خبر ستون عاما على النكبة ..د. وليد سيف

الساعة 04:27 م|27 فبراير 2009

الصراع على المعاني.. الصراع على الوجود

ستون عاما على النكبة ..

د. وليد سيف

 

ستون عاما على النكبة.. وهل يحيي الإنسان ذكرى آلام مازال السابق منها لم يلد اللاحق، واللاحق منها يحيل على السابق؟ وهل تَجُبّ المظالم الراهنة المظالم المتقادمة التي هي جذر الراهن وأصله؟

 

ستون عاما.. والماضي هو الآن، وإذ يبحث الشاهد والشهيد في عمق وجدانه النازف عن كلمات تروي حزنه وغضبه وملحمته، لا يجد الآن بعد ستين عاما أصدق وأحسن من كلمات المعجم الأول... معجم السنوات الأولى العجاف.. النكبة.. نعم بكل محمولها الدلالي والوجداني والتاريخي الذي شكل وعينا المبكر ورشح في أحلامنا وأغانينا وقصائدنا، وحتى في لغونا وشتائمنا وفوران غضبنا الجامح.. نعم النكبة والوطن السليب وحلم العودة والتحرير، وكل ما أعقب ذلك على مدى ستين سنة، تفاصيل وفروع. ستون عاما.. وليس أفظع من اغتصاب الأرض إلا محاولات اغتصاب التاريخ والرواية.. ولا أشد من التهجير القسري من الوطن، إلا محاولات تهجير الوطن من الذاكرة.. وليس أخطر من الصراع على الأرض إلا الصراع على المعاني.

 

الأسماء والأشياء

 

 

بالمعاني والمفاهيم يتمثل العالم في وعينا.. والتفاعل الاجتماعي والإنساني ليس ممكنا بغير منظومات المعاني والمفاهيم المشتركة التي نُعرّف بها الأشياء والوقائع، ونُؤوّّل بها المواقف، ونبني بها روايتنا عما جرى ويجري. فالعالم الموضوعي الخارجي لا ينعكس في وعينا بصورة آلية مباشرة، وبغير وساطة المعاني والرموز الثقافية التي تبتدعها الذات الاجتماعية لتمثيل الموضوع وتعقله. فلو كان الأمر كذلك لما اختلف البشر في فهم الواقع وتأويله وطرق الاستجابة لمؤثراته، ولما تطورت المعارف وتغيرت صورة العالم والأشياء والظواهر في وعينا مع تطور معارفنا ومفاهيمنا وتعريفاتنا، ولما تطور المعجم اللغوي ومحتواه الدلالي الذي يسهم في تشكيل رؤيتنا للعالم والأشياء. ولكن الحاصل أننا في مواقف التفاعل الاجتماعي والإنساني حول الوقائع والأشياء والأغراض نستدعي من مخزون المعاني المشتركة في وعينا ما نسقطه على الموضوع لتأويله وتعريفه وفهمه، وبناء على ذلك تتحدد استجابتنا العملية له في الفضاء الاجتماعي الإنساني. وإذ نصْدر عن نظم المعاني والتعريفات المشتركة في مرجعنا الثقافي العام فإننا نخلق الإحساس الضروري بأننا ننتمي إلى الهوية الثقافية نفسها والنظام الاجتماعي ذاته، وهو شرط ضروري للاجتماع البشري. على أننا في الوقت نفسه نختلف في أغراضنا ومصالحنا ومقاصدنا جماعات أو أفرادا داخل المجتمع الواحد. كما أننا نتفاوت في ذخائرنا المعرفية على الرغم من المساحة المشتركة من المعاني والمفاهيم.

 

ومن ثم فإن تأويلاتنا وتعريفاتنا للأشياء والوقائع يمكن أن تتضارب بتضارب الأغراض والمصالح والمقاصد. إذ يسعى كل طرف من أطراف التفاعل إلى استدعاء المعاني التي تخدم أغراضه لتعريف الوقائع والأشياء وتأويلها، ويفاوض بصورة مضمرة أو معلنة لفرض تعريفاته وتأويلاته. وفي الظروف العادية لا يكون الخلاف هنا حول المعاني والقيم المشتركة على المستوى النظري المجرد. فلا خلاف على القيمة الايجابية للشجاعة والكرم والوفاء مثلا، ولا على القيمة السلبية للجبن والبخل والخيانة.

 

ولكن الخلاف هو في إنزال هذا المعنى أو ذاك على واقعة بعينها وتعريفها به. فما يعرّفه أحد الأطراف بالشجاعة، يعرّفه آخر بالتهور، وما يعرّفه طرف بالكرم، ربما يعرّفه آخر بالإسراف.. وهكذا، وبذلك يتمكن الفاعلون الاجتماعيون من تحقيق هدفين متعارضين معا في آن:

 

- الحفاظ على الحس المشترك بالانتماء إلى نفس النظام الاجتماعي كما يتمثل في نظم المعاني والمفاهيم والقيم المشتركة التي يصدورن عنها، من جهة،

 

- وخدمة تنازعهم على المصالح والأغراض من خلال توظيف معان مختلفة من المرجع المشترك نفسه لفرض تعريفات مختلفة للوقائع، من جهة أخرى.

 

ولكن التنازع على التعريفات والتأويلات لا يجري بصورة متكافئة. هنا تتدخل علاقات القوة بكل تجلياتها المادية والمعرفية والروحية والسياسية، ليتمكن الطرف الأقوى من فرض تعريفاته وتأويلاته وتوصيفاته على عقول الآخرين. وبذا يتمكن من السيطرة على العقول والأفئدة، وتشكيل نظرتها للعالم وإدارة سلوكها واستجاباتها بناءً على ذلك. هكذا يتشكل خطاب القوة Discourse ورواية القوي Narrative.

