 

وبالطبع، لا يُستغرب هذا النغم من روس، إذا كان ربّ البيت الإماراتي والبحريني هو نفسه بالطبل ضارباً!

كلمات دلالية