خبر المفكر العربي علي عقلة عرسان يكتب في أدب المقاومة والتمرد والحرب « 2 »

الساعة 03:58 م|27 فبراير 2009

الحياة مقاومة للموت ولكل ما يشكل موتاً في الحياة من فساد وانحلال وضمور قيم وضمائر ومسؤوليات وملكات.

الحياة مقاومة مستمرة، والفكر والأدب، في بعض الأوقات والحالات، نسغ تلك المقاومة الذي يسري في شعاب القلب والروح ليبعث الحيوية ويجدد الحياة ويحرّض على فعل المقاومة.

وحين يتعرى القلب، وتتشقق جذوع الروح، وتقف هيكلاً عظمياً باهتاً مرمدّاً يقاوم الهلاك والتهالك والتهافت والسقوط، يسري سحر كلمة صادقة منقذة ليبدع الحياة ويبعثها إرادة حرة متوثبة، ولينعش هيكل الروح فيخضرّ ويخضَلّ ويزدهر ويقبِل على ما في الكأس من بقية، حتى وهو يغالب ترسبات الحنظل فيها.

والأدب روح تمرد، وامتداد مقاومة من ضفة الثورة على الجمود والتخلف والظلم والقهر إلى ضفة الاستشهاد تمرداً ومقاومة واستشهاداً من أجل العقيدة والهوية والانتماء والحرية والكرامة والعيش في ظل أمن من جوع وخوف.

ولو تلمّسنا في الأدب الرفيع والإبداع الذي يستحق اسمه، معالم الأهداف والمعاني والدلالات، لما وجدنا إلا مواقع القيم ومقوماتها مما يسترعي الاهتمام ويشكل خريطة الإبداع الحق.

ومنظومات القيم في الأدب تكاد تشكل أهم مقوماته، من قيم الخير والحق والعدل والحرية إلى قيم الجمال والبديع والبيان الساحر والمنطق المسكوب حكمة وتعقلاً، وما تمثله المتعة العالية من حضور في قلب وعقل وروح تشكل السعادة لها هاجساً وتطلعاً وأملاً.

وحين نحصر مفهوم المقاومة ونضيق دلالتها لتتحدد في كفاح إرادة: فردية أو جماعية.. وطنية أو قومية أو إنسانية شاملة، بكل الأسلحة والأدوات والوسائل والإمكانيات المتاحة، ضد الاستعمار والاحتلال والعدوان والقهر والإذلال والظلم والاستلاب والسُّلَط الجائرة والاستغلال والممارسات المغلوطة للديمقراطية أو المتاجرة بها، والإساءات لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية أو تحويلها إلى سلْعة سياسية، فإننا نجد حضور الأدب طاغياً وموقعه متقدماً ودوره رائداً، سواء أكان ذلك في إيجاد الوعي بالحالة وتطوير ذلك الوعي إلى مواجهة واعية لأهدافها ووسائلها وأساليبها، أم في الانتقال من حالة الوعي والإدراك لواقع وطبيعة مواجهة إلى حالة الصدام والقتال والتضحية والاستشهاد وصولاً إلى الأهداف التي حددها الوعي وتنشدها الإرادة الجمعية أو الفردية داخل الوطن أو في مواجهة وطنية لقوى القهر والاحتلال والاستعمار الاستغلال والاستلاب.

وإذا كانت المقاومة شرف الحياة ودليل حيويتها وتجدد الأفق المعرفي فيها فإن الأدب الرفيع الذي يعزز موقع المقاومة ويُستَنبت في بيئتها ويتغذى من نسغها، يشكل إكليل غار على مفرق هامة الإبداع الحق المنتمي لأمة وقضية عادلة ومبادئ سامية وقيم رفيعة.

في البدء كان الكلمة، وكان من أجل الإنسان، والإنسان قيمه وأمنه وإبداعه وسلوكه الحضاري ومعاييره السليمة.

والكلمة مسؤولية وموقف وأمر واضح بمواقف جريئة وصريحة.. اقرأ ليست غاية.. إقرأ بداية ووسيلة على طريق الغايات.. فنحن لم نخلق عبثاً، ولم نكلف رَهقاً، ولم نؤمر بالمعرفة ترفاً، وإنما جاء ذلك كله في سياق الحياة ومن أجلها لننهض بالعلم وتطبيقاته، ولنقوم بخير الجهاد: كلمة حق في وجه سلطان جائر ولنجسد المعرفة والإيمان سلوكاً، فالدين المعاملة. وكل نوع من أنواع الجهاد في الذود عن الوطن والأمة والعقيدة والهوية والحياة الشخصية والبيت والأسرة والمقدسات والحقوق والحقائق والحريات والقيم والممارسات السليمة للديمقراطية. ومن لا يملك وعياً بذاته وحقوقه ومعاني العيش في إطار انتماء لهوية وأمة ووطن.. لا يعنيه كفاح من أي نوع من أجل ذلك، ولا يستفزه أي فعل عدواني ولا يحرضه شيء على المقاومة، ويصبح كتلة من اللحم تكرُج في شوارع المدن أو القرى. والبهيمة كتلة من اللحم تكرج في دروب الحياة أيضاً، ولكن الإنسان يسخرها لما سخرها الله له!.