 

المعاني والخطابات بهذا المفهوم ليست مجرد تمثيل للواقع، بل هي الواقع نفسه كما يتمثل في عالم الوعي والتصورات. وتغيب المسافة بين ثنائية الأسماء والأشياء، أوالدوالّ والمدلولات، لتصير الأسماء هي الأشياء بقدر ما تتعرف الثانية بالأولى. وبذلك يكون الصراع على المعاني والخطاب هو الصراع على العقول والمدركات، وهو في آخر المطاف الصراع على امتلاك الواقع وتشكيله.

 

ولكن خطاب القوة والسيطرة يخلق شرط الإمكان لتشكل خطابات المقاومة، في لحظات تاريخية مفصلية، تتمكن فيها الأطراف المقهورة من التحرر من إكراهات الخطاب السائد وكشف آليات التحكم والسيطرة التي يمارسها. وبقدر ما ينطبق هذا على القوى الاجتماعية في داخل المجتمع الواحد، فانه ينطبق على العلاقة بين الثقافات والمجتمعات، وبخاصة في هذا العصر׃ عصر العولمة والمعلومات والاتصالات والاعتمادية المتبادلة والنظام الدولي وهيمنة الإمبراطورية الأمريكية الشاملة.

 

تحريف الكلم عن مواضعه

 

ستون عاما.. ولم يتحقق حلم التحرير والعودة، ولم تتحقق بعد حزمة الأحلام العربية الأخرى التي تحيط به وتتشابك وتتشارط معه׃ الوحدة والتحرير والنهضة والعدالة والديمقراطية بوجهيها الاجتماعي والسياسي. ولكن الأخطر من عدم تحقق الأحلام في الواقع هو المحاولات المنظمة لمصادرة الأحلام نفسها، وإعادة تعريفها لتعني "الأوهام" غير القابلة للتحقق أصلا بحكم طبيعتها الجوهرية. بل الذهاب أبعد من ذلك إلى اسقاط المسوغات الأخلاقية والتاريخية لتلك الأحلام/الأوهام. فهي - حسب هذا الخطاب- ليست مرفوضة فقط بمعيار الضرورة التي تجعلها غير قابلة للتحقيق، ولكنها مرفوضة بالمعايير المبدئية والعقدية. وإن لم يكن هذا كافيا، جرى تحميلها مسؤولية النكبات والخيبات والانكسارات والانحطاط والعجز عن اللحاق بركب الحضارة العالمية. فبدلا من أن تكون تلك الأحلام مشاريع استجابة حضارية للتحديات التي تستهدف وجود الأمة وهويتها تصبح بهذا المنطق أساس المشكلة وأصل النكبات.

 

هكذا إذن بعد أن يطمئن العدوُّ إلى تمكنه في الأرض، وتغلبه في معركة السلاح، ينقل الصراع إلى ساحات المعاني والمفاهيم، ليستكمل غزو الأرض واغتصاب الوطن بغزو العقول واغتصاب الأحلام وفرض خطابه ومعانيه وروايته. وهذه المرة يتطوع النظام العربي نفسُه - بعضُه أو كلـُه - وتيارات سياسية عربية تصف نفسها بالليبرالية، لتنهض بالمهمة. ذلك لأن نظام المعاني التحررية لا يواجه الرواية الصهيونية إلا بقدر ما يحرج النظام العربي ويتحدى تيارات الإذعان والخضوع التي تتقنع بدعاوى الاعتدال والواقعية والعقلانية، فضلا عن الليبرالية.

 

ألا ترى كيف صرنا نتردد في استعمال صفة " العدوّ الإسرائيلي " خشية أن يحيل ذلك إلى لغة الشعارات الثورية القديمة والإعلام الانفعالي؟ إن لم يكن الاغتصاب والاحتلال والتشريد والإذلال والقتل والبطش أسبابا كافية لتعريف مقترفيها بالعدوّ، فما معنى العدوّ إذن؟ ألا ترى كيف استتبع ذلك أن نتردد في استعمال مفاهيم المقاومة والجهاد ومعاني التحرر والتحرير والشهادة والاستشهاد لأنها تلتبس مع الإرهاب والتطرف، وتطيح بفرص السلام المقدس، وتردنا إلى ماضي التجارب "القومجية" الفاشلة أو إلى حاضر التيارات "الاسلاموية" المتطرفة؟!

 

ألا ترى كيف يتجنب الكثيرون استعمال مصطلح "الوطن العربي" والأمة العربية، ويفضلون بدلا منها مصطلح "الشرق الأوسط" و"شعوب المنطقة"؟! ألا ترى أيضا كيف يتجاهل الكثيرون رواية اغتصاب فلسطين عام 1948 ويفضلون أن تبدأ الرواية بحرب حزيران عام 1967 مع التركيز على المسؤولية العربية عن قرار الحرب وأوزارها؟!.

 

ألا ترى كيف تحولت القضية الفلسطينية من قضية عربية يقف فيها العرب جميعا طرفا في الصراع، إلى قضية تخص الفلسطينيين، وإن كان للعرب دور فيها فيُختزل في "مساندة الشعب الفلسطيني" في أحسن الأحوال مع التحذير بأن تعطيل الحلول السياسية يمكن أن يهدد أمن المنطقة. وتهديد أمن المنطقة في هذا السياق لا يشير إلى الخطر الإسرائيلي، بقدر ما يشير إلى ردود الفعل الشعبية العربية التي يمكن أن تغذيّ حركات التطرف والعنف.

