خبر مراجعة تجربة العمل الوطني الفلسطيني .. عبد الإله بلقزيز

الساعة 11:23 ص|23 فبراير 2009

بقلم: عبد الإله بلقزيز

 بعد اغتصاب الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 - 1990) وتبديد نتائجها السياسية في “مؤتمر مدريد” (1991) ومفاوضات واشنطن (1992 - 1993) و”اتفاق أوسلو” (1993) وبعد خمسة عشر عاماً من قيام سلطة الحكم الذاتي (1994) وإخفاق التسوية وانهيار حلم الاستقلال الوطني من طريق التفاوض الذي لا ينتهي، وبعد خمسة أعوام من دخول “حماس” في النظام السياسي الفلسطيني - الذي احدثه اتفاق “أوسلو” - والمشاركة في مؤسساته “التشريعية” والتنفيذية والأمنية، وبعد عام ونصف العام من الانقسام الداخلي الرهيب الذي بلغ حدود الصدام المسلح وأفضى إلى تقسيم السلطة والفصل بين القطاع والضفة، بعد كل هذا الخراب العظيم وهذه المتاهة، المخيفة التي ولجها المشروع الوطني الفلسطيني، آن الأوان لفتح مناقشة فكرية ومراجعة سياسية عميقة للخيارات البرنامجية التي قادت هذا المشروع إلى المآلات المأساوية التي نعاينها جميعاً خلال كل هذه السنوات العجاف، وهي مآلات يخشى ألا تكون مطافاً أخيراً لحالة التراجع والانحدار، وأن يكون ما بعدها أسوأ مما قبلها.

لن يكون في وسع أحد من قوى العمل الوطني الفلسطيني أن يدافع عن “وجاهة” خياراته السياسية في هذه الحقبة العجفاء، أو أن يلتمس لنفسه عذراً عما أتاه من مواقف ساهمت - مباشرة أو من طريق غير مباشر - في تفسيخ الحالة الوطنية الفلسطينية. وإذا كانت مقادير المسؤولية تتفاوت تبعاً للقرب أو البعد من مواقع القرار، فإن التفاوت هذا لا يحصر المسؤولية في صاحب المقدار الأعلى منها، ولا يسقطها عمن يدنوه كثيراً أو قليلاً في المقدار منها، فالجميع شريك فيها: من سطر السياسات الخاطئة وأنفذها في المؤسسات الوطنية، ومن شايعه وأيده، ومن عارضه ثم لحقه في الخيارات، وهي شراكة ترتب على الشركاء مسؤولية وطنية وسياسية وأخلاقية في استدراك حال التفسخ المتمادية، ومعالجة أسبابها، وفي قلبها مراجعة الخيارات التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى هذا النفق الحالك والمسدود. وليس غير القوى الوطنية الفلسطينية يستطيع أن يضع الأسس لمعالجات سياسية فعالة لهذه الحال من الانسداد التي زج بالمشروع الوطني فيها، فهي من قاد الشعب في معركة التحرر الوطني، وهي من رسم خريطة المعركة ووجهتها وخطط لأهدافها ومراحلها، وحدد أدواتها فرجح بعضها على بعض احياناً ورجح أخرى على غيرها أحايين ثانية، وكل مكسب أحرزه شعب فلسطين وكل خسارة منيَ بها إنما هما مما كان لفصائل الثورة وأحزاب السلطة سهم فيه.