وعناق المقاومة والأدب ليس عرضياً في الحياة، فهو موجود في كل تجليات المقاومة والإبداع والحياة، وليس حادثاً فيها بل يكاد يشكل تليدَها وتطلّعها ودليل وجودها الأساس. وإذا تلمسنا معارك الأمم في الأدب وجدنا طوفاناً من ذلك الإنتاج المعبر عن تلك المعارك يكاد يطغى على كل ما عداه.

فالأدب على نحو ما هو سجل المقاومة ابتداء من تمرد قلب وروح ومشاعر، وتطلعات داخل القلب والروح إلى نمط وقالب وتقليد ورؤية وأنموذج، وانتهاء بثورات الأمم وكفاحها ضد الاحتلال والعنصرية والاستعمار والاستغلال وأنواع الظلم والفقر والجوع والمرض.

وإذا كان الأدب العربي في القرن العشرين على الخصوص، يرتبط ارتباطاً عضوياً بكل معاني المقاومة والكفاح من أجل التقدم والتحرر والتفتح والانفتاح الواعي لذاته وأهدافه وللآخر وتطلعاته وطموحاته وضروراته، فإنه سجل الأمة البهي في صراعها ضد الاستعمار وانتصاراتها في معارك الاستقلال، وفي كفاحها المستمر من أجل تحرير الأرض والإرادة والقرار، ومجتلى التعبير عن الذات القومية بأصالة وعمق ووعي تاريخي وحضاري شامل. وحين تُطرح علينا أسئلة من واقع تجليات المقاومة وواقع الأدب، وتسحّ عن جنبات موقعنا أسئلة أخرى تتصل بجدوى الكلام عن مقاومة وأدب مقاوِم ومقاومَة في الأدب، في ظل المتغيرات العربية والدولية، وسيطرة الشر على القطب الأميركي المسيطر على العالم لسنوات عديدة، وزحف العولمة على الهوية والسيادة الوطنية، وتدافُع الدول العربية وما كان يشكل طلائع مقاومة للعدو الصهيوني من أجل تحرير فلسطين، تدافُع أولئك على طريق نحر المقاومة وتقديم الشهداء والذاكرة القومية والأهداف الوطنية قرابين على مذابح الولاء للاحتلال والدولار والأشرار، والاعتراف بالعدو الصهيوني وتطبيع العلاقات معه والسكوت على جرائمه واستيطانه وتهويده للقدس خاصة وفلسطين عامة، وتقديم القدس بكل تاريخها ومعانيها ودلالاتها عاصمة له كي يرضى ويطمئن ويفسح لنا "في المجال لكي نحقق تقدماً وتطويراً يتوقف عليهما وجودنا وحل أبسط أزماتنا" كما يقول، ويقول المروجون له والعاملون على تحالفات خفية معه ؟! فإن من حقنا أن ندهش ولكن علينا ألا نتنكر لتلك الأسئلة تحت وقع استنكار طرحها أو نتجاهل وجود سائليها، فلقد قُيّض لنا من جسدنا جراثيم قوة تفتك بنا. وتجاهل ذلك لا يَجُبّ وجود الداء ولا يلغي أدوات الأعداء وأساليبهم ولا ضرورة البحث عن أجوبة شافية ربما كانت هي الدواء على ما فيه من حنظل. ومن تلك الأسئلة:

هل العصر عصر مقاومة، وأدب مقاوم؟!