 

الثابت الإسرائيلي والمتغير الفلسطيني

 

الصراع على المعاني ليس ظاهرة جديدة في الفضاء السياسي العربي، ولكنه استعلن بصورة شرسة منذ معاهدة كامب ديفيد، وقبل ذلك، تقدم مفهوم "الاحتلال" لا ليضاف إلى مفهوم الاغتصاب والإحلال، ولكن ليصبح بديلا عنه، ومعه حل الحديث عن الأراضي المحتلة مكان الحديث عن الوطن السليب.

 

كيف يصبح الاحتلال بديلا عن "الاغتصاب"، اغتصاب وطن بكامله؟ ألا يحيل الاحتلال في سياقنا العربي الفلسطيني إلى جزء من الوطن وإلى قوة محتلة لا يطرح السؤال حول شرعية وجودها في حدود دولتها، وإن طرح حول شرعية احتلالها لأراض خارج حدودها؟ حتى إذا استقر هذا المعنى للاحتلال في الوعي الجمعي مكان اغتصاب الوطن برمته، بدأ العمل على تغييب معنى "الاحتلال" نفسه على ما فيه من اللبس والتلبيس وإسقاط السابق باللاحق، ليحل مكانه الحديث عن "النزاع العربي الإسرائيلي" ثم "النزاع الفلسطيني الإسرائيلي". وإذ بالصراع صراع حول حقوق متنازع عليها، بين شعبين حدث اتفاقا أنهما يتجاوران في الإقليم نفسه.

 

فلا ثمة وطن مغتصب ولا استعمار صهيوني إحلالي استيطاني فرض بفعل القوة القاهرة، وكأن إسرائيل معطى ثابت قديم قدم الأرض، وما وقع عام 1948 هو -كما تنص الرواية الصهيونية- استقلال الشعب الإسرائيلي من الاستعمار البريطاني الطارئ المؤقت على نحو ما استقلت دول أخرى كمصر والهند وسوريا والجزائر بعد حين. ثم كان على الشعب الإسرائيلي الذي أحرز استقلاله بعد صراع مرير مع الاستعمار (!) أن يتعامل مع تطلعات جماعات قومية أخرى اتفق أنها تعيش معه في الأرض نفسها، وتصر على أنها تمثل هوية وطنية مستقلة وتتطلع إلى الاستقلال بهويتها في دولة خاصة بها على جزء من الوطن الإسرائيلي، تدعي أنه حقها.

 

وإذن فهو صراع حول حقوق متداخلة متنازع عليها بين طرفين قد يجور أحدهما على الأخر، ويتبادلان العنف والعنف المضاد فيستويان في المعيار الأخلاقي. هل قلت يستويان في المعيار الأخلاقي؟ لا ليس هذا واقع الحال وفقا للقوى الدولية الغاشمة المتواطئة التي تعتبر العنف الإسرائيلي دفاعا عن أمن إسرائيل في مواجهة عنف الجماعات الإرهابية المتطرفة من الجانب الفلسطيني. وهذه نتيجة منطقية لمقدمات التحريف المنظم للرواية التاريخية.

 

فإذا كان ما وقع عام 1948 هو استقلال الشعب الإسرائيلي من القوة الاستعمارية الطارئة على وطنه(!)، ولا ثمة اغتصاب للوطن الفلسطيني، ولا ثمة إحلال لجماعات أجنبية طارئة مكان شعبه، ولاثمة تشريد وتهجير قسري وإلغاء لشعب كامل يسمي نفسه الشعب الفلسطيني، ولا حتى احتلال تالٍ، وإنما هي حقوق متنازع عليها بين دولة شرعية مستقرة ثابتة وجماعات مغايرة تعيش على نفس الأرض وتصر على أنها تمثل شعبا مستقلا يستحق دولة مستقلة، إذا كانت هذه هي مقدمات الرواية التاريخية، فلا بد أن تكون النتيجة المنطقية اعتبار العنف الفلسطيني إرهابا وتطرفا وعدوانا وتهديدا لأمن إسرائيل، يسوغ لها الدفاع والرد بعنف مشروع. فالتنازع على حقوق ملتبسة لا يقتضي الالتجاء إلى السلاح وممارسة العنف بدلا عن العمل السياسي والتفاوض السلمي.

 

وإذن فإن أصل الرواية ليس اغتصاب الوطن الفلسطيني واقتلاع الشعب الفلسطيني منه وإحلال الإسرائيليين فيه، وإنما هو تنامي التطلعات الفلسطينية الوطنية نحو الاستقلال والدولة على أراضٍ متنازعٍ عليها بين الثابت الإسرائيلي المفروغ منه، والمتغير الفلسطيني المختلف عليه. وفي سياق هذه الرواية لا بد أن ينسب البدء في دورة العنف إلى الجانب الفلسطيني، ويكون العنف الإسرائيلي هو الرد المشروع. إلى هذا الحد يبلغ تحريف الرواية التاريخية ومعها نظام المعاني. فلا يكفي ظلما أن توضع الضحية والجلاد على صعيد أخلاقي واحد تحت عنوان "الحقوق المتنازع عنها" و"دورة العنف المتبادل بين طرفي النزاع" حتى يُبرأ الجلاد من المسؤولية الأخلاقية، وتدان الضحية لأنها لا تعرف كيف تموت بصمت لا يزعج الجزارين والشهود الصامتين.

