خبر فهمي هويدي يكتب: اختبار الارتفاع فوق الجراح

الساعة 06:55 ص|17 فبراير 2009

فهمي هويدي

 

الاتفاق حول التهدئة يسمح بتجاوز أزمة التفاهمات الإسرائيلية الفلسطينية، الأمر الذي يفتح الباب للتعامل مع معضلة التفاهمات الفلسطينية الفلسطينية.

 

(1)

 

 

كان من الضروري أن تنفك عقدة التهدئة أولا لكي ينفتح الباب الموصل إلى الملفات الملغومة الأخرى. وهي مهمة لم تكن سهلة، أولا، لأن مصطلح التهدئة ذاته جديد، وليس له أي مدلول قانوني وإن شئت فقل إنه وصف سياسي، ليس هدنة ولا فض اشتباك ولا وقفا لإطلاق النار، ولكن فيه إشارات من ذلك كله.

 

ورغم أن التهدئة في مدلولها اللغوي تعني السكون، فإن ذلك لا يكفي في ضبط المصطلح، لأن الباب يظل مفتوحا للتساؤل عن شروط ذلك السكون، والتزامات أطرافه، والأجل الذي يمكن أن يمتد إليه، ويزيد من صعوبة الموقف أن طرفي التهدئة في الموضوع الذي نحن بصدده لا يعترف كل منهما بالآخر، والطرف الأقوى عسكريا -وهو إسرائيل- لا يجد غضاضة في أن يواصل عملياته ضد الطرف الآخر، كلما عنّ له ذلك. وهو ما حدث في تهدئة الأشهر الستة الأخيرة، التي انتهت في 19 ديسمبر/كانون الثاني الماضي، حيث توقفت فيها حماس عن إطلاق صواريخها على إسرائيل، في حين استمرت الأخيرة في عمليات قصف القطاع وتصفية المقاومين.

 

وقد أدرك الفلسطينيون من تلك التجربة أن إسرائيل أرادتها تهدئة تكبل أيديهم، في حين تطلق يد الإسرائيليين. وكانت تلك هي الخبرة التي دفعت ممثلي حماس في المفاوضات الأخيرة إلى التشدد في التعرف كتابة على استحقاقات التهدئة ومحتواها وضماناتها.

 

وهذه الرغبة هي التي أسهمت في إطالة أمد الاتفاق حول الموضوع، خصوصا أن الإسرائيليين أرادوا لاتفاق التهدئة في البداية أن يكون عودة إلى الوضع الذي كان سائدا قبل 19 ديسمبر، المتمثل في وقف إطلاق الصواريخ مع استمرار الحصار. وقد أضافت إليه الحرب هدفا آخر هو إنهاء سلطة حماس على القطاع.

 

وليس سرا أن هذا الهدف الأخير كان محل ترحيب من جانب جماعة السلطة في رام الله، كما رحبت به بعض الأطراف العربية التي اعتبرت أن نجاح حركة حماس في انتخابات عام 2006 أثار قلقها لأسباب معلومة، كما سبب لها صداعا أرادت الخلاص منه.

 

(2)

 

 

الحرب أتت بما لا يشتهون، إذ قلبت الحسابات وغيرت إلى حد كبير المعطيات الموجودة على الأرض، فصمود المقاومة في غزة أفشل مخطط إسقاط حماس، وجعلها تخرج من الحرب أقوى مما كانت عليه.

 

لا أقصد القوة العسكرية، لكنني أعني أنها أدت إلى رفع أسهمها وتعزيز موقفها في الساحة الفلسطينية. تجلى ذلك في استطلاع أعلنت نتائجه يوم 5/2 الحالي أجراه مركز القدس للإعلام والاتصال في رام الله الذي يديره الوزير السابق الدكتور غسان الخطيب، إذ كشفت تلك النتائج عن مؤشرات مهمة، منها ما يلي:

 

* إن نسبة الذين يختارون حماس إذا أجريت انتخابات جديدة ارتفعت من 19% إلى 28.6%، في حين انخفضت نسبة ناخبي فتح من 34% إلى 27.9%.

 

* إن شعبية حماس في الضفة ارتفعت من 12.8% في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى 26.5% في آخر يناير، كما ارتفعت نسبة الذين يثقون في السيد إسماعيل هنية رئيس الوزراء المقال من 12.8% إلى 21% في حين تضاعفت شعبيته في الضفة من 9.2% إلى 18.5%. وفي الوقت ذاته انخفضت نسبة ثقة الناس في الرئيس محمود عباس من 15.5% في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى 13.4% أخيرا.

