"صفقة القرن".. المواجهة الجديدة
هيثم أبو الغزلان
لم يكن يتوقّع نظام جنوب إفريقيا العنصري أن يأتي يوم يتحرّر فيه الزعيم "نيلسون مانديلا" بعد سبع وعشرين عامًا من الأسر. ولم يتوقّع قادة الإتحاد السوفياتي السابق أن يُهزموا في أفغانستان، وتاليًا يتفكّك الإتحاد الذي كان يُشكّل أحد قطبي النظام الدولي أثناء الحرب الباردة. والسؤال أيضًا من كان يتوقّع من القادة والزعماء الذين حضروا توقيع اتفاقية أوسلو في (13-9-1993) أن لا تصل إلى نهاياتها التي رُسمت لها. بعد أن توصّلت "إسرائيل" والوفد المفاوض إلى اعتراف متبادل بحق "إسرائيل" في الوجود وبتمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني. بعدها التوقيع رسميًا على إعلان مبادئ، نص على انسحاب "إسرائيلي" تدريجي من الضفة وغزة وتشكيل سلطة فلسطينية منتخبة ذات صلاحيات محدودة، وبحث القضايا العالقة بما لا يزيد على ثلاث سنوات مثل المستوطنات واللاجئين والمياه..
وامتد الأمر إلى العام 2000 حيث ظهر فشل المفاوضات في قمة "كامب ديفيد"، في إيجاد ما يسمى حلولًا يمكن أن يقبل بها الفلسطينيون. بما يعني القبول الفلسطيني بدولة مقطعة الأوصال، وبتقسيم مدينة القدس وضم أغلبها باستثناء بعض الأراضي و"البقع" لكي تصبح تحت السيادة الفلسطينية. وكذلك ضم المسجد الأقصى (في القدس القديمة في القدس الشرقية) إلى السيادة "الإسرائيلية". وحل قضية اللاجئين بتوطينهم حيث يقيمون مع تعويضهم من خلال إقامة صندوق دولي تساهم فيه "إسرائيل" وأميركا وأوروبا، شريطة أن يتضمن تعويض اليهود الذين خرجوا من أماكن سكناهم في الدول العربية بعد قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين عام 1948، ويتضمن إعادة جزء بسيط من اللاجئين الفلسطينيين على مراحل، من دون الاعتراف "الإسرائيلي" بأي مسؤولية قانونية أو مدنية ناتجة عن تشريدهم.
لم يسكت الفلسطينيون على ذلك، بل تفجّرت انتفاضة الأقصى، وتلتها انتفاضة القدس وهبّات انتفاضية ما بينهما تؤكد استمرار الفلسطينيين في نضالهم ومقاومتهم للاحتلال الجاثم على الأرض. وفي المقابل لم يصمت قادة الاحتلال ورؤساء أمريكيون، ومنهم الرئيس دونالد ترامب الذي اعترف بالقدس المحتلة عاصمة لـ "إسرائيل"، ما اعتبرته صحيفة "هآرتس" في افتتاحيتها بأنه "إنجاز سياسي هام"، تعامل معه "الرأي العام الإسرائيلي وقيادته على أنه نقطة تحول دراماتيكية، وحتى تاريخية".. فهذا القرار وما يستتبعه يُحقق لدولة الاحتلال حلمها في جعل القدس التي احتلّتها في العام 1967، عاصمتها الموحدة والأبديّة بحسب قانون سنّه "الكنيست" في (30-7-1980)، لكن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أكّد بطلان ذلك في قراريه (476، و 478)، واعتُبر ذلك القرار مخالفًا للقانون الدولي، ومن شأنه منع استمرار سريان اتفاقية جنيف الرابعة (12-8-1949)، على الجزء الشرقي من القدس، والمتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب.
وقرار ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس هو امتداد لقرار اتخذه الكونغرس الأمريكي في العام 1990، يحمل الرقم "106"، ينص على نقل السفارة من "تل أبيب" إلى القدس المحتلة، ورغم أن اتفاق طابا الذي جرى توقيعه في العام 1995، جرى التأكيد فيه على الالتزام بعدم المساس بوضع القدس، وتأجيل بحثها إلى مفاوضات الحل النهائي، إلا أن مجلس الشيوخ الأميركي أقرّ قانوناً بأغلبية ساحقة حدّد بموجبه تاريخاً لنقل السفارة إلى القدس في موعد أقصاه أيار/ مايو من العام 1999، وحينها أعلن الرئيس "بيل كلنتون" أنه "لا يؤيد القانون ولكنه سيلتزم بتنفيذه".
إن ما يسمى صفقة القرن لا تشذ بنودها عن جوهر ما يسعى له الإسرائيلي من ضم والاحتفاظ بأكبر مساحة من الأرض الفلسطينية، بأقل عدد ممكن من أصحابها الأصليين، وتحقيق الأمن عبر نزع سلاح حركتي "حماس" و "الجهاد الإسلامي"، وتكريس القدس "عاصمة أبدية وموحدة لإسرائيل"، وإنهاء قضية اللاجئين، وضمان حدود آمنة، وانفتاح على العالم العربي والإسلامي عبر تطبيع شامل، ما يعني إنهاء القضية الفلسطينية وتصفيتها بشكل شامل.
إن إفشال كل ما سبق يتطلب تصعيد المقاومة والكفاح بكل أشكاله، واتخاذ خطوات موحدة وجادة لإنهاء الانقسام، وتعزيز الوحدة الفلسطينية، والوصول إلى برنامج وطني جامع ومتفق عليه يُخرج الجميع من "عنق الزجاجة" وعمليات تدمير مقومات القضية الوطنية الفلسطينية إلى رحاب مشروع وطني جامع يُعرّف المرحلة بمرحلة تحرر وطني ويحدد كل الوسائل من أجل تحقيق هدف التحرير؛ لأن المستقبل لا تصنعه إلا الشعوب المقاومة القادرة على تحرير نفسها، وتحرير أرضها، وخلق نموذج يليق بها وينهي الاحتلال إلى غير رجعة.