 

وفي أحسن الظروف والمواقف الموصوفة بالتوازن بل بالتعاطف مع التطلعات الفلسطينية، تصير مهمة الحكماء المعتدلين في الجانبين وفي المحيط الدولي والإقليمي الترويج لثقافة السلام والتعايش والتسامح وقبول الآخر ونبذ الكراهية لبناء عالم أجمل وأنبل للأجيال القادمة. وكأنّ أصل الصراع وحله يكمنان في النظم الثقافية: بين رفض الآخر وقبوله، بين ثقافة التنابذ والتفاصل والإقصاء والكراهية والعنف وثقافة التبادل والتكامل والتعاون والتعارف والحب والسلام. ويجري في هذا السياق تغييب قيم العدل والحق. ومن الطبيعي في هذا الفضاء إلغاء معنى "المقاومة" مع التغييب المنظم لأشراطها׃ اغتصاب الوطن واحتلاله وتشريد شعبه.

 

الفلسطينيون "أيضا" لهم حقوق؟

 

تحقق المشروع الصهيوني عام 1948 وانتصرت إسرائيل على الجيوش العربية في ذلك الحين، ثم في حزيران 1967. ومع ذلك، كان الخطاب الدولي والإسرائيلي نفسه يتوجه ضمنا إلى إقناع العرب والفلسطينيين، على الرغم من هزائمهم، بأن يتقبلوا أخيرا إسرائيل باعتبارها أمرا واقعا وحقيقة قائمة لا قبل لهم بإلغائها.

 

فإن لم يتقبلوا ذلك مبدئيا فإن عليهم أن يتقبلوه بحكم موازين القوى التي لا يمكن أن تعتدل لصالح موقفهم. الجلاد، على قوته وشراسته وتفوقه، يحتاج إلى اعتراف الضحية به. حتى إذا تقبل النظام العربي هزيمته المؤبدة، وعجزه النهائي عن تحقيق شعارات التحرير، وأعلن من ثمّ أن السلام هو خياره الإستراتيجي الوحيد، بما يتضمنه ذلك من قبول إسرائيل باعتبارها حقيقة قائمة تَجُبّ معايير العدل والحق، انقلبت المعاني مجددا، فصار المطلب الآن إقرار إسرائيل بوجود شعب فلسطيني له حقوق في تقرير المصير والاستقلال والدولة إلى جانب الثابت الإسرائيلي الذي خرج نهائيا من حيز السؤال عن شرعيته. فإذا كان ذاك، فلا معنى لاستدعاء رواية اغتصاب الوطن الفلسطيني والطرد والإحلال.

 

هكذا في زمن العجز والإذعان والخضوع والخنوع، تعيد النهايات والمآلات البائسة كتابة البدايات لتنسجم معها، بدلا من أن تؤسس البدايات للغايات والنهايات والمآلات. حسب نهايات زمن العجز، فإن جذر المشكلة يبدأ ببروز هوية وطنية فلسطينية تطالب بأن يكون لها بعض ما لإسرائيل من الحقوق. وعلى الثابث الإسرائيلي أن يتعامل مع هذا الطارئ الطارق الذي لا يكف عن الإزعاج والإلحاح وتهديد الأمن واللجوء إلى العنف، شأنه في ذلك شأن أي أقلية قومية تطالب بحق تقرير المصير. وهنا يصبح مطلب الدولة الفلسطينية على جزء صغير من الوطن السليب، بديلا عن الوطن. وفي أحسن الأحوال يصيح أحد الحكماء من ذوي الضمائر النزيه: "الفلسطينيون أيضا لهم حقوق" مع التركيز على كلمة "أيضا" التي تضمر أن الحق الإسرائيلي أمر مفروغ منه، وإنما السؤال حول حق فلسطيني هو في ذاته محل اختلاف من حيث تعريفه وحدوده، ويخضع من ثمّ لتغييرات وتأويلات متباينة متضاربة، وتحاصره التحفظات والاعتبارات الأمنية والاشتراطات السياسية وفقا للمرجع الإسرائيلي الثابت. فإن كان كذلك فإن تعريفه النهائي مؤجل حتى تقضي به المفاوضات بين الطرفين المتنازعين.

 

وهنا يجري السكوت عن حقيقة أن المفاوضات السياسية تحكمها وتكيف نتائجها موازين القوى على الأرض. ولكي يموه الجانب الأضعف في العملية السياسية على هذه الحقيقة يبتدع مصطلح "الاشتباك السياسي" ليوهم المتشككين، وربما ليوهم نفسه، بأن جهوده التفاوضية شكل من أشكال النضال لا يقل شراسة عن الكفاح المسلح، وأنه سيكون طريقه لانتزاع الحقوق انتزاعا من الخصم العنيد، حتى لو كان الخصم في واقع الحال يتمتع بهيمنة كاملة بكل المعايير العسكرية والسياسية والاقتصادية، ومن خلفه قوى دولية طاغية لا تدعمه فقط، بل هي وصيّه وشريكه وطرف معه.

 

كيف يكون التفاوض هنا اشتباكا سياسيا لانتزاع الحقوق من براثن عدوٍّ هو الذي يحدد مواصفات الشريك اللائق في العملية التفاوضية السياسية فيمنح الصفة لمن يشاء وفق معاييره، ويسقطها عمن يشاء، في الوقت الذي يشاء؟! فإن أسقطها كان له أن يحاصر رأس الطرف الأضعف في عقر مقره، ويلزمه المكوث في غرفة واحدة فيه تحت سطوة السلاح والجرافات العسكرية، ولا يسمح له بأن يغادر مكانه إلا إلى قبره، الذي يرجح أنه هو الذي أرسله إليه بصمت مريب؟!