على أن من بداهات الأمور، في مثل هذه الحال، أن تستند المعالجات السياسية التصحيحية أو التقويمية - التي على الفصائل وحدها أن تنهض بها في أطرها التنظيمية الداخلية (الفصائلية) ابتداءً ثم في أطرها التنسيقية والوطنية الجامعة - إلى رصيد من الأفكار والرؤى والتصورات لا يمكن ان يوفره إلا عمل فكري يقوم به مثقفو الحركة الوطنية الفلسطينية، سواء من ارتبط منهم بفصائل ارتباطاً سياسياً وتنظيمياً مباشراً، أو من طريق غير مباشر من خلال التزامه قضية شعبه ومشروعه الوطني للتحرر والاستقلال. فالمراجعة لا تصير سياسية إلا متى بدأت فكرية، أي متى انصرفت إلى إعادة صوغ الأسئلة وفحص الفرضيات السابقة، ونقد اليقينيات التي ثبت بطلانها في مختبر الواقع والتجربة التاريخية، والتوسل بخبرات الشعوب وحركات التحرر الوطني الحديثة والمعاصرة والاتعاظ بدروسها توطيناً للمكتسبات وتجنباً لأخطاء وقعت فيها ونكسات، وعندي أن هذه الورشة الكبيرة من العمل لا يقوم بها السياسيون - بما هم يديرون الصراع - ولا تقوى عليها إمكانياتهم النظرية، وإنما هي مما يقع ضمن مشمولات عمل المثقفين الملتزمين بقضية التحرر الوطنية، وأسوأ ما قد يصيب حركة تحرر أن تنقلب فيها الموازين والأدوار، فيقوم فيها السياسيون - مثلاً - بما على المثقفين أن ينهضوا بأمره، أو يمارس فيها المقاتلون دور القادة السياسيين وأخشى أن شيئاً من ذلك حصل في الحركة الوطنية الفلسطينية حين احتكر السياسيون وظيفة التنظير وصياغة الرؤية فانتهى الأمر إلى لا تنظير ولا رؤية.

على أن هذا الواجب الفكري (المراجعة) ليس واجب المثقفين الفلسطينيين حصراً، بل هو يشمل المثقفين العرب أيضاً، خاصة من ارتبط منهم بقضية فلسطين، وهؤلاء ليسوا عن المسألة بمبعد، ولا هم عليها متطفلون أو طارئون، فإلى أنهم التزموها على الصعيد الشخصي (الفكري والعاطفي)، أو على الصعيد المؤسسي (أحزاب، جمعيات مساندة وتضامن)، فإن قضية فلسطين قضية عربية في المقام الأول، وليس هذا الكلام من الشعر أو من رطانة الديبلوماسية الزائفة، وإنما هو إلى الحقيقة أشد اتصالاً، فاحتلال فلسطين هدد بلاد العرب جميعاً في أمنها وقوتها وتقدمها الصناعي والعلمي ووحدتها القومية. و”إسرائيل” ما أرادت من اغتصابها فلسطين أن تقيم “وطناً” ليهود العالم على حساب السكان الأصليين فحسب، وإنما أرادت هذا “الوطن” نواة دولة اقليمية عظمى تحكم “الهوامش” العربية المحيطة.

ماذا نسمي “نظام الشرق الأوسط”، إذن، إن لم نسمه باسمه الحقيقي: نظام المركز الصهيوني والأطراف العربية؟! إن أي انتصار تحرزه “إسرائيل” في فلسطين، تحرزه على العرب أجمعين، وواجب المثقف العربي - حتى إن كان وطنياً شديد التعصب لوطنيته على عروبته الأوسع - أن يقف في خندق الدفاع عن شعب فلسطين وحركته الوطنية، لأنه عينه خندق الدفاع عن وطنه الصغير في لبنان أو الأردن أو مصر أو اليمن أو المغرب.

وما أغنانا عن القول إن المراجعة الفكرية المطلوبة من المثقفين - فلسطينيين وعرباً - لأوضاع العمل الوطني الفلسطيني ومآزقه الراهنة إنما تفترض درجة عالية من الموضوعية في النظر، ومن الحيادية تجاه أطراف الصراع الفلسطيني الداخلي، ومن النزاهة والعدل في إصدار الأحكام في الأحداث والمؤسسات والأشخاص، وإلا ما كانت مراجعة ولا قابلة لتوليد رؤية مستقبلية للعمل الوطني.

وفي هذه الحال من فقدان الضوابط والقواعد الموضوعية للمراجعة، يمكن وصف أية نظرة إلى معضلات العمل الوطني بما هي مرافعة تبريرية لا نتيجة لها سوى تكريس حالة الانسداد.