 

* تبين أن الحرب زادت من نسبة مؤيدي العمليات العسكرية ضد إسرائيل، إذ ارتفعت نسبة المقتنعين بأن الصواريخ المحلية تنفع الأهداف الوطنية الفلسطينية من 39.3% في أبريل/نيسان الماضي إلى 50.8% في الوقت الراهن. أما الذين رأوا أن تلك الصواريخ تضر بالمصالح الفلسطينية فقد انخفضت نسبتهم من 35.7% إلى 2.08%.

 

ورأى 46.7% أن حماس هي الطرف المنتصر في الحرب مقابل 9.8% قالوا إن إسرائيل هي المنتصرة، واعتبر 37.4% أن الجانبين لم يحققا انتصارات.

 

* تبين أن أهل الضفة كانوا أكثر دعما لحركة حماس في الحرب من أهالي القطاع الذين تكبدوا خسائر بشرية ومادية جسيمة. فقال 53.3% من أهل الضفة إن حماس انتصرت مقابل 35.2% من أهل القطاع قالوا بانتصار حماس.

 

(3)

 

إذا جاز لنا أن نلخص الأجواء التي جرت في ظلها محادثات التهدئة فسنضيف إلى تعزيز قوة موقف حماس، وتراجع شعبية أبي مازن وجماعته، النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة.

 

إذ استدعت تلك النتائج أطرافا أكثر تشددا، ليس بمقدور أبي مازن أن يتواصل معها. الأمر الذي وضعه في موقف حرج، و هو ما جعله أكثر استعدادا للتفاهم مع حماس بغير شروط مسبقة.

 

حتى إنه حين تلقى قبل أيام اتصالا هاتفيا من القاهرة دعا ممثليه إلى الاجتماع مع وفد حماس الذي قدم للتفاوض حول التهدئة، بعث اثنين من أركان حركة فتح هما أحمد قريع ونبيل شعث إلى العاصمة المصرية قبل مضي 24 ساعة، وعقدا اجتماعا في نفس يوم وصولهما مع ممثلين عن حماس استمر حتى منتصف الليل، اتفق الجميع فيه على خطوات لتهيئة الأجواء المناسبة لإنجاح المصالحة بين فتح وحماس (على رأسها وقف الحملات الإعلامية بين الطرفين وإنهاء ملف الاعتقالات والتجاوزات).

 

إذا عدنا إلى محادثات التهدئة، فسنجد أن النقطة المحورية فيها تمثلت في إصرار حماس على عدم العودة إلى أوضاع ما قبل 19 ديسمبر. ومن ثم انطلاقهم من أن التهدئة لا يمكن أن تستمر في ظل الحصار، خصوصا بعد الحرب التي قتل فيها 1300 شهيد وأصيب أكثر من خمسة آلاف، فضلا عن الدمار والخراب الذي حل بالعمران في القطاع، وهو ثمن باهظ جعل استبعاد العودة إلى الوضع السابق أمرا مفروغا منه.

 

لم يكن هناك شك في أن الطرفين بحاجة إلى التهدئة، ولكن الجدل كله أثير حول تفاصيلها.

 

في البدء تحدث الإسرائيليون عن تهدئة مفتوحة وطويلة الأمد، وعرضوا فتح المعابر الستة بنسبة 80% من البضائع التي يحتاجها القطاع. وفهم أنهم أرادوا تعليق نسبة 20% الباقية حتى يتم الإفراج عن الجندي الأسير جلعاد شاليط، وإن لم يقولوا ذلك صراحة.

 

وقد طلب الإسرائيليون أيضا إقامة منطقة عازلة حول القطاع كله بعرض خمسمائة متر بحيث يمنع على سكانه الاقتراب منها، أما طلبات ممثلي حماس فقد انصبت بالدرجة الأولى على رفع الحصار بالكامل، وفتح كل المعابر، ليس فقط لتلبية احتياجات الناس الطبيعية، ولكن أيضا لإعادة إعمار ما دمر في القطاع.

 

احتاج الأمر إلى أخذ ورد، وإلى مشاورات استغرقت وقتا طويلا بين الراعي المصري وممثلي حماس، وبينه وبين الإسرائيليين الذين حمل رسائلهم الجنرال عاموس جلعاد مسؤول الأمن والسياسة بوزارة الدفاع الإسرائيلية.

 

وفي المشاورات التمهيدية استبعد ملف الجندي الأسير، باعتبار أن لا صلة له برفع الحصار، وإنما موضوعه موصول بملف آخر يقوم على أن تبادل به قائمة من الأسرى تضم 450 شخصا محكوما عليهم بالمؤبد. لكن إسرائيل وافقت على 176 منهم فقط. وقبل الفلسطينيون على مضض تأجيل موضوع فتح معبر رفح في الوقت الراهن. وفهم أن ذلك مرهون بحل مشكلة إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي، وقد يتطلب عقد اتفاق جديد لإدارته بين الفلسطينيين والإسرائيليين ودول الاتحاد الأوروبي.