 

كيف يمكن أن يكون التفاوض سبيلا إلى انتزاع الحقوق أو شراكة بين طرفين، حين يكون أحدهما غالبا والآخر مغلوبا، ويكون أحدهما حاكما والآخر محكوما؛ حين يكون في وسع أحدهما أن يفرض على الآخر قراره وإرادته دون رادع، فيوسع المستوطنات أو يزيدها متى شاء، ويقتحم المدن والقرى والمخيمات أو يقصفها متى شاء، وينصب الحواجز بالمئات ويتحكم بحركة الناس بين المدن والقرى كيف شاء، بل إنه ليس في وسع القادة الفلسطينيين التنقل داخل أرضهم إلا بأذون خاصة منه؟

 

حتمية تاريخية جديدة

 

كيف يمكن في ظل هذه الموازين المختلة أن ينتزع الضعيف ما قنع بقبوله من حقوق منقوصة أصلا في اشتباك سياسي موهوم؟ ألا يكفي أن الجانب الفلسطيني قد رضي بالجزء الأقل الذي احتلته إسرائيل عام 1967، ورضي بالاحتكام إلى قرارات الشرعية الدولية المتواطئة، حتى يصبح هذا الجزء محل تنازع، لا يجوز تعريف الحق الفلسطيني به مسبقا إلى أن تقضي به المفاوضات مع الطرف المتغلب؟ فإذا أصر الفلسطينيون، أو بعضهم، على تعريف مسبق لا يتجاوز حدود القرارات الدولية ﭐتُهم بالتطرف والتشدد، وسقطت عنه صفة الشريك المقبول، وحُمّل مسؤولية إحباط العملية السياسية؟.

 

ومن جديد يجري تذكيرنا بطبيعة المفاوضات السياسية وجوهرها القائم على تقديم تنازلات مؤلمة من الطرفين، للتوصل إلى حل وسط يرضي جميع الأطراف، وأية تنازلات مؤلمة يفترض أن يقدمها الطرف الإسرائيلي المهيمن؟.

 

أما تنازلات العدوّ المفترضة فهي من حساب الأراضي التي احتلها عام 1967، الأراضي التي قنع الطرف الآخر باختزال حقوقه التاريخية فيها، وأما التنازلات المطلوبة من الجانب الفلسطيني فمن حساب تلك الأراضي وتلك الحقوق المختزلة أصلا ومعها حق العودة. فأي تكافؤ وأي شراكة في السلام وأي تنازلات متبادلة مؤلمة؟.

 

فإن صاح صائحنا׃ "وأين العدل، وأين روايتنا التاريخية؟" قام من بيننا من استدخل المعاني المستحدثة التي أنتجها القوي المتغلب، فذكرنا بالحكمة المسترجعة "كفى بكم شعارات عاطفية وأحلاماً كاذبة"، ولا تعودوا إلى تفويت الفرص التاريخية التي برعتم بها منذ قام المشروع الصهيوني، حتى ألزمتكم الظروف المتغيرة أن تطالبوا أخيرا بأقل مما عرض عليكم أولا، وقياسا بتجارب الماضي، فإنكم إن رفضتم اليوم ما تتنازل لكم عنه إسرائيل، حتى لو بدا لكم مجحفا، فسيكون عليكم في المستقبل أن تقنعوا بما هو دونه׃ حتمية تاريخية من نوع آخر، ونواميس كونية حاكمة لا قبل لنا بتغيير مسارها، فلا مفر من الإذعان لها باعتبارها الأمر الواقع. ونقيضها الأحلام الكاذبة، والأوهام المدمرة والإديولوجيات المضللّة وشعارات الماضي التي لم تنتج إلا الهزائم والانكسارات والخراب.

 

أما هذا الأمر الواقع فيبدو في هذا المنطق وكأنه معطى خارجي موضوعي ثابت، ثبات قوانين الطبيعة، تنعدم معه المسؤوليات الإنسانية والخيارات الأخلاقية. الأمر الواقع بهذا المعنى ليس نتاج الفعل الإنساني وعلاقات القوة المتغيرة التي تنتج جلادا وضحية يمكن أن تستسلم ويمكن أن تقاوم، وتنتج الخيانة والتواطؤ وخطابات الإذعان كما تنتج في مقابلها خطابات المواجهة والمقاومة والنهوض.

 

العجز العربي قدر مقدور وأبدي كما التفوق الغربي والإسرائيلي، وإن كان لا بد من التماس العوامل والأسباب، فدع عنك الحديث عن الغرب والاستعمار والامبريالية، فهذه مشاجب نعلق عليها خيباتنا، ومعاذير نبرر بها أزماتنا، والتمسها في الذات المجبولة على التخلف والانحطاط، وأمعن في جلدها كما تشاء.

 

لا بأس إذن، سنمضي مع هذا المنطق، ونعتبر الغرب والاستعمار والإمبريالية رواية متخيلة اختلقتها الخطابات القومية الفاشلة والاشتراكية الشمولية والإسلامية الرجعية لتسوق برامجها التي ثبت إخفاقها، وسنعتبر إخفاقها دليلا قاطعا على بؤس روايتها عن الاستعمار والامبريالية ودورهما في إخضاع العرب وإحباط مشاريع النهضة العربية وخلق المشروع الصهيوني وإسرائيل، وسنعزو كل تلك التهم الموجهة إلى الغرب ودوره إلى نظرية المؤامرة التي تنتجها ثقافة العجز والخمول، فلا ثمة قوى استعمارية احتلت أوطاننا بقوة الدبابة والطائرة الحربية والبارجة، ولا عملت على تقطيع أوصاله ونهب ثرواته وربطه بالمركز الغربي وتعطيل شروط نهوضه الذاتية. وإن لم يكن مفرٌّ من الإقرار بذلك فإن نجاح الغرب الاستعماري الإمبريالي في مشاريعه ضدنا كان نتيجة طبيعية لتفوقه الحضاري، وانحطاطنا الحضاري والثقافي.