أقول نعم.. إنه عصر المقاومة بامتياز وعصر الأدب المقاوِم الذي يوقظ في أمة منهارة روح المقاومة بالبيان والمنطق والوعي وتقديم الأنموذج واستلهام التضحيات والبطولات ليتسامى الأدب ويساهم في تقديم أنموذج أفضل وأرفع وأقوم للأداء القومي والإنساني في ظروف معينة، وترسيخه ورفعه أمام الأجيال منارات وقدوة. ولا يوجد عصر بلا مقاومة وتحريض عليها وتعبئة من أجل تحقيق غايات وأهداف سامية تستدعيها، ولا يوجد أمة من دون حاجة متجددة للمقاومة ولمن يخوضها وينادي بها وينصرها ويُمِدّها بما تحتاج إليه. ونحن أمة مبتلاة اليوم بكثرة من يروج للانحلال والاحتلال تحت ذرائع ومسميات شتى، ومن يروج لمقولات الأعداء بأساليبهم ومنطقهم وذرائعهم، ولا يرى أو لا يريد أن يرى ما يقوم به العدو الصهيوني يومياً من جرائم تمر من دون عقاب، ويدفعه ذلك لارتكاب المزيد من الجرائم، ما دام الدم العربي لا يكلف شيئاً، والكلام العربي لا يعني شيئاً على أرض الواقع، وهناك من يحميه من المساءلة والعقوبة، ويعلن أنه سيجعله قوة متفوقة، ويحمي أمنه في كل الظروف!؟ ولا يريد أن يرى صلف الأميركي وعدوانه وفظائعه واستهدافه المستمر للعقيدة والهوية والقيم، ودعمه المطلق للعدوان الصهيوني ولمشروع الصهاينة في القدس خاصة في أرض العرب عامة، ولكل من ينخر الإرادة العربية ويصطف مع الأعداء ضد الأمة.

والأمم تقف على أعتاب مبدعيها ومفكريها وقادتها الروحيين والميدانيين حينما تعصف بها الحوادث وتغشاها الخطوب وتأخذها دوامات السياسة وتصاب باضطراب الرؤية أو باضطراب الروح.. ولا تقف أبداً على أبواب المنحلين والمتخاذلين والعملاء ودعاة الانحلال والضائعين المضيعين ممن يصعِّرون خدودهم للناس بتعال مريض وغطرسة كريهة وجهل متعالِم.

الأمم يوقظها حُداتُُها من سباتها وسهواتها وينتشلونها من كبواتها لأنهم يشعلون الحرائق في أوردتها وشرايينها لتحرق لنار العفن ويجدد الحريق وهجُ الأعماق ورؤيةَ الأحداق وعصف العقول وحيوية الأرواح، ويجدد قدرة الفرد الأمة على الاستشراف والإدراك بالبصائر والأبصار.." فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".

والأمم حين يفسد فيها معيار القيمة وقيم السلوك تفسد فيها الحياة، ويُضَخُّ في دروبها ما يجعل سيرها تخبطاً في طين زلق وفكر معوّق لزج هجين ومشوش.. حينذاك تحتاج إلى أجنحة الشعر، وإرادة الفكر، وسحر النثر، وشرف الكلمة، ونقاء الشهادة، وأصالة الانتماء، لتتجاوز المفاوز الخطرة والمهالك المنتشرة في دروبها.. وربما كان أخطر ما يمكن أن تواجهه في هذه الحالة فساد الكلمة وفساد رؤية أهلها في حال فسادها وفساد أهلها، وتسخير القلم والعقل للتثبيط والتشويه والتيئيس.

فالأدباء حين لا يضلون ولا يضلِّلون يكونون قناديل السائرين في الظلام، والمفكرون هم بصائر الأنام في شدة الأيام وحلكة الليل، والشعب يحتاج إلى قناديله وبصائره ليصب طاقته في تيار خلاص حقيقي، وفق رؤية صحيحة كشَّافة، وخطط يبدعها الانتماء المسلح بالوعي والعلم والإيمان.

ـ إن الضخ الإعلامي والثقافي المعادي يريد أن يقنعنا بنهاية الأدب المقاوِم، بل بموت كل ما كتبناه من أدب على طريق المقاومة وقضية فلسطين والصراع العربي الصهيوني، ودروب التحرير، ومقاومة الاستعمار، يريد أن يميت رموزنا الوطنية والقومية في ذاكرتنا وفي وجداننا، يريد أن يسحق عمر المختار وسعد زغلول وعبد الكريم الخطابي ويوسف العظمة وعز الدين القسام وأحمد ياسين وفتحي الشقاقي.. إلخ ويقضي على تأثيرهم ويدفن ذكرهم، ويريد أن يميت الخالدين في تاريخنا القديم والحديث، ويشوه صورة العروبة والإسلام وقيمهما، وأن يقنعنا بنهاية التاريخ أو بنهاية هذا النوع من التاريخ.. تاريخنا نحن ليبقي تاريخه هو، لأنه بفعل ما يوحيه ويسعى إليه يريد أن يقدم مقاومتَنا فعلاً ضاراً على نحو ما بمصالح الشعب الفلسطيني والعراقي والأمة العربية كلها، متناسياً مقاومة الجزائريين والليبيين والسوريين والسودانيين والمصريين ضد الاستعمار الأوربي وما صنعته تلك المقاومة من تحرير، ومتناسياً منارة المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان التي قادت إلى التحرير وصنعته وجعلت العدوان والعنصرية الصهيونيين في حالة هزيمة نكراء على أرض لبنان، وما تقوم به المقاومة الفلسطينية والعراقية اليوم من بطولات من أجل الحرية والتحرير والكرامة ودحر العدوان واستنهاض الأمة.