 

رفض الفلسطينيون فكرة التهدئة المفتوحة، قائلين إن ذلك مما يستحيل القبول به في بلد محتل، وتم التفاهم على أن تكون مدتها 18 شهرا. وتحفظوا على فكرة فتح المعابر بنسبة 80% خصوصا أن تلك النسبة يمكن التلاعب بها، ناهيك عن أن قياسها يواجه صعوبات جمة. وتم التفاهم على فتحها بالكامل بشرطين، الأول: أن تتولى لجنة مشتركة مراقبة ما يمر من سلع. والثاني: ألا يسمح بتمرير الخامات التي يمكن استخدامها في صناعة الأسلحة مثل المواسير والأسلاك وأنواع من الأمونيا والكيماويات.

 

وحين نوقشت مسألة المنطقة العازلة، تبين أن اقتطاع خمسمائة متر من أرض القطاع التي عرضها خمسة كيلومترات، يهدر مساحات كبيرة من المناطق السكنية والأراضي الزراعية، خصوصا أن بعضها ملاصق بشكل مباشر للحدود مع إسرائيل، ولم يقبل الاقتراح حتى بعد تخفيض الرقم إلى ثلاثمائة ثم 150 مترا، بعدما تبين أن ذلك يعني إخلاء كل حي الشجاعية وتهجير سكان نصف مدينة رفح، لذلك استبعد هذا الشرط من الاتفاق.

 

وانتهت التفاهمات إلى أن تكون التهدئة في حدود وقف إطلاق الصواريخ من القطاع، مقابل فتح المعابر الستة المؤدية إلى إسرائيل بالكامل بالشرطين اللذين سبقت الإشارة إليهما مع تأجيل موضوع معبر رفح. ولحل الإشكال البرتوكولي حول كيفية الإعلان عن البروتوكول اتفق على أن تقوم بذلك مصر باعتبارها الدولة الراعية له.

 

(4)

 

الأصعب من اتفاق التهدئة بين حماس وإسرائيل هو الاتفاق بين فتح وحماس. وليس بعيدا عن الأذهان فشل محاولة المصالحة بين الطرفين التي جرت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، لأن بيان المصالحة الذي طلب من حماس أن توقع عليه في البداية كان يفضي إلى إلغائها عمليا، وإعادة الأمر إلى ما كان عليه قبل «الحسم» الذي تم في القطاع عام 2007، بمعنى أنه كان منحازا إلى فريق أبي مازن وجماعة رام الله.

 

ولأن الوضع اختلف تماما بعد الحرب على غزة، إضافة إلى قوة الضغوط الشعبية الفلسطينية الداعية إلى إنجاح المصالحة والاحتشاد في مواجهة الوضع الإسرائيلي الذي استجد بعد الانتخابات، فقد استبعدت الترتيبات التي طرحت في مشروع المصالحة السابق، وتم الاتفاق على تشكيل خمس لجان لبحث الملفات العالقة بين الطرفين، وأضيفت إليها لجنة تمثل الجامعة العربية تكون مرجعا وحكما إذا وقع خلاف بين أعضاء أي لجنة.

 

اللجان الخمس ستبحث الملفات التالية: المصالحة- حكومة الوحدة الوطنية- إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية- الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة- إعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية.

الملفات الخمسة ساخنة، وبعضها ملتهب ولا يكاد يُرى الآن أفق للتفاهم حولها، خصوصا في مسألة الحكومة التي هي من حق حماس باعتبار أغلبيتها الكبيرة في المجلس التشريعي، وقضية تشكيل الأجهزة الأمنية التي كانت أداة الفريق الآخر في محاولة إفشال حكومة حماس من البداية.

 

كما أن فكرة إعادة بناء منظمة التحرير تقابل بمقاومة شديدة منذ أن صدرت هذه التوصية بشأنها عام 2005، لأنها قد تعني تغيير مختلف الهياكل، بما قد ينهي سيطرة المجموعة التي اختطفت المنظمة واستثمرتها لحسابها.

 

ولأن المصالح متعارضة تماما بين الطرفين فيما يخص تلك الملفات، فإن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو: إلى أي مدى سيكون كل طرف مستعدا لأن يرتفع فوق حساباته الخاصة وجراحه، بحيث يعيد للصف الفلسطيني وحدته وحيويته، بما يمكنه من مواجهة تحديات المصير المطروحة على الجميع الآن؟ لننتظر نتائج المباحثات التي يفترض أن تبدأ في الثاني والعشرين من الشهر الحالي، علها تقدم لنا إجابة وافية عن السؤال.

 

[ملحوظة: هذا المقال كتب قبل أن تتراجع إسرائيل عن موقفها يوم الأحد، الذي كان مقررا أن يعلن فيه بدء سريان التهدئة قبل منتصف ليلة الاثنين].

ـــــــــــــ

كاتب ومفكر مصري