 

وإذن فإن تغلبه جائز يستحقه، إذ هو نتاج حضارته العقلانية العلمية الديمقراطية التي تمنح هيمنته براءة أخلاقية، وفي المقابل فإن هزائمنا أمامه عقوبة نستحقها، إذ هي نتاج ثقافتنا الغيبية العاطفية اللفظية البلاغية غير العقلانية، ونتاج عجزنا عن تبني الأسباب التي تفوق بها الغرب وعن احتذاء أنموذجه دون تحفظات.

 

القوة والغلبة دليل على الصواب والحق، والضعف والهزيمة دليل الباطل. وعلى ذلك فبدلا من إنتاج خطابات العداء للغرب تحت شعارات معاداة الاستعمار والامبريالية، يجدر بنا أن نروج للقيم الحضارية الغربية باعتبارها القيم الكونية المنتجة للتقدم والتحضر والتطور. ثنائية الصراع، حسب هذه الرواية، ليست بين المستعمِر ﴿بكسر الميم ﴾ والمستعمَر ﴿بفتح الميم﴾، فهذه ثنائية عفا عليها الزمن وسقطت مع سقوط خطابات الثورة العالمية والاشتراكية الدولية والحركات القومية وانتصار القيم الليبرالية الرأسمالية انتصارا مؤبدا يثبت أنها نهاية التاريخ. وعوضا عن ذلك فإن ثنائية الصراع ينبغي أن تكون بين واقعية عقلانية ليبرالية يمثلها الغرب المتغلب وقيم التخلف الذاتي والانحطاط وتجارب الماضي الفاشلة׃ القومية الفاشية والاشتراكية الشمولية والثورية الرومانسية مع ما صاحبها من شعارات غير واقعية كالوحدة والعدالة الاجتماعية والنهضة المستقلة والتحرير.

 

سياسة تفويت الفرص

 

من الطبيعي في سياق هذه الرواية الليبرالية الجديدة، أن تسقط عقيدة الصراع مع إسرائيل والمشروع الصهيوني ومعها الرواية التاريخية للاغتصاب والإحلال والتشريد. إذ لا يمكن تغييب الراوية التاريخية عن الاستعمار والإمبريالية، مع إثبات الرواية التاريخية عن اغتصاب الوطن الفلسطيني والطبيعة الاستعمارية الإحلالية الاستيطانية للمشروع الصهيوني، الذي ينتظم تاريخيا في المشروع الاستعماري الامبريالي الغربي. لا يمكن الدفاع عن سياسات الولايات المتحدة وتحسين صورتها والترويج لسياسات الانحياز أو الإذعان لها بأي دعوى، مع المحافظة في الوقت نفسه على عقيدة العداء والصراع مع إسرائيل، وإن تعاظم تجبرها وبطشها بدعم مطلق من الولايات المتحدة. فإن لم تترك لك الجرائم الإسرائيلية المتجددة مجالا للصمت والتغافل، فوضعتك في موقف حرج، فإن لك مخرجا في أن توزع اتهامك بين الاتجاهات المتشددة في إسرائيل والاتجاهات المتطرفة العنيفة في الجانب الفلسطيني.

 

ولا بأس أن تتحدث قليلا عن أخطاء سياسات اليمين المحافظ في الولايات المتحدة، على أن تُذكّر في الوقت نفسه بظاهرة الإرهاب العربية الإسلامية التي ينبغي أن يلتقي العالم على مواجهتها، ثم استعمل ظاهرة الإرهاب المدانة للتلبيس على مفاهيم المقاومة والجهاد وتلويثها، واعمل على تنفيس مشاعر العداء المتنامية ضد إسرائيل وجرائمها بالتركيز على الخطر الإيراني المقدم على كل خطر، فهي لا تهدد إسرائيل إلا بقدر ما تهدد العرب، أو أنها تتوسل العداء لإسرائيل والولايات المتحدة ذريعة للتغطية على هدفها الحقيقي׃ التمدد في المجال العربي وتهديد أمنه القومي. وعلى الرغم من أن ״الدين״ بوصفك ليبراليا ملتزما لا يمثل في الظروف الأخرى مرجعا لمواقفك السياسية، فمن المفيد هنا أن تستدعي الخلاف التاريخي الطائفي بين السنة والشيعة، وأن توظف نفسك ولو مؤقتا للدفاع عن أهل السنة والجماعة والتخويف من المد الشيعي الإيراني.

 

فإن أدى ذلك بالضرورة إلى أن تلتقي مع إسرائيل والولايات المتحدة في مركب واحد/ محور واحد ضد الخطر الإيراني، فهو أمر تمليه التقاطعات السياسية ومعطيات الواقع وفقه الأولويات السياسية والأمنية. وبالإحالة، يمكنك الآن أن تجد مسوغا أخر للطعن في مصداقية المقاومة والجهاد في فلسطين، باعتبارها جزءا من المحور الإيراني الذي يضم سوريا وحزب الله والمقاومة الإسلامية في فلسطين التي يمكن أن تصورها الآن بأنها تطبق أجندة إيرانية معادية للعرب أكثر من عدائها لإسرائيل. فالاغتصاب والاحتلال والتشريد والحصار والتجويع والتركيع والقتل والتجريف والتدمير والقصف ليست أسباباً كافية للمقاومة، وإنما المقاومة أداة وورقة في يد إيران وبرنامجها المعادي للعرب في آخر المطاف. فإذا وصلت الرواية الليبرالية الجديدة إلى هذا الحد، فما الذي يتبقى من عقيدة الصراع مع إسرائيل ومقاومة الاحتلال ورواية الاغتصاب والإحلال والاحتلال.