ويريد أن يوحي لنا بأن ما كنّاه في ذلك الإنتاج الأدبي والفكري انتثر هباء كريش طائر أبيض في كابوس ليلي كئيب، نقضه ونفضه صحو مفاجئ؟ وما علينا إلا أن نغير المسار والاهتمام والأهداف والمواضيع، إذا أردنا أن نكتب "إبداعاً" يبقى من بعدنا أو ينتشر أبعد من ظلال أجسامنا وشمرخة أوهامنا؟!. وأعلام ذلك الاتجاه ورموزه يدعوننا إلى ما يسمونه "ثقافة السلام" التي هي بديل "لثقافة الحرب" على حد تعبيرهم، تلك التي "نضرم نحن" أوارها ونبقى أسرى من مات وورثة كراهية.. كما يدعون، ويدعوننا أيضاَ إلى إعادة النظر بمناهج تربية وتعليم، وبقيم عقيدة ومقوماتها وأسسها ومرجعياتها وأحلام أمة وتطلعاته.. " لنقضي على ما يدعونه إرهاباً" وما يكوِّن الإرهاب.. أي المقاومة ضد المحتل والدخيل والعميل؟ وهم يمارسون أسوأ أنواع الإرهاب حين يحتلون ويدمرون ويقتلون ويهجِّرون ويتطاولون على ثقافات الأمم وعقائدها ومقدساتها ورموزها الدينية الوطنية والقومية، وعلى قيم الإيمان والأخلاق والسلامة الروحية والنفسية والاجتماعية لديها.

ومعنى هذه الدعوة أن يتخلى الأدب عن كل ما يتصل بالاستقلال والحرية والهوية والقومية والعقيدة الدينية.. عن الخصوصية وتفاصيلها، وعن كل ما يتصل بفلسطين وبالصراع العربي الصهيوني، وعن مجد المقاومة وأهميتها وضرورتها ومسوغاتها، وعما أنجزته وما يمكن أن تنجزه تلك المقاومة في تاريخ الشعوب.. ومعناه مسح كل ما تراكم في الذاكرة والوجدان العربيين من وقائع وحقائق تتصل بذلك، والعمل على إعادة تشكيل الذاكرة والوجدان العربيين وملئهما بمعطيات الواقع الرسمي الحالي الفاسد الذي فيه الكيان الصهيوني قوة قاهرة ستبقى ـ كما يوحون ـ مسيطرة مع حليفها الأميركي على الأوضاع إلى الأبد، ألا جدوى من الإعراض بأي شكل من أشكاله، في المقدمة من ذلك المقاوَمة المسلحة.!؟ وتلك من وجهة نظرهم قضية واقعية وواقعية سياسية، ولكن الحقيقة أنه تكمن وراء ذلك التوجه قوة همجية تريد أن تجعل من ذلك معطيات عادلة ونهائية، ينبغي "أن يقبلها العقل العربي ويُقبل الأدب العربي على التعامل معها بواقعية، ويروج لها ويتبناها منطق عصر وحياة"، واقعية انهزامية تتصدى للواقعية التفاؤلية التي يعمل من أجلها الأدب المنتمي لقيم ونضال وشعوب وقضايا عادلة؟.

ونحن مطالبون من مواقعنا وواقع اختياراتنا ومسؤوليتنا التاريخية والخلقية بالتعامل مع هذه التحديات والرد على هذه الأفكار والآراء التي تتناقض كلياً مع واقع الحياة ومنطقها ومعطياتها عبر التاريخ البشري المديد الذي يحمل التغيير ويقوم عليه ويعي ضرورته ودروسه، ومع عدالة قضية فلسطين وبعدها القومي والإسلامي والإنساني وما تمليه من مسؤوليات عربية على لخصوص توجب الاستمرار في المقاوَمة والحشد لها، ونصرتها، والتحريض على ممارستها واستلهامها، والتذكير بالصراع العربي الصهيوني وأسبابه وتفاصيله وأهدافه النهائية، حتى تتكون مقومات القوة التي تصنع التحرير وتحسم صراع الوجود الذي يخوضه العرب مع عدوهم الصهيوني، لمصلحتهم هم وليس لمصلحة عدوهم والمهزومين روحياً وإرادياً منهم، مهما طال الصراع وامتد زمنه واشتد أواره.

 

دمشق في 27/2/2009