 

عودا إذن إلى الأمر الواقع: إسرائيل أمر واقع ونهائي لا مجال لتغييره، ولا مفر من قبوله ولا جدوى من مواجهته، ولا حل إلا بالتفاوض السياسي، وإن شئت فقل "الاشتباك السياسي"، ضمن معطيات الواقع ومحدداته، مهما يكن ميزان القوى مائلا ضدك ولمصلحة خصمك. ولا تقل من خلق هذا الواقع، ولا تتحدث عن إمكانية تغيير ظروفه وشروطه. فهذا وهم ينبغي تجاوزه؛ لم يكن ممكنا في الماضي، وليس ممكنا الآن، ولن يكون ممكنا في المستقبل.

 

فارضَ إذن بما يمكن أن يقسمه لك هذا الواقع مهما بدا لك ضئيلا قياسا بادعاءات الماضي، ولا تعد إلى تفويت الفرص الذي أملى عليك اليوم أن ترضى بأقل مما أتيح لك في الأمس. لا تقل في عام 1948 اغتصب وطنك وأخرجت منه طريدا شريدا، ولكن ﭐذكر بدلا من ذلك أنك فوَّتَّ الفرصة التي أتاحها لك قرار التقسيم في ذلك الحين بأن تقاسم إسرائيل وطنك فتكون لك دولة كما لها.

 

لا تقل إن اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل قد جنت على الموقف العربي والفلسطيني حين أخرجت أهم دولة عربية من مركز الصراع، وفتحت الباب على الاستفراد بكل قطر عربي كان جزءا من دائرة الصراع، فضلا عن الجانب الفلسطيني، وﭐذكر بدلا من ذلك أنك هنا أيضا قد فوَّتَّ فرصة أخرى لتحصيل ما لم تعد قادرا على تحصيله الآن.تفويت الفرص׃ هذه هي العبارة السحرية التي تصرف التهمة عن الجلاد وتردها إلى الضحية. فما ﭐل إليه حال الضحية لا يتحمل مسؤوليته إلا الضحية نفسها التي أبت أن تقر بالأمر الواقع وتكيف مطالبها وفق شروطه التي يصنعها الخصم وحده منفردا، واعتصمت بدلا من ذلك بالأحلام والأوهام عن الحق والعدل والمقاومة والثورة والجهاد والتحرير والتغيير والوحدة والنهضة ومواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني، ووصمت أصحاب السياسات الواقعية العقلانية بصفات التخوين والعمالة والخضوع والإذعان والاستسلام.

 

ولا تسل هنا: كيف يمكن الجزم حسب رواية تفويت الفرص بأن إسرائيل كانت مستعدة دائما منذ قيامها للامتثال لقرارات الشرعية الدولية لولا تفويت العرب لتلك الفرص التاريخية؟ ولا تُذكـّّـر بكل تلك القرارات الدولية التي تجاهلتها إسرائيل فضلا عن تهربها من استحقاقات أوسلو وتجاهلها أخيرا للمبادرة للعربية؟ فلعل هذه قد وصلت متأخرة فجاز لإسرائيل أن تنبذها وراء ظهرها.؟

 

حسب هذه الرواية التي تتوسل الحكمة بأثر رجعي، فإن على الشعب الذي يُغتصب وطنه ويطرد منه إلى المنافي أن يذعن لإملاءات هذا الواقع ويرضى بما قسم له مهما كان مجحفا، ويفك ارتباطه بوطنه وذاكرته التاريخية وجذوره، دون مقاومة، لأنه كان عليه أن يستشرف المستقبل، ليرى أحلامه المنكسرة بعد ستين سنة، وليعلم مسبقا أن واقع الاغتصاب الجديد سوف يبقى هو الواقع ذاته بعد ستين سنة، وربما إلى الأبد. فإذا كان كذلك، فَلِمَ يطيل معاناتـَه وعذاباتِه ويورط الآخرين معه؟ فليكن منذ اللحظة الأولى ما سوف يكون بعد عقود متطاولة من المآسي والمنافي والقتل والتشريد والتجويع والتركيع.

 

التحرير ممكن إلا.. في فلسطين

 

وإن كان ثمة أوطان أخرى في العالم قد تعرضت للاحتلال ثم كافحت وغيرت شروط الواقع حتى نجحت أخيرا في تحرير أراضيها فإنها لا تصلح مثالا يتأسى به الفلسطيني.. فالتحرير ممكن في كل التجارب التاريخية إلا في تجربة الفلسطيني، وإن كان جزءا من أمة عربية تَعُدّ مئات الملايين، كانت القضية الفلسطينية قضيتها المركزية بقدر ما هي قضية الفلسطيني، وكانت تنظر إلى المشروع الصهيوني باعتباره جزءا من مشروع الهيمنة الاستعمارية الامبريالية على مجمل الوطن العربي، وفي المقابل ترى أن مشروع التحرير ينتظم في مشروع التحرر والنهوض العربيين، ثم ترى أن لهذا المشروع المزدوج الذي يتشارط فيه هدف التحرير مع هدف التحرر والنهوض، عمقا إسلاميا يمتد إلى أكثر من مليار مسلم، ثم عمقا إنسانيا في جبهة تحررية عالمية تتسع لأكثر من نصف العالم.

 

كان على العربي وهو يستقبل النكبة عام 1948 أن يتجاهل كل هذه الاعتبارات فيذعن لواقع الاغتصاب ويرضى بما قسم له الواقع المؤبد، ويعلم مسبقا أن التحرير ممكن في كل تجارب الاحتلال والاغتصاب إلا اغتصابا تقترفه الصهيونية، فهذه خارج حسابات التاريخ، ولا تقاس بأي مثال آخر. بل يُنهى الفلسطيني حتى عن التأسي بعدوّه الذي مر بفلسطين قبل آلاف السنين كالكلام العابر، ثم خلق من أساطيره القديمة مشروعا دمج نفسه بالمشروع الاستعماري الغربي مكنه أخيرا من اختلاق شعب ووطن، على حساب شعب ووطن. أما في الحالة العربية الفلسطينية فتكفي تسع عشرة سنة هي الفاصل بين الاغتصاب الأول عام 1948 والاحتلال الثاني عام 1967 لكي نطالَب بنسيان الضائع الأول، إن كنا نرجو أن نسترجع الضائع الثاني، ونُدعى إلى إعادة تعريف القضية الفلسطينية وموضوع الصراع والأراضي المحتلة، ثم تكفي عشرون أو ثلاثون سنة أخرى كي نطالَب من جديد بأن نسقط من معجمنا مفاهيم المقاومة والجهاد والتحرير وخيار السلاح والحق والعدل، ونقنع بدلا منها بخيار السلام الإستراتيجي الأوحد تحت مظلة الراعي الأمريكي الذي يمثل الخصم والحكم معا، ويمتلك تسعاً وتسعين بالمائة من أوراق اللعبة، ويحتكر مع الحليف الإستراتيجي الإسرائيلي تعريف المشكلة وأبعادها وحدودها وشروط حلها بوصفها قضية حقوق متنازع عليها يقتضي حلها تنازلات مؤلمة متبادلة من الطرفين، أحدهما يتنازل عن شيء مما لغيره، والأخر يتنازل عن الكثير مما بقي له، فإن لم يفعل وقع من جديد في خطيئة تفويت الفرص التاريخية، حتى لو كانت الفرصة المتاحة تسقط حق العودة وتحتال على موضوع القدس الشرقية بصيغ مضللة، وتقطع أوصال الدولة المنشودة العتيدة وأراضيها بالمستوطنات الإستراتيجية، وتقضم من حدودها وسيادتها.

 

وفي هذا السياق، نُستدرج إلى تقديم مفهوم "الدولة" على مفهوم "الوطن"، ويختزل الحلم الفلسطيني في حق الفلسطيني في أن يعبر عن هويته الوطنية في دولة ما، لا في تحرير وطنه واسترجاع حقوقه في إطار وطنه العربي. وهذه نتيجة منطقية لفك الارتباط بين القضية الفلسطينية وعمقها العربي، بين هدف التحرير وهدف التحرر والنهوض العربيين؛ وهو نتيجة منطقية لتكريس واقع التجزئة القطرية العربية والاستفراد بكل قطر على حدة، وإزاحة القضية الفلسطينية عن مركزها القومي، حتى ﭐختُزل الدور العربي من كونه في مجموعه طرفا في الصراع مع المشروع الصهيوني الذي ينتظم في المشروع الإمبريالي الشامل ضد الأمة العربية، إلى أن يكون في أحسن الأحوال مساندا للشعب الفلسطيني ومؤيدا لحقوقه، وربما ارتضى أحيانا أن يكون وسيطا محايدا بين طرفي الصراع والتنازع׃ إسرائيل والفلسطينيين.

 

وربما انحط أحيانا إلى مستوى الضغط على الجانب الفلسطيني لقبول العروض الأمريكية الإسرائيلية، واتهام المقاومة، والمشاركة في الحصار، وذلك كله ينسجم مع الموقف الأمريكي الذي يذكر الشعب الفلسطيني في كل آن أن انسياقه وراء تيارات التشدد والتطرف والعنف التي تصف نفسها بالمقاومة، لا يفضي إلا لتطاول معاناته وتعطيل مشروع دولته؛ فالدولة هي الغاية حتى لو كان ثمنها التنازل عن جل الوطن والحقوق التاريخية وحرمان ستة ملايين لاجي فلسطيني من حقهم في العودة.

 

دعوة صريحة إلى الاستسلام

 

البديل عن ذلك حقوق أقل، في فرصة أخرى، في زمن آخر، إن كانت ثمة فرصة أخرى. ودع عنك القول׃ هذا هو الإذعان والخضوع والاستسلام في جوهره، فتلك أحكام أخلاقية لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا مكان لها في فضاء السياسة العقلانية الواقعية، وهي تنتمي إلى معجم الشعارات الثورية التي لم تجلب علينا إلا الكوارث. وإن شئت أن تلح على معنى "الاستسلام"، فليكن؛ الاستسلام، نعم. ومن قال إن "الاستسلام" موقف مرفوض مرذول؟ هكذا يذكرنا أحد الكتاب الصحفيين في إحدى كبريات الصحف العربية بعنوان ينقل معركة المعاني والخطابات والروايات إلى مداها الأخير، فهو لا يدعونا إلى إسقاط هذا المعنى من معجم التوصيفات السياسي، وإنما يدعونا إلى إعادة تعريفه وشحنه بدلالات جديدة، ثم تبنيه والاحتفاء به بوصفه السبيل إلى تحرير العقل السياسي العربي من آخر الأوهام الثورية البائسة.

 

كان ثمة حرب خضنا